الجوكر.. قصة ما قبل الشر
لأن هناك وُدًّا مفقودًا بيني وبين المزاج العام، أو “الترند” كما يتم تسميته هذه الأيام، وخاصة في مسألة الأفلام السينمائية، فغالبًا تلك الأفلام التي تحصل على شعبية واسعة، تصيبني بخيبة أمل. لذلك عندما ذهبت لمشاهدة فيلم الجوكر الأخير -إنتاج 2019- لم يكن في ذهني سوى رغبة في مرافقة أصدقاء أعزاء افتقدتهم مدة طويلة، وبالفعل كانت الصحبة رائعة، ولكن المفاجأة الحقيقية كانت الفيلم ذاته..!!!
لم أكن أتصور أنني بصدد فيلم استثنائي -بالنسبة لي على الأقل- على مستويات عدة ومتباينة، لم تكن المسألة مجرد مشاهدة ممتعة أو قصة مثيرة أو حبكة فائقة، ولكن الأمر تجاوز كل ذلك لتصبح مشاهدة هذا الفيلم تجربة كاملة تلمس أعمق المستويات داخل نفوسنا، وتزلزل الكثير من أفكارنا بل ومسلمتنا. وأستخدمُ هنا صيغة الجمع لأن ما شعرت به فعلًا هو أن تجربتي مع هذا الفيلم لم تكن مطلقًا فردية، بل هي تجربة عاشها جميع من كانوا معي في صالة العرض.
في حلقة برنامج اليوتيوب -الأشهر عربيا- “الدحيح” عن فيلم الجوكر، انصبت محاولة أحمد الغندور لتحليل أسباب ذلك النجاح الانفجاري لهذا الفيلم على إرجاعها لأسباب سيكولوجية، تجعلنا نتعاطف مع القاتل والمجرم والشرير، وقارن ما سماه بالتعاطف الذي حدث مع الجوكر بحالات سبقتها، تعاطف فيها الناس مع مجرمين في أعمال أخرى بسبب تقنيات يتم استخدامها في الإخراج والحبكة الفنية. وربما كانت محاولة الغندور جيدة ومفيدة من زاوية ما، ولكن تقديري الخاص أنها وقفت عند سطح الظاهرة، ولم تنفذ إلى جوهرها والتيارات التي تنساب متدفقة في عمقها.
إن شخصية الجوكر ظهرت لأول مرة سنة 1940 كأحد أبشع الأشرار الذي يتصدى لهم ويواجههم البطل الأسطوري باتمان. إن الجوكر، ذلك الشرير الذي يضحك بفرحة ونشوة عميقة ويستمتع أشد الاستمتاع بأعمال القتل والتدمير، مستوحى من الشخصية التي قام بها الممثل كونراد فيد Conrad Veidt في فيلم الرعب الصامت “الرجل الذي يضحك the man who laughed”، الذي عُرض في عشرينيات القرن الماضي، عن قصة شخص شوه وجهه فأصبح يضحك دائمًا. كان هدف مبتكري شخصية باتمان، بوب كين وبيل فينجر، صنع شرير معقد وغير متوقع، يفعل الشر من أجل الشر ذاته، بلا أي هدف أو رغبة في تحقيق مصلحة أو منفعة خاصة من وراء هذا الشر!! وهكذا فقد كان الهدف هو صنع النقيض التام لباتمان الذي يعيش حياة سرية ويكرس ثروته ويخاطر بحياته من أجل الأخرين، بلا أي مصلحة أو طموحات شخصية، حتى مجد الشهرة والشعبية يضحي بهم عن طيب خاطر، ولا ينتظر أي مقابل..!!!
إننا هنا أمام ثنائية الملاك (باتمان)/الشيطان (الجوكر)، خيرٌ محض في مقابل شرٌ محض. وفي محاولة لتبرير تلك الطاقة الشريرة المعتمة التي تقود الجوكر، أرجع صانعوا القصة الأوائل سبب وجود ذلك السايكوبات الذكي جدًا ذو الحس الفكاهي السادي، إلى سقوطه من قبل في خزان نفايات كيميائية بيضت جلده وحولت شعره إلى اللون الأخضر وشفتيه إلى الأحمر اللامع، معطية إياه مظهر مهرج، ومسببة له ذلك الاختلال العقلي الذي حوله إلى شرير محض، لا يفعل شيء سوى القتل والتدمير وترويع المجتمع وهدمه بأي طريقة وبكل سبيل.
هكذا نرى أن مبتكري الشخصية الأصليين بدأوا من نقطة شديدة المباشرة والتبسيط لتشكل تلك الشخصية وانطلاقها. والهدف -فيما أعتقد- تجاهل أسباب ظهور ما يسمى بالشر، وإرجاعه إلى الصدفة أو إلى اختلال طارئ في الوجود وتعثر غير مقصود في النظام. وهنا نقطة الخلاف الجوهرية والمباينة والمفارقة التي انطلق منها المخرج تود فيليبس، والذي شارك في كتابة السيناريو مع سكوت سيلفر، في صنع فيلم الجوكر الأخير. فالشر لا ينبثق فجأة هكذا من الفراغ، وإذا دققنا وبحثنا، بل وشعرنا وأحسسنا، سنجد أن ما نسميه بالشر له جذوره الضاربة في الأعماق، وليس لصدفه أو لخلل عابر. بل إن ذلك البحث وتلك المراجعة ربما تجعلنا نعيد النظر في نظرتنا لما هو خير وما هو شر!!
هذه الرؤية الانقلابية الخطيرة قدمها لنا تود فيليبس وسكوت سيلفر، عبر عملية إعادة بناء واسعة تحمل فهمًا عميقًا، فهمًا يطبع الخيال بمسار حياة الإنسان المعاصر ومعاناته واغترابه، لشخصية الجوكر الذي احتل الرتبة الثانية على قائمة آي جي إن لأفضل مائة أشرار المجلات المصورة في التاريخ.
نجد الفيلم يبدأ بأخبار عن اضراب مستمر لعمال النظافة في مدينة جوثام، فنحن أمام مدينة حديثة لكنها قذرة، وذلك القبح والتدهور المستمر الذي تعيشه جوثام ناتج بالأساس من أزمتها الاجتماعية والصراع المحتد بين فئاتها. وفي مشهد أولي يظهر آرثر فليك، الذي لم يصبح الجوكر بعد، وهو يلبس زي المهرج ويضع مكياجه، ويحمل لافته دعائية لمحل ما ويتراقص بها في الشارع. وبينما هو منهمك في عمله الدعائي يخطف بضع من المراهقين تلك اللافتة منه، ويطاردهم آرثر لاستعادتها، فإذ بهؤلاء الصبية يستدرجونه إلى أحد حواري المدينة الضيقة، ويضربونه بمنتهى الشراسة والعنف..!! فقط لأنهم استفردوا بشخص ضعيف، فكانت الفرصة ليفرغوا فيه شحنات العنف المكبوتة داخلهم.
ثم إن آرثر بعد ذلك وهو جالس في أحد اتوبيسات المدينة المتواضعة يحدق بشرود يائس في السماء، وعندما يجد أمامه طفل أسمر ينظر إليه، يؤدي حركات بيديه ووجه تُضحك ذلك الطفل، لكن يفاجأ برد فعل عدائي من الأم . يزداد غضب تلك الأم ويفور عندما ينطلق ضحك فليك في مواجهة صياحها فيه. فوسط ضحكه يعطيها فيلك بطاقة تشرح لها أنه مصاب بحالة مرضية تسبب ضحكًا فجائيًا متكررًا لا يمكن السيطرة عليه.
هكذا على مدار أحداث تشغل ثلاثة أرباع الفيلم، يتم رصد تطورات شخصية آرثر فليك، المحاط بمجتمع فظ بالغ القسوة، مجتمع مدينة جوثام Gotham Cityالذي تنهار فيه الخدمات وتزداد المدينة قبحًا ونفورًا يومًا بعد يوم. مجتمع ينضح بطبقية مقيتة، حيث يزداد الأثرياء ثراءً وقوةً ونفوذًا، بينما يعيش الفقراء -بل والأغلبية العظمى من الطبقة الوسطى- في أماكن محدودة قبيحة يغلب عليها القذارة. وبالرغم من تلك المأساة التي تعيشها تلك الطبقات، فإنه تصدر قرارات بإنهاء وتصفية الخدمات القليلة والدعم المحدود الذي يقدم لهم. ونرى ذلك عندما يفاجأ آرثر فليك بقول المسؤولة الحكومية عن متابعة حالته، أن المدينة توقف تمويلها عن كل القطاعات، والخدمات الاجتماعية جزء من ذلك. وهكذا يُحرم آرثر حتى من صرف تلك الأدوية الرخيصة التي تمنحها له المدينة ، وتحفظ بعض من توازنه الهش.. إنهم يؤكدون بذلك أنهم لا يأبهون بأشخاص مثلك يا آرثر.. فليذهب ما تبقى من توازنك إلى الجحيم..!!!
من أين تأتي الوحوش..؟؟؟!!!
كيف يُصنع المسخ..؟؟!!!
هل فكرنا يومًا في إجابات لتلك الأسئلة؟؟!!! أم أننا ننشغل بمحاربة تلك المسوخ وقتل تلك الوحوش ولا نقف لنفكر أنه عندما نتخلص من أحدهم يظهر ألف غيرهم…!!!
هذا الفيلم يريد أن ينبهنا إلى ذلك. يريد تحريرنا من ثنائية عمياء اسمها الخير والشر. إن آرثر الذي يعرف كل من يتعامل معه أنه يعاني من اضطرابات نفسية، ولكنهم يعتقدون أنه سيتصرف كأنه ليس مصابًا بها..!! نجد أنه بدلًا من أن يتم مراعاة أزمته ودعمه في مواجهتها، يتم التنمر عليها، فيوصف من الناس بــ الغريب / العجيب. بل وإن كثيرًا ما يتم التمادي، فيُستغل مرضه لتعميق أزمته وإيذائه. فنجد أن راندال -زميل آرثر في العمل- يقدم له مسدسًا، مع أن راندال هذا يدرك جيدًا أن آرثر -بالذات- بسبب اعتلاله النفسي ممنوع من حمل أي سلاح. لكنه منحه له ويحرضه على استخدامه..!! ثم بعد ذلك عندما ينزلق المسدس من آرثر عن غير قصد أثناء تأديته لعرض أمام أطفال في المستشفى، فيعنفه رئيسه على تلك الفعلة ويطرده من العمل، يحاول آرثر أن يبرر ما حدث بأنه جزء من العرض، فيجد مديره يرد بأن راندال زميله قال إنه -أي آرثر- حاول أن يشتري منه مسدس عيار 38 الأسبوع الماضي..!!!
وهكذا فإن حياة آرثر فليك تصير عبارة عن سلسلة من الطعنات المتتالية…
لا يوجد في الفيلم مشهد واحد إلا ويحمل ما لا يعد من المعاني والأدلة الناطقة، التي تبين كيف أن المجتمع يدفع بعنف وبقوة تحول آرثر فليك إلى الجوكر. ولكن أحد المشاهد الانقلابية في الفيلم، هي مشهد اعتداء ثلاثة من الشبان الأصحاء المهندمين على آرثر في عربة المترو. في هذا المشهد، وبينما يوسع الشبان الثلاثة آرثر ضربًا وركلًا وهو ملقى على الأرض، ينفجر غضبه، ويستعمل المسدس -الذي أعطاه إليه راندال- في القضاء على المعتدين الأفظاظ الثلاثة. غضب يُطيِّر ما تبقى من عقله، ممزوج بنشوة الشعور بالذات التي تتجلى في تمزيق انسحاقها، وردها الصارم على العنف الذي يمارس ضدها.
قتل الثلاثة شبان في مترو الأنفاق لم يكن جريمة عادية، فهم موظفون في شركات توماس واين أحد أكبر اُثرياء جوثام، والذي يرشح نفسه لمنصب عمدتها، لكي ينقذها من التردي الذي تغرق فيه. إن الجريمة تكتسب أبعاد اجتماعية وسياسية بل وثقافية عميقة. فبينما يدين واين وطبقته وحشية المعتدي، ويعتبره ممثلًا لهؤلاء الفشلة الذين يحركهم حسد قاتل نحو الناجحين والمتحققين في هذا المجتمع، نجد على الناحية الأخرى مظاهر تأييد شعبي للقاتل الذي كان يضع أصباغ مهرج، ويصبح بطلهم الشعبي ورمزهم الذي يردع تلك الفئة المحتكرة للثروة والنفوذ، ويقْدم على ما كان يريد الكثير منهم أن يفعلوه..
عاش آرثر فليك وهو يشك في وجوده ذاته بسبب التهميش والاحتقار الذي يواجهه في كل خطوة في حياته، قتله لرجال توماس وين الثلاث، وردود الفعل التي حولته إلى بطل؛ جعلته يشعر لأول مرة بوجوده. ويتبع إثر ذلك سلسلة من الاحداث تكشف لنا عن يأس حياة فليك بل وفساد المجتمع كله. تلك الأحداث وتفاعلات الخاص مع العام هي التي تفجر لنا وتبلور -بنهاية أحداث الفيلم- شخصية الجوكر كما نعرفها الآن.
إن الجوكر ليس نتاج خطأ في الطبيعة، بل هو إفراز طبيعة خاطئة.. هو ابن نظام تحول فساده إلى قيح وصديد يسري في جسد المجتمع فيسمم كل خلية فيه.
ويُطرح السؤال من جديد..
هل باتمان الذي يسعى للحفاظ على النظام المسموم المتداع لمدينة جوثام هو ممثل الخير والحق الخالص؟؟!!!
وهل الجوكر الذي يعتبر نتاج أوضاع مدينة جوثام نفسها، فتضرب أعماله المريعة أسس نظامها، هو الشر والباطل الخالص؟؟!!!
إنها دعوة أن تتم مشاهدة الفيلم في ضوء كلمات هذا المقال، ويتم قراءة المقال من خلال روح هذا العمل الفني، ونعكس ذلك على أنفسنا وأوضعانا.. لعلنا نقترب من الاجابة على سؤال.. من أين يأتي الشر؟؟
سؤال.. ما قبل الشر