الحالة النفسية وتأثيرها على الجسد (مترجم)
كيف تتجسد الصدمات النفسية على هيئة أعراض جسدية؟
“لربما يعود هذا كله للقلق الذي يعتريك.”
” “أتَظن ذلك؟ أعترف أنني قَلِقٌ، إلا أنني أشعر أن القلق هذا بسبب إحدى أعراض المرض الذي أُصِبتُ به أكثر من كونه السبب وراء ظهور هذا العارض”.
“رغم ذلك، فكّر بالأمر مليًّا”.
خُضتُ وصديقي الطبيب وزميلي في المهنة نقاشًا حول شعوري المفاجئ بالغثيان الذي بدأ يعتريني بعد ما يُقارب ثلاثة أسابيعٍ من خروجي من المستشفى -كما وضّحت سابقًا في مقالٍ حول “التغلب على الخوف من الموت“. بعد انسداد إحدى شرايين رئتيّ وإصابتي بالانصمام الرئوي، عانيت من التهاب المطثية العسيرة، مما تطلب أن ألجأ لدواء “فلاجيل” الذي يُعرف بأنه يُسبِّبُ الغثيان. إنّ الاستنتاج الذي وصلتَ إليه بأنّ “فلاجيل” هو سبب شعوري بالغثيان غير دقيق، نظرًا لأنّني تناولته لأسبوع كامل دون شعوري بالغثيان -فضلًا عن أنني تناولت الدواء ذاته سابقًا بكامل جُرعاته ودون الشعور بالغثيان في المرة الأولى التي عالجني الأطباء فيها من التهاب المطثية العسيرة. فلماذا ظهر هذا العارض بعد تناول الدواء بكامل جرعاته وبعد أسبوع كامل خالٍ من الغثيان؟
لا يحدث هذا عادةً، إذ تظهرُ الأعراض الجانبية للأدوية فور وصول الدواء للمستوى العلاجي في مجرى دم المريض، إن لم يكن قبل ذلك. ومِن النادر أن تتجاوز هذه المدةَ أيامًا معدودة عند تناول المضاد الحيوي. كان الغثيان شديدًا لدرجةٍ تمنعني عن الحركة . أثناء طفولتي، كنت أعاني أحيانًا من اضطراب في المعدة -وكأنه يوجد في معدتي فراشات تضرب أجنحتها بعنف. إلا أنّ وطأة الشعور الذي كان يعتريني في الفترة الأخيرة أضعافُ ما كنت أشعر به منذ صغري. كنت قادرًا في صغري على تحديد كيفية ارتباط التوتر الذي يعتريني بأي عارض جسدي يظهر -كالتعرق أو احمرار وجنتي أو تسارع دقات قلبي أو الفراشات التي تتطاير داخل معدتي. إلا أنني لم أجد رابطًا بين التوتر الذي أشعر به والغثيان الذي يعتريني. إلا أنني أخبرت صديقي الطبيب أنني قد أقتنع بصحة تفسيره الذي بدأت مقالي هذا بذكره. اقترح عليّ صديقي أن أتواصل مع طبيبٍ نفسي مختصٍ في اضطرابات القلق، وفي اليوم التالي أخذت باقتراحه.
توصل الطبيب بدوره إلى التشخيص التالي: اضطراب ما بعد الصدمة من النوع الطفيف (كما وضحت في مقالي بعنوان “التغلب على الخوف من الموت”)، كما ووصف لي كلونازيبام -دواءٌ مضادٌ للقلق طويل المفعول. ومما أذهلني أنّ الغثيان تلاشى واختفى بعد جرعة واحدةٍ فقط من كلونازيبام. اعتقدت سابقًا أنني أعرف ذاتي وردود فعل جسدي بشكل تفصيليٍّ، لهذا تفاجأت بشدة لما حدث؛ إذ أنّ ذلك أثبت لي أن السبب وراء الغثيان الذي كنت أشعر به هو ودون أدنى شك القلق الذي يعتريني.
ما هو اضطراب الجسدنة؟
اضطراب الجسدنة هو تجسد الأعراض النفسية لدى المرء على هيئة أعراض جسدية. تم إجراء دراسة تحتوي عينتها على 1,000 مريض يتم متابعتهم على مدار ثلاث سنوات يشتكون من 567 شكوى مرضية حول 14 عارض مرضي (كآلام في الصدر والإرهاق والدوخة والصداع واحتباس السوائل في الجسم وانقطاع النفس ووجع في المعدة والخدران والعجز الجنسي والأرق وخسارة الوزن والسعال والإمساك)، ووجدت الدراسة وجود سبب جسدي يمكن تشخيصه للأعراض آنفة الذكر في 16% فقط من الحالات. وهذا لا يعني أنّ 16% فقط من الشكاوى الطبية لها سبب جسدي يمكن تشخيصه والسبب وراء ال 84% الباقية هو سبب نفسي- جسدي لا يمكن تشخيصه بسهولة. إلا أن ذلك يعني وبكل بساطة أنّ 84% من الأعراض لم يُحدد لها سبب جسدي ملموس. فنحن على سبيل المثال لم نتوصل إلى السبب وراء الصداع النصفي؛ إلا أن هذا لا يعني أن نتوصل إلى استنتاج مفاده أن السبب الصداع النصفي هو سبب نفسي بحت.
ووجدت دراسة أخرى أنّ حوالي 20% من المرضى الذين يلجأون لطبيب الرعاية الأولية يعانون من أعراض جسدية ذات أسبابٍ نفسية بحتة. ومما أثار الدهشة لديّ أنّ الجسدنة أمرٌ واقعٌ يمر به البعض، هذا بالإضافة إلى السمات المتعددة التي تتصف بها الجسدنة، التي يتضمن بعضها وجود استعداد وقابلية لدى الفرد لأن يضخم من الأعراض والفوائد المحتملة التي تعود على المرء إثر التظاهر بالمرض والتأثيرات النفسية التي تتبع الصدمات النفسية. إنّ الصلة بين الدماغ والجسد وثيقةٌ كاتصال التوأم بتوأمه، إذ يُرسِل الدماغُ تعليماتٍ وإشاراتٍ لا تُعدُ ولا تُحصى للدماغ في كل ثانية، وبدوره يستقبل الدماغ هذه التعليمات والإشارات ويرسل ما يعادلها تقريبًا. ويَعتَبِرُ البوذيون الدماغ والجسد “كيانين ليسا باثنين”، وهو مفهوم ابتُدِع خصيصًا ليعكس بشكل جزئي الترابط والتداخل المعقد بينهما. كما وبدأت الأدلة بالتراكم حول مبدأ ينص بأنّ الدماغ والعقل هما كذلك “كيانين ليسا باثنين” -كما وضّحتُ سابقًا في مقالٍ بعنوان “السبب الحقيقي وراء الاكتئاب“. لذلك نرى أنّ الفكرة التي تنص على احتمالية تجسد الاضطراب العاطفي على هيئة أعراض جسدية ليست بالفكرة المستحيلة.
وفضلاً عن القراءة عن اضطرابات التحويل، فقد رأيتهم بأُمِّ عيني. وتشير اضطرابات التحويل إلى الحالة التي يتجسد فيها الألم الناجم عن صدمة نفسية عنيفة لا يمكن مجابهتها على هيئة شلل في إحدى أطراف الجسد أو عدم القدرة على التحدث أو التحريك المستمر لإحدى أطراف الجسد أو جميعها أو عدم القدرة على التحكم بها. إلا أنني استصعبت تقبل هذه الحقيقة عندما ثبت أنّ السبب وراء شعوري بالغثيان هو سبب نفسيٌّ بحت. إذ تطلّب الأمر دليلًا دامغًا لأتقَبَل الأمر. وتلا تقبلي للأمر شعورٌ عارمٌ بالرهبة والذهول -رهبةٌ مِن القوة المتأصلة داخلي. نظرًا لأن لدي فهمٌ أعمق للصلة والترابط بين الدماغ والجسد بصورة أشمل مما يفهمه عامة الناس باعتبار أني طبيب يتبع البوذية، فقد لُمتُ نفسي مُفكّرًا: “لمِ ظننت أنّ القلق الشديد الذي يعتريني محصورٌ في ذهني فحسب دون تأثير ذلك على جسدي؟”. إلا أن ذلك يُثبت مرة أُخرى أنّ فهم الشيء بشكلٍ مُجرّد مختلف تمامًا عن المرور بالتجربة بشكل شخصيّ.
إلا أني بِتُّ الآن مدرِكًا أن الأعراض الجسدية التي ألاحظها لدى مرضاي هي أعراض ذات أصل نفسي (أعراض جسدية- نفسية)، والأهم من هذا كُله أنني أصبحتُ أكثر تعاطفاً معهم وتفهمًا لسبب رفضهم ومقاومتهم لفكرة ارتباط العرض الجسدي الذي لدى الواحِد منهم بعاملٍ نفسيٍّ خفي. وعلاوةً الى ذلك، فإنه من الصعب تصنيف الأعراض التي تظهر لدى المريض إلى أعراض ذات سبب نفسي غير ملموس وأعراض ذات سبب جسدي ملموس. ولهذا أشعر بالقلق حيال المرضى حينما يسعون إلى تصنيف السبب إلى نفسيٍّ أو جسديٍّ دون استشارة طبيب. فقد تكون آلام الصدر ناتجةً عن القلق -وهو الاستنتاج الذي قد أتوصل إليه أنا وتتوصل أنتَ إليه نظرًا لأنكَ قمت بتأجيل زيارتي كطبيب إلى أن يُصبح الألم لا يُحتمل ولا يُطاق- إلا أنها قد تكون أزمة قلبية في طريقها إليك. ولذلك يتعيّنُ أن يتمَّ النظر في تفاصيل الحالة وتأملها بشكلٍ وافٍ وحذرٍ شديد للتفريق بين السببين آنفي الذكر. لا يُمكِن أن تصِل لتشخيص حالتك بشكل فردي مهما ظننت أنّك “تعرِف جسدك”، إلا أنني أؤمن حسب خبرتي أنّ تلك الجملة التي تتكرر على مسامعي ليست صحيحةً مئة بالمئة رغم دِقّتِها.
حتى وإن تقبّل المريض حقيقة أنّ الأعراض التي لديه يعود سببها إلى عاملٍ نفسيٍّ -وهو حاجز يصعب جدًا تجاوزه- فالصدمة التي تسببت بها الأعراض بدايةً تكون فظيعةً للغاية لدرجة أنّ المريض وطبيبه على حد سواءٍ يتفهّمان السبب الذي دفع الدماغ إلى تحويل الصدمة النفسية إلى عارضٍ جسديّ؛ فالدماغ على تعقيده صدّق أنّه من الأسهل تقبل الصدمة النفسية بهذه الطريقة. غالبًا ما تتحسن الأعراض الجسدية عند تناول الدواء، إلا أنّ الصدمات النفسية تتطلب سنواتٍ طِوال ليُشفى منها الإنسان -هذا إن تعافى المرء منها من أصله- فالتطور الذي وصل إليه العِلم في علاج الندوب النفسية -رغم التقدم الذي وصل إليه علم النفس- لا يزال متخلِّفًا عن التطور الذي وصل إليه العِلم في مجال علاج الأمراض ذات الأسباب الجسدية الملموسة. إلا أنّ هذا لا يجب أن يُثبِّط من عزيمتنا. فجميعُنا مُعرّضون للإصابة بأعراض جسدية ذات أسبابٍ نفسية إلى حدٍّ ما، ولكن تقبل حقيقة تعرضنا لأعراض مُشابهة لَهُوَ الخطوة الأولى نحو التخلص منها. فكيفَ يُمكِنُك أن تجِد العدساتِ اللاصقةَ التي فقدتها في مكانٍ ظليل بينما تبحث عنها أسفلَ عمودِ الإنارة؟ فالعمل بجدية يبدأ حينما نبحث في المكان المُناسب. التعامل مع الأعراض الجسدية ذات الأسباب النفسية يتطلب أمرًا واحدًا فحسب: الشجاعة المُطلَقة. ويتعين عليّ هنا أن أُنوِّه إلى ما يلي: عندما يعجز العديدُ الأطباء عن تشخيص إحدى الأعراض الجسدية، يلجأون بشكلٍ فوريٍّ إلى أنّه ذو سبب نفسي بحت دون بذلِ أي مجهود في التنقيب عن التجربة أو السبب النفسي وراء ذاك العارض -كما ذكرت سابقًا في مقالٍ بعنوان “عندما يعجز الأطباء عن تشخيص المرض“.
وصف لي الطبيب دواء “كلونازيبام” الذي استمررت عليه لأشهرٍ عِدّة إلى أن قطعته تدريجيًا عندما قلت خطورة وضعيَ الصحيّ. ورغم أني لم أتوصل بعد إلى السبب وراء ما حلَّ بي، إلا أنني لم يعد يطاردني شبح الخوفُ من الموت -والذي اختفى معه القلق الشديد الذي أثاره خوفي ذاك. عَزَمتُ منذ ذاك اليوم على معرفة الحقيقة؛ هل نحن كائناتٍ ذات وجود أبدي مضيء يستمر وجودها بصورة واقعية -تجسدًا يتلو الآخر- كما تنص البوذية أم لسنا كذلك؟ أَعي أنني قد أقضي الفترة الباقية من عمري باحثًا عن الإجابة وأنني قد لا أعثر عليها رغم ذلك، إما بسبب قصورٍ لدي أو لأنّ الإجابة غير موجودةٍ من أصله. ولكن ما الذي يمكن لأيٍّ مِنا القيامُ به عدا عن محاربة شياطيننا إلى أن نَصرَعها أو تصرَعَنا؟
نرشح لك: آليات الدفاع النفسي الشائعة في محاربة القلق
المصدر https://www.psychologytoday.com/intl/blog/happiness-in-world/201003/psychosomatic-symptoms