انتصار السهولة: هكذا صنعت السوشيال ميديا بطلها
في الأيام القليلة الماضية ظهر علينا الفيلم الأمريكي الجوكر “Joker” ليحدث ردة فعل واسعة في أوساط السوشيال ميديا ويحقق أرباحًا خيالية وصلت لنصف مليار دولار فقط في الأيام الأوائل من عرضه. وقد حاز الفيلم على إعجاب الشريحة الأكبر ممن شاهدوا الفيلم وهذا ما كان من السهل معرفته من خلال متابعة ما يدور عن الفيلم عبر منصات السوشيال ميديا. وانهالت علينا المقالات والتدوينات التي تشرح وتحلل الفيلم والتي تصفه بأنه تحفة فنية غير مسبوقة وعمل سينمائي متكامل، ولكن استوقفتني بشدة إحدى الجمل في مقال من المقالات وصفت الفيلم بأنه تجربة سمعية وبصرية و”روحية” متكاملة! ربما تلك الجملة تحديدًا هي ما دفعتني لكتابة ذلك المقال.
الرجل الأوحد
لا شك أنه كان مبهرًا ذلك الأداء الذي قام به خواكين فينيكس بتجسيده شخصية الجوكر، إتقان أقل ما يقال عنه أنه استنثائي، تقمص للشخصية بأدق تفاصيلها حتى أنه استطاع منافسة زميله الراحل هيث ليدجر الذي جسد شخصية الجوكر في فيلم The dark knight باحترافية منقطعة النظير، والتي توقع النقاد أن مثل ذلك الأداء سيقوم بوضع حمل كبير على عاتق من سيقوم بتجسيد تلك الشخصية مرة أخرى، وحتى سيكون من الصعب التفوق عليه بتجسيد دور أي شخصية سيكوباتية بأبعاد نفسية.. حتى جاء خواكين فينيكس ليقدم أداءً أبهر الجميع، حتى أنه ذهبت بعض الآراء إلى أن جوكر خواكين أكثر اتقانًا واحترافية من جوكر هيث!
ولكن هل ذلك يعد كافيًا من أجل وضع فيلم الجوكر في تلك المكانة؟
ربما ستكون الإجابة نعم لو أننا نتحدث عن عمل مسرحي والذي يعتمد بشكلٍ رئيسي على أداء الممثلين ودرجة تقمصهم للشخصيات، ولكن للعمل السينمائي مقاييس أخرى تُمكّننا من تقييمه، مثل القصة والسيناريو والموسيقى التصويرية والإخراج والعديد من المقاييس الأخرى.
تلك الأبعاد التي ظهرت بمقاييس السينما الأمريكية جيدة، وليست أكثر من جيدة، لم يكن هنالك ما هو مبهر بأيٍ من تلك الأبعاد. القصة برمتها ليست بالجديدة على السينما، فقط قامت القصة بإلقاء الضوء على الطريق التي سلكها الجوكر حتى يتحول من مُهرّج وديع يستمتع بإضحاك الأطفال إلى قاتل لا يعرف معنى الرحمة، أما السيناريو فقد كان متوقعًا بشكل كبير، التعرُّض لمواقف وأزمات في حياته وضغط من المجتمع ستجعله يفقد تعاطفه تجاه البشر ويتحول إلى مجرم.
ولكن حتى ذلك السيناريو لم يأتِ بشكلٍ مُتقن، أو على الأقل لم يأتِ بالشكل الذي يتناسب مع ردة الفعل القوية تلك. وهذا يظهر جليًّا في ذلك المشهد الذي قام فيه الجوكر بقتل ثلاث شبان في القطار لأنهم اعتدوا عليه بالضرب، كيف يمكن أن يكون رد الفعل على الاعتداء بالضرب هو القتل؟ وليس القتل فقط للدفاع عن النفس، ولكن الإصرار على القتل، وهذا يتبيّن لنا عندما فَرّ منه أحد الشبان هاربًا وتبعه الجوكر مسافة كبيرة حتى تمكن من قتله في النهاية.
كيف يمكن تبرير ذلك من خلال أي سياقٍ فلسفي كان؟ كيف يمكن تحليله والخروج منه باستنتاجات مبنية على أُطر عقلانية أو منطقية؟ وبالرغم من ذلك رأينا العديد والعديد من المقالات التي تحاول الخروج باستنتاجات فلسفية من ذلك الفيلم. ربما لا يمكن تبرير ذلك إلا من خلال المنظور النفسي فقط، وذلك سيكون منطقيًا ومقنعًا إلى حد كبير. فقط الضغط الذى أدى في النهاية إلى الانفجار، أو القشة التي قسمت ظهر البعير. هو فقط إنسان مضطرب نفسيًا، وليس فيلسوفًا!
أما فيما يختص بالموسيقى التصويرية والإخراج والعوامل الأخرى جاءت عادية بشكل كبير، ولكن ليست بالأسطورية، الموسيقى التصويرية ليست مقطوعة لإينيو ماريكونى مثل تحفته الخالدة لفيلم Godfather مثلًا، هي فقط مناسبة لأحداث الفيلم ومتناسقة ليس أكثر من ذلك، والإخراج أيضًا لم يكن بالمبهر، لم يكن هنالك ما هو “عبقريٌ” في الفيلم سوى أداء خواكين فونيكس.
فكيف يمكن وضع هذا العمل السينمائي “الجيد” في مصاف الأعمال الأسطورية؟ إذًا ربما هنالك عوامل أخرى!
السينما تعج بالمجانين
هل يمكن أن يكون ما وضع الفيلم في تلك المكانة أن الشخصية التي قدمها الفيلم هي شخصية استثنائية، أو لم يبسبق أن ظهرت على شاشة السينما من قبل؟ وقبل أن نجيب عن ذلك السؤال علينا أولًا أن نُفرّق بين الشخصية وتجسيد الشخصية، أي الشخصية المكتوبة في أوراق السيناريو، أو النص المؤسس للشخصية، وبين أداء الممثل الذي جسد تلك الشخصية.
ذكرنا مسبقًا أن أداء خواكين فينيكس كان استثنائيًا، ولكن هل كانت الشخصية كذلك؟ إذا عدنا إلى تاريخ السينما في هوليوود سنجد العديد من الشخصيات المشابهة لشخصية الجوكر على مستوى الاضطراب النفسي وباختلاف أسبابه. لن نذهب بعيدًا، فأولهم هيث ليدجر في نفس الشخصية في فيلم The dark knight، وJack Nicholson في نفس الشخصية أيضًا في فيلم You can call me Joker، ومعهم Jared Leto في فيلم Suicide squad.. وحتى إذا بحثنا بعيدًا عن شخصية الجوكر سنجد Jack Nicholson يعود مرة أخرى في فيلم One flew over the cuckoo’s nest ليلعب دور المضطرب نفسيًا ببراعة كبيرة. والعديد والعديد من الأمثلة التي لن نستطيع حصرها جميعًا بطبيعة الحال.
إذًا لم يكن أيضًا تفرُّد الشخصية هو ما وضع الفيلم على قمة صندوق إيرادات دور السينما حول العالم في وقتٍ قياسي!
الجوكر وانتصار السهولة
بنظرة، يمكننا أن نرى السبب الرئيسي الذي دفع الجوكر إلى ذلك التحول الجذري في شخصيته، وهو عنف الآخرين تجاهه وقلة تقديرهم له بالإضافة لشعوره بالخذلان من أشخاص ظن أنهم قريبون منه بالقدر الكافي الذي يمكن من خلاله الشعور بالطمأنينة تجاههم، ولكن ينتهي الأمر بأن الجميع يخذله.
ذلك يحدث ربما للجميع بدرجات متفاوتة، يعاني منه كل البشر، تلك المعاناة المبطنة التي تغلف الحياة البشرية وتضفي الحزن والثقل على جميع الأفعال البشرية، ويصعب التعامل معها لأنها لا تعد جرائم ولا يمكن التعامل معها بشكل رسمي، فقط يتقبلها الإنسان كجزء طبيعي من الحياة ويتعايش معها.
ثم ماذا؟
نعم، هذا تحديدًا ما لم يفعله الجوكر. الجوكر الذي قرر أنه لا، لقد طفح الكيل، لا مزيد من الصبر والتحمل، لا مزيد من محاولة تحسين الأمور بشكل عقلاني والتعامل مع المشاكل بشكل ناضج، انتهى الأمر، الكل سوف يدفع الثمن، النظام كله عليه أن ينهار.
تلك الفكرة بقدر كونها فكرة مخيفة، لكنها الفكرة الأسهل والأقل احتياجًا للمجهود. لماذا أحاول التفكير في حلول أكثر واقعية في إطار المعطيات الحياتية والخوض في أسئلة على مستويات سياسية واجتماعية والخوض في معضلات أخلاقية بينما يمكنني إطلاق النار على الجميع والوقوف على جثثهم ضاحكًا منتشيًا؟
الآن ربما نكون قد اقتربنا من الإجابة عن السؤال..
يقول الفيلسوف الهولندي “باروخ سبينوزا” في وصفه لرجال المجمع المحلي اليهودي بعد حرمانه من دخول الكنيس اليهودي على إثر اتهامه بالهرطقة: إن الناس دائمًا ما كانوا يفضلون المندفعين، مَن يقدمون الحلول البسيطة والسهلة على من يتسائلون ويفكرون ويتمهلون في الإجابة ومن ثم التصرف. هذا تحديدًا ما جعل من الجوكر بطلًا للسوشيال ميديا، السوشيال ميديا التي باتت الفضاء الاجتماعي الذي يمثل الشعبوية بكل أشكالها كما يذكر الفيلسوف الألماني المعاصر “يورجن هابرماس“.
وهذا ما يفسر مثلًا عدم اهتمام السوشيال ميديا بفيلم مثل Manchester by the sea رغم أنه يتحدث عن شخصية تعاني من ظروف حياتية صعبة ومرهقة، وبرغم فوز الفيلم بجوائز عديدة أهمها جائزتي أوسكار لأفضل ممثل في دور بطولة والتي ذهبت لـ Casey Affleck ولأفضل سيناريو أصلي.. ولكن الاختلاف هنا كان في طريقة تعامل البطل مع ظروفه الصعبة، والذي فضّل التحمُّل ومسايرة الحياة.
فهكذا، اختار الناس، كما اعتادوا دومًا، الحلول السهلة والبسيطة، على الحلول التي تأتي من مجهود ذهني وفكري ونفسي وروحي.
لقد فضّل الناس المجنون الحاسم على الفيلسوف المُتمهّل!