الإبستمولوجيا المتطبعة وعدم القابلية للمقارنة: دراسة في طبيعانية كواين

مدخل إلى النزعة الطبيعانية:

  • (1.1) نظرة عامة على مفهوم الطبيعانية

الطبيعانية على المستوى الإبستمولجي أو ما يسمى الإبستمولوجيا المتطبعة epistemology naturalized تعني ببساطة أن المنهج الوحيد المؤدي إلى المعرفة هو المنهج العلمي، والمصطلح بهذا المعنى من تدشين الفيلسوف الأمريكي ويلارد فان أورمان كواين، وقد دشن كواين مصطلح “الإبستمولوجيا المتطبعة” في مقالته التى تحمل نفس الاسم وإن كان المشروع الإبستمولجي الذي قدمه كواين قد تحددت معالمه في خمسينات القرن الماضي خصوصًا مع مقالة كواين “عقيدتان في التجريبية”، وتعتبر الإبستمولوجيا الطبيعية بهذا المعنى الامتداد الطبيعي للتقليد التجريبي المستمر منذ بيكون ولوك وبيركلي وهيوم وميل إلى الوضعيين المناطقة وفلاسفة العلم المعاصرين، و قد حدد كواين في مقالته “خمسة معالم للتجريبية ” خمس قفزات كبرى خطاها المذهب التجريبي آخرها ما قام به كواين نفسه وهو تطبيع الإبستمولوجيا.

إن ما تعنيه الإبستمولوجيا الطبيعية أن العلم ليس في حاجة إلى التبرير من خارجه، فهي مذهب معرفي ضد النزعة الأسسية foundationalism التي تسعى إلى تأسيس الادعاءات المعرفية على معارف أولية يقينية (خارج العلم بطبيعة الحال)، وهو موقف يتقاسمه العقلانيون مثل ديكارت ولايبنتز وراسل (في إحدى محطاته الفكرية)، وكذلك التجربيون التقليديون مثل لوك وهيوم وميل وعند بعض الوضعيين المناطقة مثل آير وكارناب وشيليك، فالعقلانيون يسوغون المعرفة بالاستناد إلى بديهيات عقلية مثل قوانين المنطق (قانون عدم التناقض وقانون السبب الكافي عند لايبنتز) أو الحدس العقلي والمعرفة العقلية المباشرة (مثل الكوجيتو الديكارتي) والتجريبيون عادة ما يؤسسون المعرفة على قضايا الملاحظة المباشرة أو الأفكار الحسية بلغة لوك (الانطباعات الحسية أو المعطيات الحسية Sensory datum عند لوك وبيركلي وهيوم) أو ما يسمى بقضايا البروتكول عند الوضعيين المناطقة، نلاحظ في الحالتين أن النزعة الأسسية تعتمد في طرحها على ادعاءين هما

أولًا: استحالة التسلسل في التسويغ إلى مالانهاية، وثانيًا: الادعاء بأن قضايا معينة تتمتع بالتسويغ الذاتي وبالتالي لا تحتاج إلى مسوغ وتصلح لكي تكون النقاط اليقينية الأساسية التي يبنى عليها أساس العلم، وهي من حيث التعريف خارجة عن النسق العلمي نفسه ولا يتم التوصل إليها بالمنهج العلمي نفسه، لذلك تعتبر الإبستمولجيا التقليدية التى تتبنى النزعة الأسسية علم معياري Normative وأولي Apriori (أي سابق على أي تجرية)، وهذا ما ترفضه الإبستمولوجيا الطبيعية بوصفه دوجما غير نقدية وغير ضرورية.

أما على المستوى الأنطولوجي فالطبيعانية هي ببساطة الالتزام الأنطولوجي الذي يعتبر أن الطبيعة هي كل ما هناك، وأن كل ما هناك هو طبيعي، ويلخّصها قول كارل ساجان: “الكون هو كل ما كان، كائن أو سيكون”.

إعلان

إنها ببساطة رؤية واحدية للعالم تنبذ المواقف الثانوية التي تعتقد في جوهرين متمايزين أي مقولتين مختلفتين للوجود مثل ثنائية ديكارت التي تعتقد بوجود ثنائية جوهرية حيث يوجد جوهر عقلي مفكر وجوهر مادي ممتد، كلاهما من طبيعة مختلفة ولا يمكن رد أيهما إلى الآخر، أي أنه يوجد طريقتين لكي يكون الشيء موجودًا، أي أنه ثمة قسمة أولية في نسيج الوجود نفسه، إما أن يكون الشيء مفكرًا وهو في هذه الحالة ليس في حاجة إلى أن يكون ماديًا أي ذا حجم وشكل وخواص محسوسة، وإما أن يكون الشيء ماديًا له خواصًا محسوسة ولكنه لا يمكن أن يكون مفكرًا، ويقع على عاتق الثنائية تفسير كيفية التأثير المتبادل بين جوهرين من طبيعة مختلفة في مجال واحد من الخبرة.

على العكس تعتبر الطبيعانية أن هناك عالم واحد، ونوعية واحدة من الموجودات، هي الموجودات الطبيعية[i]، ويجب أن نميز في هذا السياق بين نوعين من الطبيعانية، أولًا الطبيعانية المنهجية وثانيًا الطبيعانية الميتافيزقية التي هي امتداد للمادية القديمة، فبينما تضع الطبيعانية الميتافيزقية مسلمات أنطولوجية غير نقدية توضع كأساسًا ميتافيزقي للعلم.

تعتبر الطبيعانية المنهجية الالتزامات الأنطولوجية نتيجة للالتزام الإبستمولجي وليست سابقة عليها (وهي بهذا المعنى قابلة للتعديل)، فسؤال “ماذا يوجد هناك؟”، سؤال منطقي إبستمولجي، والإجابة عليه تكون من داخل العلم نفسه، وليس سابقةً عليه، فالفرضيات الأنطولوجية كالفرضيات العلمية تمامًا ناتجة عن المنهج العلمي بمعناه الواسع الذي يشمل الفلسفة، وهي مثل النظريات العلمية قابلة للتعديل والمراجعة، لذلك ارتبطت الإبستمولجيا المتطبعة عند كواين بدعوى النسبية الأنطولوجية، فالإجابة عن سؤال ماذا يوجد إجابة نسبية تتحدد عن طريق إطارنا النظري والمنظور الذي ننظر به الى الامور، يقول كواين في خاتمة مقاله “عن ماهو هناك”: أنطولوجيا الكائنات الفيزيائية والرياضية هي أساطير، وجودة الأسطورة هي مسألة نسبية  The quality of myth, however, is relative;، نسبية في هذه الحالة إلى وجهة النظر الإبستمولجية التي ننظر منها، وجهة النظر التي من بين الكثير، تتفق مع حاجاتنا وأغراضنا المختلفة. ” [ii]

لذلك يجب أن يكون مفهومًا أننا في هذا البحث نتحدث عن الطبيعانية المنهجية بشقيها الإبستمولجي (الإبستمولجيا المتطبعة) والأنطولوجي (النسبية الأنطلوجية) وليس الطبيعانية الميتافيزقية metaphysical naturalism أو ما يسمى أحيانًا بالمادية العلمية  scientific materialism.

في جملة موجزة نقول إن الطبيعانية ببساطة هي الادعاء أن المنهج العلمي هو المنهج الوحيد لإنتاج المعرفة والإجابة عن الأسئلة بما في ذلك الأسئلة الأنطولوجية التي تخص طبيعة الوجود والواقع والحقيقة. فالعلم ليس في حاجة للتسويغ من خارجه، فهو يبرر نفسه.

يقول كواين “ما هي طبيعة الحقيقة؟ هو سؤال يخص العلماء وبالمعنى الواسع، الذي يصعب التكهن به: ما هو هناك؟ ما هو حقيقي؟ هو جزء من السؤال، والسؤال عن كيف نعرف ما هو هناك هو أيضًا جزء من السؤال، وبأي شكل المنهج العلمي -أيًا كانت تفاصيله ـ تنتج النظرية والتي توجد قواعد ارتباطها بكل الإثارات المحتملة في المحيط الحسي فقط في المنهج العلمي نفسه، غير المدعوم بأي ضوابط سابقة عليه، بهذا المعنى يكون العلم هو الحكم الأخير للحقيقة.”[iii]

  • (1.2) اتصالية العلم والفلسفة:

العلم هو المخطط المفهومي الشامل عن العالم، فبهذا المعنى يكون كل ما هو معروف أو متاح للمعرفة هو موضوعٌ علمي، فالعلم ليس مجرد تسجيل لبعض المشاهدات والملاحظات، بل هو الإطار النظري التفسيري الذي يقدم أفضل ارتباط ممكن مع مجموع الإثارات في المحيط الحسي، أي هو أفضل نظرية متاحة لنا عن العالم، إنالعلم هنا يعني كامل الشبكة المعرفية كما يقول كواين: “العلم الكلي أو مجموع ما يدعى معرفتنا أو معتقداتنا، بدءًا من أكثر الأمور عرضية في الجغرافيا والتاريخ، وانتهاءً بأعمق قوانين الفيزياء الذرية وحتى الرياضيات البحتة و المنطق، هو نسيج من صنع الإنسان، لا يمس الخبرة إلا في الأطراف، وفق استعارة أخرى، العلم الكلي في مجمله أشبه مايكون بمجال قوة لا يمس الخبرة إلا عند أطرافه.[iv]

“بذلك يكون المنهج العلمي هو الحكم الأخير للحقيقة، فلا مجال لازدواجية منهجية معرفية، فإذا كنا نعتبر كل إطار تفسيري يقدم قيمة تفسيرية بأدوات منهجية بين ذاتية علمًا، فلا معنى للحديث عن مناهج مختلفة للوصول إلى أنواع مختلفة من المعرفة، وبهذا المعنى تكون الأسئلة الفلسفية الأنطولجية والإبستمولوجية هي جزء من المخطط العلمي نفسه، فهناك نوعٌ واحد من المعرفة هي المعرفة العلمية ونوع واحد من الفلسفة هي الفلسفة العلمية، فالعلم لا يحتاج إلى نقطة مرجعية خارجه لكي يتلقى منها التسويغ، فالنسق العلمي كالبنيان يشد بعضه بعضًا، ومثل الشبكة المعرفية كسفينة ضاربة في أعماق المحيط، كلما تهاوت أعمدتها و تشققت ألواحها لم يجد طاقمها ما يصلحها إلا ما هو على ظهرها بالفعل، فلا جزيرة ولا مرفأ يمكن أن تحط عليه الرحال لإعادة ترميم السفينة على أرض صلبة. والفيلسوف والعالم على نفس السفينة، فالأسئلة الفلسفية هي على قدم المساواة، الفرق الوحيد بينهم هو درجة التجريد، فالعلم و الفلسفة تمثل متصلًا واحدًا لا يمكن فصله، بمعنى آخر ليس ثمة فلسفة أولى، أو علم أوليّ يأتى في المقدمة ومن ثم تتراتب العلوم فوقه وبالاعتماد عليه، الطبيعانية لا ترفض الميتافيزقيا، ولكنها تَعتبر الأسئلة الأنطولوجية جزءًا من العلم نفسه، والإجابة عليها تكون بنفس الطريقة التي نجيب بها على الأسئلة العلمية.

يقول كواين “إن قبولنا لنموذج أنطولوجي متساوٍ من حيث المبدأ مع قبولنا لنظرية علمية، فمثلًا في نسق الفيزياء: نحن نتبنى حتى الآن – إذا كنا عقلانيين – النموذج التخطيطي الأكثر بساطة، الذي تكون فيه الأجزاء المتفرقة من الوقائع الخام يمكنها أن تلتئم وتتراتب، بينما نسقنا الأنطولوجي يتحدد عندما نتوصل إلى المخطط التصوري الشامل الذي يستوعب العلم بكامله بالمعنى الأوسع، الأسئلة الأنطولولجية بناءًا على هذا التصور، هي على قدم المساواة مع اسئلة العلم الطبيعي” [v]

من هنا – أي بسبب الادعاء بأن كل الإجابات عن كل الأسئلة المشروعة (ذات المعنى) هي إجابات علمية -يتم اعتبار الفلسفة الطبيعية كصورة من صور العلماوية Scientism وهو مصطلح ذو سمعة سيئة في الأوساط الفلسفية العربية وهنا يمكننا أن نميز بين معنيين يستخدم بهم هذا المصطلح و أقتبس الفقرة التالية من د. صلاح اسماعيل:

“وتُفهم العلموية بجملة من المعاني يأتي في طليعتها معنيان:

  • أن العلوم أكثر أهمية من الفنون والآداب وغيرها من الفاعليات البشرية في فهم العالم الذي نعيش فيه.
  • أن المنهج العلمي هو وحده القادر على حل المشكلات التي تواجه الإنسان.

و المعنى الأول لا يعنينا هنا لأنه ينطوي على قدر كبير من مجاوزة الحق، ناهيك عن ازدراء ما يخرج عن إطار العلم، وإنما الذي يعنينا هو المعنى الثاني لأنه المصدر الحقيقي لتباين الآراء حول هذه النزعة .

وفي هذا المعنى الثاني نجد أن أنصار النزعة العلمية يقولون إن الأسئلة “الوحيدة” التي تقبل الإجابة عنها بصورة مشروعة هي الأسئلة التي يمكن أن يجيب عنها العلماء عن طريق الاستعانة بمناهج العلوم الطبيعية”. [vi]

ونحن هنا نؤيد العلموية بالمعنى الثاني فهناك فرق كبير بين أن أعتبر القضايا الأخلاقية والجمالية والدينية بلا معنىً أو بلا قيمة ونقلل من شأنها، وبين أن أفرق بين الوظيفة المعرفية والوجدانية للغة وللوجود الإنساني، ومن ثم حصر التسويغ المعرفي في المنهج العلمي و حده، فهذا لا يعني التقليل أو التهميش من الجوانب غير المعرفية مثل الفن والدين والأخلاق ودورها الجوهري في حياة الإنسان بوصفها جوانب ذاتية وجدانية، أما من منظور موضوعي (بين ذاتيinter-subjective  )  فإن الادعاءات المعرفية -أقصد القضايا التي يمكن أن توصف بالصدق أو الكذب- لا يمكن الوصول إليها إلا بآليات منهجية تسوغ هذه الاعتقادات لكي يمكن أن نعتبرها “معرفة”، فالمعرفة اعتقاد صحيح مبرر، والاعتقادات غير المبررة لا يمكن أن تسمى معرفة، فأنا يمكنني أن أعتقد أن صوت أم كلثوم أفضل من صوت فيروز، ولكنني لا أستطيع تسويغ هذا الاعتقاد معرفيًا، لا أستطيع أن أشير إلى الطرق المنهجية التي اتبعتها للتوصل إلى هذا الاعتقاد حتى إذا كنت تختلف معي في هذا الادعاء يمكنك أن ترجع إلى تلك المبررات المنهجية لترى هل هناك مبررات كافية لتسويغ هذا الاعتقاد أم لا! لكن الحديث مثلًا عن عدد أغاني أم كلثوم و عدد الحضور الذين كانوا يحضرون حفلاتها، والمقامات التى تغني بها، والآلات المستخدمة في فرقتها، كل ذلك أمور موضوعية يمكننا إذا اختلفنا حولها أن نعود إلى الأدلة ونرى أي منا يقدم ادعاء يتسق أكثر من الوقائع المتاحة، هكذا تكون قضايا الفن و الجمال و القيمة قضايا ذوقية ذاتية لا يتم التوصل إليها بطرق منهجية تتتيح إمكانية المراجعة و إعادة الاختبار ومن ثم التحقق (الكلاني) أو التأييد أو التكذيب، بينما يكون كل ما يتم التوصل إليه بطريقة منهجية موثوقة هو علمًا وهو بهذا المعنى يشمل كل الجوانب المعرفية الإنسانية، فلا مجال للحديث عن أنواع من المعرفة ذات خواص مستقلة، ومن ثم مناهج مختلفة للوصول إليه.

  • (1.3) هل يفسر العلم كل شيء؟

إن أفضل إجابة على هذا السؤال ينبغي أن تكون “العلم لا يفسر كل شيء (بنفس الدرجة)، ولكن كل شيء مُفسّر هو علمي بالضرورة”

فلا معنى لكلمة التفسير إلا في حدود المنهج العلمي (بمعناه الواسع الذي يتضمن الفلسفة و المنطق و الميتافيزقيا)، ولكن العلم لا يملك إجابات نهائية وشاملة لجميع الأسئلة، وما لا يفسره العلم بصورة شاملة لا يعني أنه يقع خارج حدود العلم من حيث المبدأ، أو أننا لا نعلم عنه شيئًا، ولكننا نكوّن حوله الفرضيات المؤقتة و أشباه النظريات quasi-theories حتى تزداد معرفتنا عنه مع الوقت وتترابط في رؤية شاملة داخل مخططنا المفهومي.

التفسير العلمي يتفاوت في الدرجة و الشمول، والتفسير العلمي يكون بِـ رد مجموعة من الظواهر أو النظريات المبدئية إلى إطار نظري أكثر عمقًا وشمولًا وتتمثل الوظيفة التفسيرية للعلم في عملية الربط والتشابك بين النظريات العلمية في مخطط مفهومي شامل، فلا يوجد شيء غير مفسر على الإطلاق، كما لا يوجد أيضًا شيء مفسر بشكل نهائي و مطلق، هناك فقط أشياء لها تفسيرات أكثر ثبوتًا و اتّساقًا من تفسيرات أشياء أخرى،  وتختلف القوة التفسيرية للفرضيات والنظريات العلمية أولًا من خلال درجة استيعابها لأكبر قدر ممكن للظواهر وثانيًا من خلال ترابطها منطقيًا مع بقية النظريات والفرضيات في الشبكة المعرفية.

إن القابلية للتطور والتعديل المستمر (fallibility اللاعصمة) للحقائق العلمية إحدى أهم سمات المعرفة العلمية، فالمعرفة العلمية ليست نهائية ولا مطلقة ولكنها مفتوحة دائمًا للتعديل والتطوير، وهناك ظواهر بالتأكيد لا نعلم عنها الكثير، وهذه المناطق شبه المظلمة في النسق العلمى تؤسس لما يُعرف بـ الفجوة التفسيرية.explanatory gap وهو ادعاء يستخدم أحيانًا كحجة بعدم كفاية المنهج العلمي للإجابة عن كل الأسئلة المشروعة، ومن ثم اقتراح وجود مناهج أخرى يمكنها الإجابة عن الأسئلة التي يعجز العلم عن الإجابة عليها (مثل الميتافيزقيا التأملية مثلًا).

نحن نفهم ظواهر الإحساس أكثر مما نفم الوعي، ونفهم قوانين الأجرام السماوية أكثر مما نفهم الثقوب السوداء، ونفهم التطور أكثر مما نفهم نشأة الحياة، ولكن ذلك لا يعني أننا لا نملك أي فكرة عن الوعي أو الثقوب السوداء أو نشأة الحياة، أي لانملك أي تفسير علمي لهذه الظواهر ونصفها أنها “ظواهر خارج إطار العلم” ومن ثم يجب أن نلجأ إلى طريق معرفي آخر لتفسير هذه الظواهر، بالعكس إننا نستدل إلى أفضل تفسير ممكن (Inference to the best explanation (IBE) ) عندما نحاول تفسير أي ظاهرة، ونختار النظرية الأبسط والأكثر hستعيابًا لتنوع الوقائع وفي نفس الوقت التي تكون أكثر اقتصادًا أنطولوجيًا، وكلما ارتبطت النظرية بروابط منطقية أكثر بالنظريات الأخرى والمحيط الحسي كانت نظرية أكثر ثبوتًا وأقل عرضة للتغيير في المستقبل، و كلما كانت هذه العلاقات أقل كلما افترضنا أنها فرضية تعتبر نموذج أوليّ لتفسير الظاهرة يمكن أن يتطور ويتعدل في المستقبل.

و إذا كان لدى أي شخص تفسير آخر لبعض هذه الظواهر يستوعب قدر أكبر من الظواهر ويرتبط منطقيًا ببقية معرفتنا عن العالم فهو دائمًا مٌرحبًا به لتقديم تفسيره هذا وربما يحصل على جائزة نوبل، ومن خلال هذا يتطور العلم، فالتفسيرات العلمية لا تدّعي أنها تفسيرات نهائية ومطلقة، ولا يوجد ادعاء علمي واحد محصن بشكل أولي من النقد والتعديل (ولا حتى قوانين المنطق) ولكن على العكس تقديم تفسيرات غير علمية، أي لم يتم التوصل إليها بأي طريقة منهجية كائنة ما كانت، ولكنها قائمة بشكل كامل على التأمل speculations والحدوس Intuitions ولا ترتبط بأي شكل منطقي مع رؤيتنا المعرفية الحالية عن العالم ولكنها تتجاوزها، كيف يمكن أن نسمي ذلك تفسير؟ فكل تفسير هو تفسير علمي بهذا المعنى، لأن أي تفسير آخر للظواهر هو ليس تفسير على الإطلاق، أي إنه لا يقدم أي وظيفة تفسيرية على الإطلاق ولا يجعل الظواهر مفهومة بشكل أفضل ومتسقة مع بقية معارفنا، وإنما هو اعتقاد غير مسوغ ودوجما غير نقدية يتم التوصل إليها بدون آلية منهجية ولا يوجد سبيل لمراجعتها.

———————————————————

I. 	   لاحظ الطبيعانية لا تترادف مع المادية ، فمفهوم المادة ناتج عن النظرية العلمية و ليس سابق عليها ، و انطولجيا الكائنات المادية تبدأ بتصور الحس المشترك عن الأجسام و لكنها تتجاوزه نحو فهم علمي أكثر عمقا، و لا يجب أن نظن أن النظرية الذرية الحالية تتكافئ منطقيا مع الذرية القديمة، أو مع الجوهرية المادية، فالذرة ليست جوهرا بسيطا لا يقبل القسمة بل هي كتل طاقية و تتفتت إلى جسميات أولية، و الجسيمات الأولية هي كمات طاقية أبعد ما تكون عن المفهوم العادى لكلمة مادة و تخبرنا نسبية اينشتين العامة ان المادة تتحول إلى طاقة و العكس. ضف إلى ذلك أن الفيلسوف الطبيعي ليس مجبرا على تضييق إلتزامه الأنطولوجي ليسمح فقط بما نعتبره مادة و فقا للنظريات الفيزيائية ، فهو قد يقبل بمقولات أخرى فيقبل مثلا بوجود الطاقة ، أو القوة ، بل و حتى الكيانات الرياضية مثل الفئات و الأعداد – كما يفعل كواين، فالطبيعانية لا تساوى المادية أو الواقعية المباشرة ولا تعنى حصر الموجودات على ماهو محسوس و عيني في الحس المشترك، بل إن ما هو محسوس و عيني نفسه ليس معطى مباشر بل هو إطار نظري لإيستيعاب الخبرة الحسية... فالسؤال الانطولوجي المنطقي " ما ذا يوجد" لا تكون إجابته متاحة إلا من داخل العلم نفسه.، 
فيقول كواين في نص شهير : " الكائنات المادية، تم ادخالها مفهوميا كوسائط مناسبة ، ليس -من حيث التعريف- كوقائع تجريبية ، ولكن ببساطة كمواضعات (فرضيات) غير قابلة للإختزال ( اي لأن ترد الى خبرة تجريبية مباشرة) ، يمكن مقارنتها معرفيا بآلهة هومريس. بالطبع انا كتجريبي اعتقد الكائنات المادية ولا اعتقد بآلهة هومريس  بل أنني اعتبر الإيمان بآلهة هوميرس خطأ علمي. لكن من ناحية التأصيل المعرفي ، لا تختلف فرضية الكائنات المادية و فرضية الآلهة من حيث النوع، ولكن فقط من حيث الدرجة. كلا الأمرين يدخل في فهمنا كمواضعات ثقافية، أسطورة الكائنات المادية اعلى معرفيا من باقى الاساطير فقط من حيث أنها قد اثبتت انها اكثر كفائة كآداة لتكوين بنية ناجحة لاستيعاب المعطيات التجربية.
لاتقتصر الإفتراضات على الاشياء المادية العينية، فعلى المستوى الذري يتم أفتراض وجود كيانات لجعل قوانين الاشياء الكبيرة، وأخيرا قوانين الخبرة، بصورة أكثر بساطة وسهولة، والعلم استمرارا واستكمالا للحس المشترك، وهو يستمر في تطبيق حيلة الحس المشترك، تضخيم الأنطولوجيا  بغية تبسيط النظرية.
وليست الأشياء الفيزيائية كبيرها و صغيرها، هي وحدها الكائنات الموضوعة بالإفتراض، فالقوى مثل آخر، والواقع هو أنه يقال لنا في الوقت الحاضر، أن الحدود الفاصلة بين الطاقة و المادة قد عف عليها الزمن، علاوة على ذلك، إن الكائنات الرياضية التي هي جوهر الرياضيات - أي الفئات وفئات الفئات صعودا- هي كائنات موضوعة إفتراضيا بنفس الروح. تعتبر هذه من وجهة نظر نظرية المعرفة، أساطير بمستوى الأشياء الفيزيائية والآلهة، لا أفضل و لا أسوأ منها ما عدا إختلافهما عنها بدرجة تيسيرها تعاطينا مع الخبرات الحسية."”   عقيدتان للتجريبية – من كتاب من وجهة نظر منطقية ص 45
II.	  كواين – عن ماهو هناك – من كتاب من وجهة نظر منطقية ص 19
III.	  كواين – الكلمة و الشيء ص 23
IV.	  كوين – عقيدتان للتجريبية – من كتاب من وجهة نظر منطقية  ص 42
V.	  كواين – عن ماهو هناك – من كتاب من وجهة نظر منطقية ص 16، 17 و عقديتان في التجربية ص 45
VI.	  د. صلاح إسماعيل – نظرية المعرفة المعاصرة ص 187

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد يوسف

تدقيق لغوي: آلاء الطيراوي