الحملات المجتمعية وثقافة الاحتفال

في مسرحٍ كبيرٍ في البقاع الأوسط في لبنان، حيث يقيم آلاف اللاجئين السوريين، حضر مائتا شخصٍ ممّن اختلطت مشاعرهم ما بين الفرح والفخر والإنجاز، لكنَّ ما جَمَعهم كان شعارًا واحدًا هو معًا ضد تزويج الطفلات. جميعُهم كانوا جزءًا من حملةٍ مُتكاملةٍ وضعت حدًّا لسرقة الطفولة وأوقفت تزويج ستّين طفلةً تحت السادسة عشرة، وتوّجت عملها بالاحتفال بكلّ فردٍ لم يكتفِ بالتذمّر من الممارسات والظواهر السلبية، بل قرّر أن يأخذ زمام المبادرة ويقود التغيير.

ملأ الحضور المقاعد وتزيّنت منصّة التكريم بـ”الآباء الشجعان” وسط التصفيق الحارّ إشادةً بقرارهم بإلغاء زواج بناتهم الصغيرات. جاء هذا الاحتفال لحملة لا تكبّرونا بعدْنا صغار بعدما وجد فريق الحملة طريقهم نحو تحقيق الهدف وقطعوا طريقًا شاقًّا لم تكُن محطّاته سهلة، لكنّه استحقّ منهم الكثير من الجهد والوقت والصبر، وأيضًا الاحتفال بإنجازهم وتبادُل التهاني.

مُمارسة الاحتفال هي فعلٌ خلّاقٌ وضروريٌّ لاستعراض النجاح وتقييمه، خصوصًا ذلك الذي يُحدث تغييرًا في بنية المجتمع وعقليّته ويُراكم على جهود الآخرين في قضيَّة حقوقيَّةٍ وأخلاقيًّة.

تغفل الحملات والحِراكات المجتمعيَّة عن الاحتفال بإنجازاتها، الصغيرة والكبيرة، باعتبار الاحتفال فعلًا ثانويًّا أو من قبيل الترف الذي قد يشتّت الحملة عن نضالها الأساسيّ، في حين أنّ الاحتفال هو جزءٌ لا يتجزَّأ من مراحل الحملة يختتم الخطوات والمُنجزَات، ويستشرف المرحلة القادمة وأهدافها، ويعزّز من دافعيَّة الفريق، طالما نُظِّمَ بطريقةٍ مناسبةٍ ولأهدافٍ مدروسةٍ من شأنها ألّا تعود بالمنفعة على فريق الحملة فقط، بل أيضًا على مجتمعه والدوائر المحيطة به.

يتناول هذا المقال أهمية الاحتفال من تجربة أربعة حملات ذات رسائل مختلفة وخصوصية جغرافية واجتماعية وسياسية مميزة من أجل الإجابة على ثلاثة أسئلة تشكّل جوهر ثقافة الاحتفال للحملات والحراكات الشعبية. قادت هذه الحملات مؤسسة أهل للتنظيم المجتمعي التي تهدف لتمكين الساعين والساعيات للتغيير في تنظيم قوتهم وقيادتهم لتحقيق العدالة في قضاياهم.

كيف نحتفل؟

تُصمِّم الحملاتُ المجتمعية الاحتفالاتِ على مستوياتٍ مختلفة: احتفالٌ داخليٌّ لأعضاء الفريق، مغلقٌ على أطراف الحملة وبعض الحضور، وعلنيٌّ بدعوة عامّة. في جميع الحالات؛ يجب أن يشمل الاحتفال كلَّ أعضاء الفريق ويكون من المقصود والواضح أنّ هذا اللقاء ليس اجتماعَ عملٍ أو متابعةً للخطَّة، بل من أجل الاحتفال في حدّ ذاته. اجتمعت حملة ابني -وهي حملةٌ لتأهيل المراكز الصحيَّة لخدمة ذوي الإعاقة في الأردن- في حديقةٍ عامّةٍ مع أعضاء الحملة وأهل القضية؛ في احتفالٍ عرضوا فيه سرديَّة الحملة وقصّتها والمُنجزَات وتشارَكوْا مشاعرهم حول المرحلة الحالية.

التوقيت علامةٌ فارقةٌ في الاحتفال أيضًا، فالاختيار الموفَّق لموعد الاحتفال يضفي قيمةً معنويّةً على مُنجزَات الحملة ويمنحها منطقيَّة الطرح خصوصًا في حال أن مضت على انعقادها فترةٌ طويلة. استغلّت حملة بكرا أحلى -وهيٌ حملةٌ لتعيين ذوي الإعاقة في مراكز صنع القرار في غزّة- يوم الإعاقة العالميّ لعقد احتفالها والإشادة بمُخرَجات الحملة.

لا يقتصر استغلال الأيّام الوطنيَّة والدوليّ كمناسبةٍ لتسليط الضوء على قضيّتها، بل يُمكِّن أيضًا من وضع قضايا الحملات في سياقها الأكبر. حملةٌ حول المطالبة بأجورٍ متساويةٍ بين الذكور والإناث من المنطقيِّ الاحتفال بها في اليوم العالميِّ لحقوق الإنسان، حملةٌ حول إلغاء القوانين التي تقيِّد التعبير على الإنترنت من المفيد الاحتفال بها في اليوم العالميِّ لحريَّ الصحافة. بنفس الطريقة؛ احتفلت حملة لا تكبّرونا في أسبوع يوم الطفل العالميِّ لأنَّ موضوعهم جزءٌ من سياق حقوق الطفولة الأعمِّ والأشمل.

في التخطيط للاحتفال؛ يجب على الحملة أن تحدِّد سبب أو موضوع الاحتفال، الرسالة التي تريد أن يبثّها الاحتفال، والحضور المدعوّ، وشكل الاحتفال. تساهم هذه العناوين الرئيسة في التخطيط بشكلٍ فعّالٍ للحدث وفي التفكير في خياراتٍ إبداعيّة. لكن أيًّا كان شكل الاحتفال الذي تتبنّاه الحملة؛ بالضرورة أن يتلائم تصميمه مع الهدف الذي سُعِيَ إليه في المرتبة الأولى، لأنّ الاحتفال لا يأتي بشيءٍ جديد، لكنّه يعزِّز ما جاءت به الحملة والهدف الذي قامت من أجله. قامت حملة قُم مع المُعلِّم -وهي حملةٌ لتمكين وتفعيل دور المعلِّمات في المدارس الخاصَّة بالأردن- بتقديم الشهادات للمُعلِّمات المُشارِكات في جلسات الحملة لأنّ ذلك يدعم دفاعهنَّ عن حقوقهنَّ وزيادة كفاءتهنَّ العلميَّة.

لماذا نحتفل؟

يُساهم الاحتفال في تعزيز استمراريَّة الأفراد ووجودهم من أجل استكمال العمل وتعميق الإحساس بالانجاز؛ حيث من المُمكن أن يقوم أعضاء الحملة بالتعهُّد بالعمل المستمرِّ حتَّى تحقيق أهدافٍ أُخرى. عندما يشعر كلُّ شخصٍ بقيمة عمله وتقدير جهوده؛ يتعزَّز شعوره بالرغبة في تقديم المزيد، وتزيد مسؤوليَّته تجاه نفسه حول ما يمكن أن يُنجزه في المرحلة القادمة. علميًّا؛ أثبت علماء النفس أنَّ الاحتفال بالنجاح يسبِّب تغيُّراتٍ كيميائيّةً في أجسامنا ويفرز هرموناتٍ مُحفِّزةً في أدمغتنا، ما يجعلنا نشعر بالفخر وبالراحة.

في عالمٍ كلُّ ما فيه يدفعك للرجوع للوراء والاستسلام للتحدّيات؛ الاحتفال بالنجاح مهمٌّ من أجل تغيير السرديَّة الانهزاميَّة ونشر ثقافة الاحتفال في المجتمع وتحويل فتور الألم والإحباط والظروف الصعبة إلى طاقةٍ تحشد الأفراد وتُحدِث التغيير وخصوصًا عند تفاوت وجهات النظر.

لا يرتبط تغيير السرديَّة بالمجتمع فقط، بل أيضًا بالرواية التي تتناقلها وسائل الإعلام والتي تركِّز في الغالب على ما هو سلبيٌّ ومحزن، وتؤثِّر ضمن هذا التوجه على الرأي العام. تُتيح الاحتفالات العامة لمنجزات الحملات دعوة وسائل الإعلام المختلفة للتغطية، والتي لن تكتب هذه المرَّة عن ذوي الاعاقة من منظور الشفقة ولا عن المُعلِّمات باعتبارهنَّ فئةً مقموعة، بل ستغطِّي حفل تكريم هذه الفئات باعتبارها قادت التغيير وحقَّقته، ولم تقبل بالظلم كواقعٍ مَعِيش، وتوثِّق تجاربها التي ستُلهم أي تحرُّكاتٍ قادمة. 

يمنع الاحتفال أيضًا أيَّ محاولةٍ لسرقة الجهود، إذ ستكون هذه المناسبة كوسيلةٍ لحماية ملكيَّة وهويَّة الحملة وسرديَّتها. تميل بعض الجهات لأن تبني نجاحًا لم تكن جزءًا منه، وهو ما يهدِّد شعور أهل الحملة بقيمة إنجازهم ورغبتهم في الاستمراريَّة. لا يعني ذلك عدم مشاركة الاحتفال مع المجتمع والتفاعل مع شرائحه المختلفة، لكنَّه يشير إلى نسب الجهود إلى أصحابها حتَّى يكون ذلك حافزًا لرفع طاقة المجموعة والتعبير عن الامتنان في النضال على قضيَّةٍ ما.

ما بين الاحتفال لتعزيز الاستمراريّة والاحتفال لتغيير السرديَّة يأتي دور الجهات الرسميّة التي يقع على عاتقها إصدار القرارات وتنفيذها. تواصلت حملة ابني مع وزارة الصحة من أجل التعهُّد بتأهيل اثني عشر مركزًا صحيًّا لخدمة ذوي الإعاقة في اثنتي عشر محافظةً أردنية، وعندما وقَّعت الوزارة مسوَّدة القرار أعلنت الحملة ذلك في احتفالها وتحدَّثت عن ذلك في وسائل الإعلام من أجل إلزام الجهات الحكوميَّة بتنفيذ القرار ووضعها تحت الضغط الشعبيِّ في حال تراجعت عن تنفيذه.

ماذا بعد الاحتفال؟

يفتح الاحتفال بالحملات أبوابًا أوسع للتفكير في المُستقبل والأهداف القادمة، خصوصًا إذا استُغِلَّت لحظة اجتماع جميع أطراف القضيَّة من أجل تقييم التجربة السابقة وتقديم أيّ اقتراحاتٍ على صعيد إدارة الحملة ومضمونها، واستقبال التغذية الراجعة ومناقشة التحديات والدروس المستفادة وتناقل التجارب. كلُّ هذه المعلومات، بالإضافة للخبرة المكتسَبة من الحملة في مرحلتها السابقة، تؤسِّس لأهدافٍ أكثر تحديدًا وأهميّةً يُمكِن العمل عليها والحشد من أجلها.

بعد الاحتفال؛ ينبغي على فريق الحملة المتابعة من أجل اتّخاذ القرار فيما يتعلَّق بالخطوات القادمة، سواءً أكانت تتضمّن اختتام الحملة أو المتابعة في هدفٍ جديدٍ مع الفريق الذي كان شريكًا في النجاح، أو مع قادةٍ جُدُدٍ ممَّن أبدوْا اهتمامهم في فكرة الحملة وأنشطتها. تشمل المتابعة أيضًا التواصل مع الحضور ممَّن اهتمَّ بالانضمام لفريق الحملة والجهات الرسميَّة وضمان تطبيق القرارات وفتح خطٍّ من الصلة بين وسائل الإعلام المُختلِفة من أجل أيِّ تغطياتٍ أو مُنجزَاتٍ قادمة.

قد يبدو الاحتفال ممارسةً ترفيهيّة، لكنّه يوقِع على الحملة الكثير من المسؤوليَّة خصوصًا عند عقده في العلن. عندما تصبح الحملة معروفةً مُجتمعيًّا؛ تكتسب قاعدةً جماهيريَّةً وتُعلن استعدادها لاستقبال النقد في الوقت ذاته، بعد تحقيق النجاح؛ ترفع المجتمعات سقف توقُّعاتها من الحملات ومن قدرتها على الإنجاز وتزداد المسؤوليَّة في الحفاظ على جَوهر الفريق وثوابت عمله وأفكاره.

في زخم الحياة وأحداثها وتعقيد القضايا التي تعمل عليها الحملات؛ على الفريق أن يجد مُتَّسعًا من الوقت لكي يقول لنفسه “شُكرًا” ويتبادل الهدايا التي تتجاوز رمزيَّتُها قيمَتها المادّيَّة. تسدل ستارة المسرح على كلِّ القصص المؤثِّرة ويغادر الحضور القاعة في ذهنهم القوَّة بأنَّهم يستطيعون التغيير. لكن ما يظلُّ عالقًا في البال إلى الأبد هو خمسةٌ وخمسون طفلةً أُنقِذنَ من الزواج المبكِّر، واثنا عشر مركزًا صحيًّا سيتمُّ تأهيلهم في الأردن، وخمسون شخصًا من ذوي الإعاقة عُيِّنوا في المجالس العموميّة لمؤسّساتٍ وشركاتٍ وجمعيّاتٍ في غزَّة، وألفٌ وخَمسمائة معلِّمةٍ تقدَّمنَ بشكوى للمُطالبة بحقوقهنّ.