الجمال المتأخِّر: لماذا تتطلب بعض اللوحات وقتا أطول لاكتشافها؟

الفن هو لغة تحدّثت بها جميع الثقافات على مرّ العصور وبصور وأشكال مختلفة، هو بالتأكيد ليس مجرّد تجربة عابرة ندركها منذ الانطباع الأوّل والنظرة الأولى، لكن ما الذي يجعل هذه اللغة تبدو أحيانًا عصية على الفهم؟ ولماذا يستغرق تفسير بعض اللوحات وقتًا أطول؟ فقد تظهر بعض اللوحات وكأنّها تختبر صبرنا فتتركنا في حالة تأمًل قبل إدراك ما تحمله في طياتها من جمال.
هناك العديد من اللوحات العظيمة التي قوبلت بالاشمئزاز والنفور في البداية ثم ما لبثنا أن اكتشفنا أنّ جمال العمل الفني لا ينبع من جمالية الموضوع المتناول في اللوحة فحسب، فللجمال صيغ وأصوات لا حصر لها، حتى ولو كان إدراك هذا الجمال كبريق النجم يحتاج إلى وقت طويل ليظهر في السماء وتدركه الأعين، ولهذا سنستعرض في هذا المقال الأسباب التي قد تجعل إدراك جمالية بعض اللوحات تأخذ وقتًا وتأمّلًا أطول.
الجمال يصارع للظهور:
عندما صوّر سيلفادور دالي لوحته الإصرار على الذاكرة، واجه الجمهور صعوبة في البداية في استيعاب جمالية اللوحة، بسبب الطابع غير التقليدي للعمل وتجاوز اللوحة لمفاهيم الجمال المعتاد في اللوحات الكلاسيكية، كذلك الأمر عندما صوّر ألبرخت ديورر والدته المسنّة مبرزًا تعابير الشيخوخة من خلال خطّها بدقّة لتملأ الجبين وقسمات الوجه الأخرى لتكون تعبيرًا صادقًا عن ما شعر به من حب تّجاه والدته، بالاضافة الى التعبير عن قسوة تسلّل الشيخوخة إلى الروح وثقلها، مما جعل الرسم منفرًا للبعض في البداية، لكن ما أن ننظر اليه في سياق التعبير الصادق الملهم سينبت لدينا إدراك من نوع آخر لماهية الجمال وتصوراته المختلفة.
وجه آخر لهذا التصارع الجمالي كان للوحتان رُسمتا لملاكين يعزفان على العود في القرن الخامس عشر، للفنانين الايطاليين ميلوتسو دافورلي وهانز مملنغ، حيث رسم كل منهما لوحة للملاك وفق تصوّره الخاص في حينه، مع ذلك قد يفضل الكثيرين عمل ميلوتسو دافورلي بسبب السلاسة التي تحملها اللوحة مما جعلها تبدو كنغمة تعدو على الكانفاس برشاقة، بينما يحتاج استكشاف الجمال في لوحة مملنغ بعض الوقت فهي أكثر صرامة وحدة ولا تحمل الخفة التي تحملها اللوحة السابقة، مما يجعل الكثيرين يجدون بعض الصعوبة في استشفاف الجمال من قسمات اللوحة، على الرغم مما تحمله من الابداع والبراعة التقنية.
هذا قد ينطبق كذلك على التعبير الذي يساهم أيضًا وبشكل كبير في تكوين الشعور الفوري تجاه اللوحة، حيث يحب أغلب الناس اللوحاتَ التي تحمل تعبيرًا يسهل عليهم فهمه وبالتالي يحرّك مشاعرهم بسرعة فور النظر للوحة، فلقد اعتاد الفنانون في القرون الوسطى على رسم مواضيع محدّدة وكل واحد منهم ضمن رؤيته الخاصة، وكانت اللوحة التي تلقى رواجا هي اللوحة التي تخطّ التعبير المباشر بضربات فرشاتها، لا اللوحة اللي قد تحتاج فهما أعمق.
إعلان
التجريد متحديًا التعبير المباشر:
في عالم فني يقف أمام متلقّي يشعر بالنفور فور رؤية لوحة غير واقعية لأنه يراها تصويرّا يشوّه الواقع لا تعبيرًا عنه، كان التجريد والرمزية في البداية يقفان كتحد أمام هذا النزوع للواقعية المفرطة للفن التي غلبت على الفنون في العصور الوسطى، ظهر الفن التجريدي متمرّدًا على القواعد الكلاسيكية لأنه أراد باستخدام التشويه للاشكال والألوان أن يعبّر بشكل أدثر وضوحًا وأعمق عن الفكرة محلّ العرض.
بإعتقادي لو أردنا رسم الديك بأسلوب واقعي فلن نتمكّن من إبراز عدوانيته وتبجّحه بالطريقة التي تمكّن فيها بيكاسو من إيصال هذا المعنى حين رسم الديك يصرخ متبجّحًا بالاسلوب التجريدي الرمزي.
وكذلك الأمر بالنسبة للوحة الصرخة لإدوارد مونك حيث عبّرت التشوّهات بالأشكال والألوان عن شعور القلق والخوف بطريقة تجعل كلّ شخص يتلقّاها ضمن لحنه الخاص وهذا ما يميّز الفن التجريدي وما يجعله بحاجة لوقت أطول لفهمه واستيعابه.
حيث جاء الفن التجريدي رافضًا للتعبير الفني المباشر، وهذا ما أشعل الهوّى ولأوّل مرّة بين الفنانين والمتلقين في القرن التاسع عشر، حيث اعتاد الفنانون وجمهورهم في السابق على تشاطر مسلّمات ومعايير معينة على الأقل، فكان هذا الاختلاف على المسلّمات وعلى طرق التعبير ومفاهيم الجمال هو ما جعل التقدير الفني لهؤلاء الفنانين لا يصل إلّا بعد وفاتهم في اغلب الاحوال.
العاطفة كتقنية للتعبير:
اُستخدم الفن أيضًا كتعبير عن مشاعر معقّدة مثل الألم، العزلة، القلق مما يتطلّب من المتلقي تجربة شخصية قريبة أو مماثلة ليتمكّن حينها من تلقّي وإدراك الجمال الخفي وراء الألم الظاهر في اللوحة، مونك كان من أكثر الفنانين الذين اعتمدو نقل مشاعر غير مباشرة عبر لوحاته التي تحمل الكثير من الألم الذي مرّ به، ومن جهة أخرى ضربات الفرشاة التي اشتهر بها فإنّ جوخ كانت هي ضربات لاسقاط الانفعالات التي تهاجمه على سطح اللوحة حيث كتب في احدى رسائله ” إنّ الانفعالات تكون من القوة أحيانًا بحيث أنني اعمل من غير أن أكون واعيًا ما لِما أعمله، وضربات الفرشاة تأتي متسلسلة ومتماسكة مثل كلمات خطاب أو رسالة”
سيزان هو الآخر وعلى الرغم من رسمه للطبيعة الصامتة اختار من المنظور الصحيح فقط الجزء الذي يمكن أن يعبّر به عن تجربته الخاصة، فكانت القواعد بالنسبة له هي القواعد التي تمنحه القدرة على التعبير.
الأصالة تعلو كصرخة مونيك:
عندما رغب فان جوخ في رسم صديقه ذات مرّة أوجد الشبه المتعارف عليه في بادئ الأمر ثم ما لبث فجأة أن بدأ يغيّر الألوان قائلًا “إنني أبالغ في لون الشعر الأشقر، أتناول اللون البرتقالي، والكروم والليموني، ولا ألوّن جدار الغرفة المتواضع وراء الرأس، بل ألوّن ما لا يُحد. ومن أشدّ لون أزرق وأغنى ما تقدّمه لي لوحة الألوان أصنع خلفية بسيطة. فيبرز الرأس الأشقر المشع إزاء هذه الخلفية الشديدة الزرقة بروزًا مكتنفًا بالغموض مثل نجمة في زرقة السماء. والجمهور يا صديقي العزيز، لن يرى، ويا للأسف، إلّا صورة كاريكاتيرية في هذه المبالغة، ولكن ما أهمية ذلك بالنسبة إلينا؟”
في الحقيقة كان توقّع فان جوخ مقاربًا للواقع فقد كان استقبال الجمهور في وقتها محملا بالتحيزات التي يحملونها تجاه الفنون الجميلة، فتغيير مظهر الاشياء لاكسابها الاصاله المحملة بمشاعر الفنان كان يعدّ تشويهًا من وجهة نظر المتلقّي في حينها.
في لوحة الصرخة للفنان إدفارد مونك ذهب أبعد من ذلك حيث أراد فيها التعبير عن الانفعال المباغت، عن كيف يباغتنا فجأة مغيّرًا كلّ انطباعاتنا الحسية، فكلّ الخطوط في اللوحة تتوافد لتلتقي في مركز اللوحة حيث الوجه الصارخ، الوجه الذي يكاد يشبه الجمجمة كتعبير عن استحضار انسان شبه ميت، لابد أنَّ شيئّا فظيعًا قد حدث ليحيل هذه الملامح الى ماهي عليه، ولتشاركنا الخلفية ايضا بتكثيف الشعور فكلّ ما في اللوحة يصرخ ويشارك التعبير.
في الحقيقة إنّ بعض التعبيريين مالوا إلى الاعتقاد بأنّ الإصرار على التوافق والجمال في الفن ماهو إلّا رفض للواقع وأنّ فن الفنانين الكلاسيكيين ماهو إلّا كذب ونفاق.
غياب السياق الثقافي والاجتماعي:
من جهة أخرى هناك اللوحات التي تقع تحت مظلّة التكعيبية والوحشية، قد يواجه بعض الجمهور صعوبة في استيعاب الجمالية المختبئة في سياق اللوحة ويرجع ذلك لعدم ادراك السياق الثقافي والاجتماعي الذي ظهرت فيه هذه الحركات الفنية، حيث كانت هذه الحركات ما هي إلّا استجابة للتغيّرات الثقافية والاجتماعية التي كانت تمرّ بها أوروبا في تلك الفترة، حيث حاول الفنانون التعبير عن الواقع بشكل جديد من خلال تكسير الأشكال كما في التكعيبية في الوقت الذي ضحى فيها الوحشيون بالتظليل من أجل متعة اللون، ما نعنيه أنّ فهمنا لهذه السياقات سيجعل استيعابنا وتأمّلنا لكلّ لوحة يأخذ منحى آخر.
في الختام إنّ التأخّر في فهم وتفسير بعض الأعمال الفنية لا يعد فشلًا في تفاعلنا مع الفن بل هو انعكاس طبيعي لعملية التفاعل مع الفن، فالفن ليس مجرّد صور ومنحوتات صماء، بل هو خلاصة تجارب ورؤى ومشاعر تتدفّق من روح الفنان، تحمل في طياتها أصالة وعمق وأسرار لا تكشفها إلّا اذا منحناها الوقت والتأمّل اللازم الجدير بها.
مرجع:
كتاب قصة الفن:إرنست غومبرتش ، ترجمة عارف حديفة، هيئة البحرين للثقافة والآثار، الطبيعة الثانية 2018، انظر:
– فصل عن الفن والفنانين والفصل التاسع عشر والفصل السادس والعشرون
إعلان