الحقيقة والمعنى-نظرة على أهم ثنائي في تاريخ الفلسفة التحليلية
يسعى هذا المقال إلى تقديم إطلالةٍ سريعةٍ ومقتضَبة حول زوجٍ من المفاهيم التي، ربما، تشكِّلُ أهمَّ ثنائيّ في تاريخ الفلسفة التحليليّة وهما مفهوما الحقيقة والمعنى.
ارتبط المفهومان مع المنعطفين المركزيَّين اللذين شكّلا تاريخ الفلسفة التحليليّة، المنطعف المنطقي والذي بدأ مع نشأة الفلسفة التحليليّة مع أعمال غوتلب فريجة وبراتراند راسل ولاحقًا التجريبيّة المنطقية لحلقة فيينا ويتمركز حول مفهوم الحقيقة، والمنعطف اللغوي الذي ارتبط بأعمال فيتجنشتاين وحلقة فيينا ويتمركز حول المعنى. يهدف هذا العرض إلى تقديم نظرة عامة إلى الإطار والإشكاليات المرتبطة بالتفكير في هذا الزوج، الحقيقة والمعنى، والرهانات التي تحكمه دون الدخول في التفاصيل وهي موضوع متشعب وواسع بشكل كبير.
يُقدِّم مفهوما الحقيقة والمعنى ثنائيًّا متداخلًا، بحيث يصعب فصلهما عن بعضهما البعض، الأمر الذي نلاحظه في العديد من التجارِب اليوميّة. فكثيرًا ما يظهر خلال النقاشات العادية بأنَّ الخلاف حول قضية معينة لم يكنْ حول صدق القضية نفسها، بل على فهمها (المعنى الذي نضفيه عليها). فعلى سبيل المثال، كثيرًا ما نُدرك أنَّ الخِلافَ حول هل الاشتراكية أمرٌ جيدٌ أم سيء ينته إلى أن يكون خلافًا حول معنى الاشتراكية نفسه، أو خلافًا حول كون سلوك ما عادل، ينتهي إلى كونه تباينًا حول معنى العدالة.
هنا، يمكن القول أنّ ما يظهر وكأنه تباينًا بصدد صدق قضية ما، قد يكون في الأساس تباينًا حول معنى هذه القضية (ومعنى الكلمات التي تشكل فحوى هذه القضية). والعكس صحيح، فتحديد معنى مفهوم ما يتحدد بقدرتنا على استخدام هذا المفهوم بشكل صحيح، فنحن نعرف أن الطفلَ قد يتعلّم معنى كلمة “أحمر” عندما يظهر قدرته على استخدام الكلمة في عبارات صحيحة، مشيرًا إلى الأشياء التي لونها أحمر وهو يقول أحمر. بتعبير آخر، إنّ ما يدل على معرفة المعنى هو القدرة على الاستخدام الصحيح الذي يحيل بدوره إلى القدرة على استخدام المفهوم في قضايا صحيحة، الأمر الذي يعيدنا إلى مفهوم الحقيقة.
هنا يظهر الارتباط الدائري بين مفهومي الحقيقة والمعنى، فلكي نستطيع أن نحدِّدَ صحة قضية ما أو خطئِها (مثلما نفعل في النقاشات) فعلينا أولًا تحديد معنى المفاهيم، ولكن معرفتنا بمعنى المفاهيم يتحدد بدوره باستخدامها بشكل صحيح.
لهذا فإن مفهوم الحقيقة يحيلنا إلى مفهوم المعنى، والأخير يُعيدنا بدوره إلى مفهوم الحقيقة، بما يُظهر الارتباط والتداخل بين هذين المفهومين.
هذا الارتباط المتبادل بين المفهومين يحيلنا إلى عدة إشكاليات،تتمثل الأولى بأنّ فهم كل مفهوم يفترض الآخر بوصفه معطى أوليِّ وواضح (أقلّه قياسًا إلى الآخر)، الأمر الذي يضعنا في مواجهة براهين واستدلالات دائرية أو يفرض علينا خيارات يصعب الاتفاق عليها، مثل الاختيار بين المعنى والحقيقة، أيهما نعتبره مفهومًا أوليًّا وواضحًا قياسًا بالآخر. إشكالية أخرى ترتبط بالمعرفة والعلم ويمكن التدليل عليها بالشكل التالي، إذا كانت الحقيقة مرتبطة بالمعنى، فهذا يجعل منها نسبية بالنسبة إلى اللغة التي نتحدثها والتي تحدد معاني الكلمات المستخدمة، بحيث كل تحوير في المعنى يؤدي إلى قيمة حقيقة مختلفة، وهكذا تصبح الحقيقة تابعة للغة (أو النظرية) التي تحدد لنا المعاني التي نضفيها على الكلمات. نجد هذا الاستدلال في أعمال توماس كون (كون، 1992) وبول فايرآبند (Feyerabend, 2010).
فكون يبرهن أن تصوراتنا ونظرياتنا العلمية مرتبطة بالنموذج الإرشادي الذي نستخدمه والذي يحدد معاني الكلمات، وبالتالي فإن نظريتان مختلفتان تنتميان إلى نموذجين إرشاديين متباينين لا تحملان المعنى نفسه حتى لو استخدمتا الكلمات نفسها، مثلًا مفهوم الكتلة في الميكانيك الكلاسيكية لنيوتن ومفهوم الكتلة في النظرية النسبية مختلفين وعليه لا يمكن مطابقتهما ببعض. فلا تُحيل النظريتان إلى الشيء نفسه حتى لو استخدمتا نفس الكلمات، وبهذا الشكل تكون النظريتان غير قابلتين للترجمة فيما بينهما (incommensurability) وعليه لا معنى للحديث عن أن إحداها صحيحة والأخرى خاطئة طالما أننا لا نستطيع ترجمتهما إلى بعض، فكل منهما تنتمي إلى عالم مختلف باختلاف المعاني التي تحملها مفاهيم كل نظرية. إن الانتقالَ من نموذجٍ إرشاديٍّ إلى آخر، بحسب كون، مرتبط بتحول المعنى الذي يُصيب المفاهيم التي تستخدمها النظرية، فيشكل النموذج الإرشاديّ عبر تحوّلات المعنى عالمًا آخر مغايرًا لعالم النموذج السابق.
وعليه فعندما نتحدث عن صدق نظرية أو خطئها، فإننا نَفعل هذا داخل النموذج الإرشادي نفسه وليس بين النماذج الإرشادية المختلفة؛ لأنّ النموذج الإرشادي يُثَبِت المعنى بما يتيح الحديث عن الحقيقة لاحقًا، بينما المعاني بين النماذج الإرشادية المتباينة مختلفة بحيث لا يمكن الترجمة فيما بينها وعليه لا يمكن لنا عندها الحديث عن الحقيقة.
إنّ النسبية المعرفية التي تحملها مثل هذه الأفكار تعتمد العلاقة المتداخلة بين الحقيقة والمعنى، حيث كل تحول بالمعنى يؤدي لا محالة إلى تحوّل في قيمة الحقيقة، وبما أن المعنى تاريخيّ (نسبي أو سياقي) ومتعلِّق باللغة، فبالتالي إن الحقيقة هي الأخرى متعلِّقة بالسياق واللغة. على العكس، فإن التراث الفلسفي الذي يقبل وجود حقائق أساسيّة، يتوجب عليه أن يُثبت وجود معاني أساسية واستمرارية في المعنى، فالمعنى بشكلٍ ما علاقة ضرورية بين الكلمات وما تُحيل إليه. ولكن وقبل المتابعة فلا بأس بالوقوف عند كل مفهوم على حدة.
الحقيقة
يمكن أن نتحدث عن مفهومين للحقيقة، الأول هو “الحقيقة” (The truth) التي تحيل إلى الحقيقة الشاملة الكلية النهائية، نوع من الحقيقة الميتافيزيقية التي طالما نسمع الفلاسفة أو الأنبياء وغيرهم يتحدثون عنها. ومن هنا نستطيع أن نرى الرهان الميتافيزيقي حول مفهوم الحقيقة. لكن بجانب هذا المفهوم يوجد مفهوم آخر هو “حقيقة” (truth)، حقيقة ما تقدمها نظرية أو قضية وهي التي تحيل لاحقًا إلى الوقائع (facts) . من الفكرة الثانية للحقيقة نصيغ عمومًا صفة “true” التي نعطيها للقضايا الصادقة.
هنا، تتجلى الحقيقة وكأنّها الكل المشكل من مجموع الاعتقادات الصحيحة. هنا لا بأس من مداخلة ترجمية، وهي أننا لا نستيطع بالعربية صياغة نعت من “الحقيقة”، فالصفة قد تكون “الحق” وهنا لا تكون الإحالة إلى الحقيقة، بل إلى الله “الحق” أو إلى نمط معين من العبارات مثل “هذا كلام حق” عندما نؤكد على موافقتنا لما قيل، الصفة الأخرى هي “حقيقي” ولكنها تحيل إلى “واقعي” فعندما نصف شيء بأنه حقيقي، فإننا نقصد أنه واقعي أو غير مزيف.
إن استخدام كلمة “حقيقة” والصفات المشتقة منها بالعربية أمر مثير للاهتمام وقد يكون مدخلًا لتأملات خاصة حول الحقيقة بالعربية، مثل الفصل بين مفهوم “الحقيقة” ومجموع الاعتقادات الصحيحة والتي قد نقاربها بشكل براغماتي، ولكنه ليس موضوعنا هنا. لهذا ولتعذُّر صياغة صفات من مفهوم الحقيقة، بالعربيّة، تصدق على الجمل، فقد تم استخدام صفات أخرى مثل صحيحة وخاطئة، أو صادقة وكاذبة، بمعنى اصطلاحي لتقابل true و false.
الحقيقة تحيل إلى مجموع القضايا الصادقة، عندها يُطرح السؤال التالي “ماذا نعني بالصادقة؟” أو بتحديد أكبر، إذا كانت لدينا مجموعة هي مجموعة القضايا الصادقة والتي تملك كل منها صفة الصدق، فماذا يعني أن نصف قضية أنها صادقة وبالتالي ما نفهم من “الحقيقة”؟
لشرح الفكرة بشكل أوضح، فنحن نقول مثلًا أنّ عبارة “السماء زرقاء” عبارة صادقة، ولنعط لعبارة “السماء زرقاء” رمزًا يدل عليها وهو (س) وعليه يمكن كتابة عبارة جديدة (“السماء زرقاء” صادقة) وبشكل مختصر، “س صادقة” ولنسمها ع. وهكذل يصبح لدينا عبارتين:
س: السماء زرقاء.
وس تكون صادقة عندما تكون السماء زرقاء، وعندها تكون لدينا عبارة أخرى ع: س صادقة.
كما يظهر من العبارة (س)، لدينا اسم يدل على شيء (السماء) وصفة هي الأزرق والمشتقة من اللون الأزرق والتي تحيل إلى مجموعة كل الأشياء التي لونها أزرق. إذا نقلنا المشابهة إلى الجملة (ع)، فنحن أيضًا لدينا اسم (العبارة س) وصفة هي صفة الصدق التي تحيل إلى الحقيقة، وإلى مجموعة كل العبارات الصادقة. وكما يمكن لنا أن نسأل عن معنى أزرق، ويكون الجواب أن اللون الأزرق هو الضوء بطول موجة يتراوح تقريبًا بين 450 و495 نانومتر. عندها يمكن، أيضًا، السؤال عما نعنيه بصادق وبالتالي الحقيقة بوصفها شيء/ خاصية تتمتع بها العبارات.
عند هذه النقطة يمكن القول أن لدينا معسكرين كبيرين حول الحقيقة، الأول يرى أن مفهوم الحقيقة والصدق لهما معنى خاص علينا توضيحه.
بتعبير آخر، العبارات تملك فعلًا خاصية الصدق ويجب علينا تبيان هذه الخاصيّة، وبالتالي تكون العبارتين (س) و(ع) مختلفتين وتامتي المعنى. المعسكر الآخر وهو الذي تعبر عنه النظرية الانكماشية للحقيقة (Deflationary theory of truth) والتي تقول بعدم وجود معنى خاص للحقيقة وأنها لا تعدو سوى الاتفاق. فمعنى قولي أنّ قضية ما صادقة لا يعني سوى أني أوافق على هذه القضية ولا شيء آخر. بالتالي العبارة (ع) ليست عبارة تامة وهي مكافئة تمامًا ل (س). فالجمل لا تحمل خاصية فريدة اسمها الصدق أو الكذب التي علينا تفسيرها، وإضافة الصدق إلى العبارة كصفة ليس سوى تأكيد الموافقة على محتواها وليس أكثر.
بدوره المعسكر الأول، الذي يعتقد أن الصدق/الحقيقة خاصية للعبارات وتحتاج لإيضاح وليست شيئًا فارغًا، ينقسم إلى نظريات مختلفة حول معنى الحقيقة ولكن هناك نظريتان أساسيتان.
الأولى النظرية التوافقية حول الحقيقة (Correspondences theory of truth) وفكرتها الأساسية أن عبارة ما صادقة إذا كانت توافق ما تصفه، أي أن السماء زرقاء صادقة إذا كانت الحالة الموصوفة موافقة لمنطوق العبارة، أي أن السماء زرقاء. النظرية الأخرى هي النظرية الاتساقية حول الحقيقة (Coherence theory of truth) والتي تفهم الحقيقة بوصفها اتساق منطقي، أي أن عبارة تكون حقيقية كونها متسقة مع باقي اعتقاداتنا حول العالم.
بالطبع لكل نظرية حول الحقيقة معضلاتها وفضائِلها، ولكن ما يهم هو التمييز بين تصوُّرين أساسيّين، تصورٌ يرى الحقيقة شيء يجب فهمه لأنَّها تحيل إلى ماهيّة ما علينا استيعابها، وهو ما تحاوله نظرية التوافق (الحقيقة بدلالة التوافق) ونظرية الاتساق (الحقيقة بدلالة الاتساق)، في مقابل تصور أساسي آخر يرى أن الحقيقة لا تحيل إلى شيءٍ محدد، بل فارغة.
كل من نظرية التوافق والاتساق تستبطنان المعنى، فمثلًا فيما يخص نظرية التوافق يجب للعبارة أن تتوافق مع واقع حال ما تصفه، لكن الربط بين العبارة وما تصفه هو ما نقصده تحديدًا بالمعنى. أي مفهوم السماء يجب أن يحيل للسماء ومفهوم الزرقة إلى اللون الأزرق حتى يمكن أن نقابل بين العبارة وما تحيل إليه. لفهم استبطان المعنى بشكل أفضل لننظر إلى نظرية الدلالة حول الحقيقة، نظرية تارسكي. بداية نظرية تارسكي حول الحقيقة هي نظرية محايدة أنطولوجيًّا، فلا تقدم تعريف للحقيقة مثل النظريات السابقة التي تحاول تعريف الحقيقة، بل تقدم إطارًا للتعامل مع مفهوم الحقيقة منطقيًا والشروط الضرورية للغة بما يمكننا من استخدام مفهوم الحقيقة، وأيضًا تقدم آلية لاستخدام مفهوم الحقيقة ونسبته للعبارات.
المهم، نظرية تارسكي حول الحقيقة تنطلق من تثبيت المعنى بما يسمح بالحديث عن الحقيقة، تثبيت الدلالة من أجل تحديد الحقيقة.
المعنى
بدورها، تثير قضية المعنى العديد من المشاكل بصدد تحديدها، ما هو معنى المعنى. أيضًا، تحمل مسألة المعنى -مثل الحقيقة- بُعدًا ميتافيزيقيًّا قويًّا، حين نسأل عن معنى وجودنا ومعنى العالم ومعنى التاريخ وهلم. فالإشكال لا يقتصر على الارتباط بين المعنى والحقيقة، بل يطال البعد الميتافيزيقي لكل من المعنى والحقيقة، وهما بدورهما متصلان.
هناك تمييز أساسي لدى أي نقاش حول المعنى وهو يعود إلى فريجه وهناك العديد من المصطلحات الفنية المختلفة[1] من فيلسوف إلى آخر للتعبير عنه. وشخصيًا أميل إلى استخدام اصطلاحات رودولف كارناب في الموضوع، البعد الأول هو Intension وهو يعبر عن الصورة الذهنية للمفهوم، فمثلًا حين نقول كرسي، ترتسم في أذهاننا صورة الكرسي والتي عادة ما نعبر عنها بتعريف قياسي يسمح لنا بالتعرف على الأشياء الواقعية في العالم وهي الكراسي.
الثاني هو الماصدق Extension وهو الشيء الذي يحيل إليه المفهوم[2]، أي الكرسي الواقعي والذي يجعل من العبارة صحيحة. فمثلًا، عبارة “يوجد كرسي أمامي” تكون صادقة إذا كان الشيء الذي أراه أمامي هو كرسي (Extension).
تشكل العلاقة بين هذين القطبين، الصورة الذهنية للمفهوم (اختصار المفهوم) وماصدق المفهوم، المعنى. وهنا ندرك مركزية المعنى للحقيقة؛ لأنه يربط بين أفكارنا حول العالم والعالم.
التصور التقليدي للمعنى قام أساسًا على الوصف الذي يظهر بوصفه علاقة ضرورية بين المفهوم وما يحيل إليه، وهو ما تَمثَّل بالنظرية الوصفية في معاني الأسماء التي تعود أساسًا إلى أعمال فريجه وراسل وشكلت التقليد الأكبر في الفلسفة. فمعنى اسم ما، مثلًا نابليون بونابرت، هو مجموعة الصفات الأساسية التي تمتع بها نابليون بونابرت، مثل هو إمبراطور فرنسا بعد فترة الثورة وكان ضابطًا في الجيش الفرنسي خلال الثورة وقاد حملة على مصر وهُزم في معركة واترلو وهلم جرا. أي أن الصورة الذهنية عن الشيء تحيل إلى صفاته الجوهرية والأساسية التي تُمثِّل هويته وهو ما يسمح بتحديد ماصدق المفهوم. يمكن استخدام استعارة المرآة[3]، فالذهن هو مرآة تنعكس عليها صورة الأشياء، وصورة المرآة هذه هي فحوى المعنى، مما يجعل من النظرية الوصفية مرتبطة بمركزية مفهوم آخر وهو التمثيل، فالصور الذهنية هي تمثُّلات للأشياء.
بالمحصلة، يتحدد المعنى بعلاقة تربط بين المفهوم بالماصدق الخاص به في العالم، كما تتحدد الحقيقة بوصفها توافق بين منطوق عبارة ما وما تحيل إليه، وهو ما يفترض تثبيت العلاقة بين الكلمات والأشياء.
هنا نرى أنَّ أي نقد للعلاقة الضرورية بين المفهوم والماصدق الخاص به، سيخلخل فكرة الحقيقة نفسها. بالمقابل يظهر أن التفكير المنطلق من وجود حقائق واقعية علينا اكتشافها، يفترض ضرورة تثبيت ما للمعنى، كما يفترض تشاكل (Isomorphy) بين نظاميّ الفكر والواقع. غير أن هذه الفرضيات نفسها هي فرضيات ميتافيزيقيَّة أساسًا، وهنا يبدو أنّه لا يمكن لنا تفادي حدٍّ أدنى من الميتافيزيقيا.
يمكن القول بأنّه لدينا مسألتين متشاكلتين
- علاقة ارتباط وتداخل بين المعنى والحقيقة، بحيث أنَّ أي تشكيك في المعنى ينتهي إلى تشكيك في مفهوم الحقيقة.
- المعنى رابطة ضرورية بين المفهوم وماصدقه، وهذه الرابطة وصفية بشكل أساسي، بحيث أيّ تشكيك في مثل هذه العلاقة ينتهي إلى تشكيك في المعنى.
بهذا الشكل يمكن لنا فهم محوريّة اللغة والمعنى في التيارات الناقدة للعقلانيّة والواقعيّة والموضوعيّة، فنقطة الانطلاق كانت تدور دومًا حول المعنى ونقده، بما يسمح لاحقًا بنقد مفهوم الحقيقة بوصفه تابع للمعنى. وهكذا يمكن فهم نقد كون وفايرابند وجذريتهما انطلاقًا من نقاشهما حول تحول الدلالة وعدم قابلية الترجمة، ولكن أيضًا، وطبعًا، عموم تقليد ما بعد الحداثة الذي انطلق من التشكيك في المعنى ليصل إلى التشكيك في الحقيقة.
بالمقابل هناك تقاليد أخرى ومُغايرة، وغير معروفة بشكل واسع في العالم العربي وتستحق الاهتمام، خاصةً لاعتقادي بصعوبة الدفاع عن تصور وصفي للمعنى. على العكس من التقليد الراسخ في الفلسفة التحليلة الذي يسعى للدفاع عن الموقف الكلاسيكي في المعنى والحقيقة، قام هؤلاء بمحاولات مُغايرة تمامًا وهي رفض القضية الثانية، دون التحول إلى موقف نسبوي وذلك بصياغة تصوُّرات أخرى حول المعنى.
إعادة نظر
هناك محاولتان تستحقان التوقف عندهما. ترتبط الأولى بويلارد فان كواين[4]، الذي كان مُشككًا بما يتعلق بالصور الذهنية Intension. ولاحقًا بأعمال دونالد يفدسون[5].
كواين كان مشكِّكًا حول الصور الذهنية وكل ما يرتبط بها مثل التحليليلة. كذلك رفض كواين مركزيّة المرجع في تحديد المعنى، مستعيضًا عنها بغموضية المرجع. فكرة كواين كتجريبي جذري تقوم على عدم التمييز بين اللغة والنظريّة، وأنّ مدخل تعلم اللغة أو اختبار النظرية هو محتواها التجريبي الذي يتشكل من عبارات الملاحظة التي ترتبط بالعالم الخارجي وحواسنا، ولكن ليس عبر الإحالة إلى أشياء محددة (الماصدق بوصف شيء) بل بالإحالة إلى كامل المشهد الخارجي (المحفز الكلي). تتغير عبارات الملاحظة وتتحول بحسب السياق وبحسب الجماعة اللغويّة، لكنها تبقى موضوعية وذلك لأننا كنوع بشري نملِك استعدادات متشابهة ومُسبقة تجعل من ردود أفعالنا اللغوية مُتّسقة، فموضوعية عبارات الملاحظة مؤسَسة على هذه الاستعدادت التطوريّة المُتَّسِقة والمُشتركة بين جميع البشر (بينذاتية) وليس على علاقة ضرورية بين المفهوم وماصدقه.
فكرة كواين باختصار، اللغة سلوك ويجب تفسيرها مثل أي سلوك آخر، انطلاقاً من المحفزات والاستجابات، ولا تملك بُعدًا داخليًّا خاصًّا هو الصور الذهنية والمعاني. وهذا السلوك (اللغة) يتغير ويتحول بحسب التطور ولكنه مؤسَس بشكل مشترك على البنية المشتركة والمتشابهة لجميع البشر. كما أنّ اللغة تربط بيننا وبين الطبيعة، وبهذا يكون المعنى مسألة عمليّة (لنتفاهم مع بعضنا البعض) ولكنه لا يطرح مسألة فلسفيّة ولا حتى علميّة (كواين لا يرى أن هناك فرقًا نوعيًّا بين الفلسفة والعلم).
فالعلم كما الفلسفة ينطلقان من ما بعد لحظة المعنى التي تربط بين اللغة والعالم، فالسؤال المطروح هو كيف نفهم العالم من داخل لغتنا أو نظرياتنا العلمية، وليس كيف تتجه نظرياتنا ولغتنا إلى العالم (إلا إذا كان هذا سؤالًا إدراكيًّا وبالتالي يُصاغ من داخل العلم، علم النفس) الذي يرفضه كواين بوصفه سؤالٌ لا معنى له. بالتالي وعبر التخلص من فكرة المعاني الداخلية (Intension) واستبدالها بتصور سلوكيّ يسعى كواين لتفادي المعضلة التي واجهت التصورات الكلاسيكية، التي ما أن تفجر العلاقة بين التصورات الذهنية والداخلية من جهة والماصدق من جهة أخرى حتى ينهار كامل البناء.
انطلق ديفدسون من أفكار كواين وتوسع بها وقام بتجذيرها. ففيما يخص المعنى بقي ديفدسون وفيًّا لرفض مركزية المرجع ولكنه اعتقد أن المعنى يمكن تفسيره وتقديم نظريّة عنه وليس تركه كما فعل كواين. وبحسب ديفدسون فالمعنى هو المشترك الأساسيّ بين جميع اللغات، نقاط التثبيت المشتركة التي تسمح بالترجمة بين اللغات المتباينة والتي يمكن تحديدها عبر تثبيت الحقيقة (نظرية العنى عند ديفدسون). فكرة ديفدسون عن المعنى هي مقلوب نظرية تارسكي عن الحقيقة، فتارسكي ثبت المعنى لتحديد الحقيقة، فإن ديفدسون ثبت الحقيقة باعتبارها مفهومًا أوليًّا (مفهوم واضح بذاته ولا يمكن تعريفه) وحدد المعنى بوصفه تابعًا للحقيقة.
بالنسبة لكواين وديفدسون، فإنّ العلاقة بين الأفكار (تصوراتنا عن العالم) والعالم نفسه لم تعد مفهومية بتوسط المعنى كما افترض التقليد الكلاسيكي، بل أصبحت علاقة سببيّة.
ارتبط التقليد الآخر بأسماء شاول كريبكه (Kripke, 1980) وهيلاري بتنام (Putna ، 1975) وتايلور بورج (Burge, 2007 ، وقد انطلق مع عمل كريبكه “التسمية والضرورة” وعمل بتنام “معنى المعنى”. بدأ كل من كريبكه وبتنام بنقد النظرية الوصفية حول معاني الأسماء، والفكرة تدور ببساطة حول كسر العلاقة الضرورية بين الاسم وما يحيل إليه، وقد كان هذا ممكنًا عبر نظرية العوالم الممكنة القائمة على مفهومي الممكن والضروري. فمعنى أي اسم، بحسب النظرية الوصفية، هو مجموعة الخصائص الأساسية التي تشكل هُويّة هذا الشيء، كما في المثال السابق حول نابليون بونابرت.
لكن هذه الصفات ليست ضرورية، بل ممكنة، فقد كان ممكنًا أن لا يتولى نابليون قيادة الحملة على مصر ويبقى في فرنسا، أو أن ينتصر في واترلو، بل حتى أن لا يدخل الجيش أساسًا ويمتهن الطب، أو حتى أن يصاب بمرض وهو رضيع ويقضي نحبه. كل الصفات التي ننسبها إلى نابليون ليست ضرورية، فكلها قد تتغير وتختلف دون أن يختلف نابليون، فنابليون سيبقى نابليون حتى لو مات رضيعًا ولم يفعل أيًّا من هذه الأشياء. وبما أن هذا الوصف ليس ضروريًا، فهذا بدوره يعني أن هذا الوصف لا يمكن له أن يكون معنى نابليون بونابرت.
وما يصدق على نابليون يصدق على الأنواع الطبيعية مثل الماء والذهب (بتنام) أو حتى على الأمراض والأشياء الصناعية (بورج) وفي النهاية على أي شيء. يمكن دومًا البرهان على أن لا علاقة ضرورية بين الوصف الذي تقدمه الصورة الذهنية وما تحيل إليه.
بالمقابل اقترح كريبكه فكرة العلاقة السببية لتحديد المعنى، فالمعنى يتحدد بالعلاقة السببية التي تربط بين الشيء والمفهوم الذي يحيل إليه، فما يحدد معنى نابليون هو العلاقة السببية التي تربط بين ميلاد نابليون وتسمية أهله له بهذا الاسم ووصول الاسم لنا عبر سلسلة سببيّة تاريخيّة، وهذه العلاقة باقية حتى لو اختلفت كل الصفات حول نابليون. ربما عندها لن نسمع باسم نابليون لو درس الطب، ولكن نابليون سيبقى هو نابليون.
المعنى، إذاً، يتحدد بالسلسلة السببية التي تربط بين الشيء الذي نتحدث عنه وصورته الذهنية، وليس بعلاقة تقابل ميتافيزيقيّ بين الصورة الذهنية والداخلية (التمثيل) التي تمثِّل الصفات الأساسية والشيء.
انطلاقًا من هذا التصور تمّت محاولة الدفاع عن الحقيقة والموضوعية كأساس للعلم. فمثلًا في مواجهة الادعاء بأنّه لا يمكن الترجمة بين نظريتين مختلفتين لأن المعاني مختلفة، تم الرد بالشكل التالي: إن معنى المفهوم يتحدد بالدور السببي الذي يلعبه في السلسلة السببية التي تقدمها النظرية، وعليه فإن استمرارية المعنى بين مفهومين يعودان إلى نظريتين مختلفتين تتمثل بالتكافؤ في الأدوار السببية التي يلعبها هذان المفهومان كلٌ في نظريته. وهكذا، سعى فيليب كيتشر للدفاع عن أن مفهوم الهواء منزوع الفلوجستين في النظرية الكيميائية السابقة للافوازيه ومفهوم الأوكسيجين يلعبان أدوارًا متكافئة في ذات السلسلة السببية في العديد من الحالات، بما يجعل من الممكن المطابقة بينهما. كذلك قارن ستاثيوس بسيلوس بين الدور السببي لمفهومي الأثير والحقل الكهرومغنطيسي ليبيبن استمرارية للمعنى بينهما.
بورج (Burge, Origins of Objectivity, 2010) أخذ المسألة إلى أقصاها مُحاولًا البرهنة على أن الموضوعية عمومًا، وضمنًا الموضوعيّة العلميّة، تجد جذورها في هذا التصور السببي للمعنى، فَصُورنا الذهنية والمرتبطة بالحواس يتحدد معناها عبر سلسلة سببية تقف الأشياء المُسماة في بدايتها، وليس معاني داخليّة مقابلة للأشياء بشكل ميتافيزيقيّ. بالتالي فإن العلاقة ليست وصفيّة وضروريّة، ولكنها سببيّة تربط بين الشيء وعملية الحس بوصفها عملية طبيعية يقف الموضوع/الشيء في بدايتها.
الهوامش [1] هذه المصطلحات ليست مختلفة وحسب، بل أنها مضطربة لحد كبير وخاصة مصطلحي المعنى والسيمانتيك (الدلالة) ووضعهما بالنسبة لبعضهما البعض، فالبعض يجعل المعنى هو المصطلح الأوسع بحيث تكون الدلالة حالة فرعية، وآخرون يعكسون العملية ولهذا لا يمكن تحديد معاني هذه المصطلحات بشكل نهائي، بل هذا يعتمد على كل عمل على حدة. [2] هنا أيضًا يوجد تنوع مصطلحي، ففريجه مثلا يسمي الصورة الذهنية Sinn ويمكن ترجمتها للعبرة، فيما يسمي الماصدق Bedeutung وهي تُترجم إلى المعنى وهو تقريباً عكس ما يعنيه الفلاسفة عموماً بمفهوم المعنى، ولكنها اشتهرت بالإحالة إلى فريجة. [3] يستند عمل ريتشارد رورتي الشهير "الفلسفة ومرآة الطبيعة" إلى هذه الاستعارة التي يقدم قراءة نقدية وواسعة في تاريخ الفلسفة انطلاقاً من هذه الاستعارة ونقدها. [4] يمكن العودة إلى عدد من الأعمال الأساسية لكواين مثل "من وجهة نظر منطقية" (From Logical Point of View)، "الكلمة والشيء" (Word and Thing)، "جذور المرجع" (Roots of Reference)، "من المحفز إلى العلم" (From Stimulus to Science).أيضًا، قدم أحمد يوسف عرضاً وافياً لفلسفة كواين في سلسلة مقالات بعنوان "الابستمولوجيا المتطبعة وعدم القابلية للمقارنة: دراسة في طبيعانية كواين" [5] غالبية أعمال ديفدسون هي دراسات تم جمعها لاحقاً في كتب، وهنا نحيل إلى أهم هذه الكتب، مثل "أبحاث في الحقيقة والتفسير" (Inquiries into Truth and Interpretation)، "الحقيقة، اللغة، التاريخ" (Truth, Language, and History)، "ذاتي، بينذاتي، موضوعي" (Subjective, intersubjective, Objective).