الجسد الأنثوي من المفعول به إلى الفاعل في الكتابة

لقد جعلت الحركة النسوية من سلاح الجسد سؤال الخصوصية الذي يقحم الذات طرفًا أساسيًّا في مشروع الكتابة، فعكست بذلك أساسًا وتوجهًا أنثويًّا جديدًا يتفرَّد في الرؤية والتجربة؛ إذ اقترنت العلاقةُ بين الجسد والكتابة باقتران الوعي الفعلي بأهمية الجسد ومكانته والدور الذي يؤديه، والوعي الممكن في توظيف الجسد في الكتابة.

وقد استدعى هذا الوعي إلغاءَ دونية الجسد أو النظرة التي تجعل منه موطن الفتن، إضافةً إلى تبنِّي موقف جديد من الذات، وهو الذي أدَّى بدوره إلى انبثاق رؤية جديدة للعالم بعيون أنثوية، لذا عملت النساء على تفجير المسكوت عنه (الجسد والتعامل معه) بإعادة صياغة مضامينه اللاواعية في أقوال أدبية جمالية خلاقة.

استطاعت الكتابة بذلك أن تُنفِّس عن الكبت التاريخي المتعلق بقضية المرأة، فامتلكت بذلك الموروث الثقافي عبر استدعائه واستحضاره ونقده، مع إظهار زيف ما رُوِّجَ له في القصص والكلام الشفهي فيما يخصُّ قيمة المرأة، والمغالطات التي كانت تحملها الكتب وفي اللاوعي الجماعي والفردي عن جسدها وتاريخها.

الجسد والكتابة

يعد الجسد عمود الرحى في الكتابة بعد إدراك تام أن تحرير الذات لن يحدث إلا بإطلاق سراح رغبات الجسد والروح؛ الأمر الذي يُفسِّر تمحور المرأة في مجتمعنا من خلال كتاباتها عن ذاتها في ظلِّ التهديد الذي يتربَّص بهويتها، لهذا ستبقى على الدوام مشغولةً بتأكيد وجودها واستقلالها وتفرُّدها، ولا يمكن أن يضعف هذا الهاجس الذاتي كما يقول حميد لحميداني “إلا عندما تختفي الشروط التي تُهدِّد المرأة في حضورها  الأنطولوجي” (1). على الرغم من أنه مستبعد في الوقت الحالي نظرًا إلى العقلية الذكورية التي تتحكَّم في بلورة شكل المرأة من حيث المظهر الخارجي وفي بناء وعيها. وبهذا ظلَّت المرأة مهووسة بجسدها خصوصًا غشاء البكارة الذي يُعدُّ رمزَ الشرف والقيمة كما هو الحال في ثقافتنا ووسطنا الاجتماعي في ظلِّ الثنائيات: الشرف وفقدانه، والمحافظة والانحلال، والنجاسة والقداسة، لجسد الأنثى.

يُفسِّر كلُّ ذلك تمحورَ المرأة حول جسدها وجعله محور الحياة، محددة بذلك علاقتها بهذا العالم الخارجي من منظور علاقة سيكولوجية؛ مما يُفسِّر تركيزَ المرأة في الكتابة على الأحاسيس والمشاعر التي ظلَّت سجينة الذات، وهي التي كان تُصرف بعيدًا عن مجال الإبداع والبوح وكبت أزماتها داخليًّا بدلًا من التعبير عنها في الواقع أو من خلال فعل الكتابة.

إعلان

وقد خلص محمد نور الدين أفاية إلى كون “الكتابة إما أن تكون انفتاحًا للغة اللاوعي وإما خضوعا للسلطة” (2). في ظلِّ ما تمنحه الكتابة بوصفها فرصةً للتعبير عن خلجات النفس وإطلاق العنان للبوح والتحرر، كاسرةً بذلك جدار الصمت وقيود العبودية، ليرقص الجسد الأنثوي على أنغام الكلمات، وعطر الأنوثة الذي أضحى المسيطر على عرش النص، في محاولة منها (المرأة) لإعادة بناء وجود جديد وهُويَّة جديدة.

الجسد وهُويَّة المرأة

تحضر علاقة الجسد بالكتابة في المكون السردي أساسًا لكونه تقنيةً مثلى تنجلي فيه ذات الكتابة وتطفو معها مكبوتات الوعي العقلية والجسدية؛ ذلك أن السرد القصصي والروائي يمكِّن الساردة في النص من التعبير عن حالتها والهُويَّة الحقيقية المدفونة في مكنوناتها والتي تتطلع إليها.

وإلى جانب توظيف الجسد الأنثوي في الكتابة النسائية؛ نجد الوظيفة التعبيرية التي تُفسِّرها كارمن بستاني في مقالها عن “الرواية النسوية النسائية”بحضورها عند الكاتبات تفسيرًا أيديولوجيًّا تاريخيًّا؛ إذ تقول: “لقد كانت المرأة خلال عصور طويلة وما تزال تعاني القلقَ على هُويَّتها. ويوم أقدمت كوليت على توقيع مؤلفاتها باسمها الحقيقي أحرزت تقدمًا ملموسًا في إطار معركتها من أجل الكتابة. بتأكيد، بدا الربط بين الكتابة والهُويَّة أمرًا ضروريًّا بالنسبة إلى المرأة، وهذا ما يفسر كثرة “الأنا” في الكتابة النسوية كرد فعل على التشكيك الدائم، كان يحيط بوجودها”(3).

تغدو الكتابة بمثابة تمثيل للهُويَّة النسائية ودليلًا على وجودها ولو على أرضية النصِّ الذي أصبح ممثلًا للذات ومدافعًا عن قيمة المرأة؛ الأمر الذي يجعلنا نتساءَل إلى أيِّ حدٍّ يُمثِّل جسد النص جسد الأنثى؟ بل أكثر من ذلك كيف يمكن للنص الإبداعي أو النقدي أن يدلَّ على هُويَّة خالقه (المؤلفة)؟

يقول عبد النور إدريس في كتابه التمثُّلات الثقافية للجسد الأنثوي الرواية النسائية أنموذجًا” أنَّ “دارسة الجسد الأنثوي من خلال النص السردي، يجعلنا مقتربين من الجسد النصي الذي ينوب عن المرأة، ويكتب عالمها بصدق، ذلك من حيث العلاقة الحميمية الحاصلة بين الجسد المكتوب وموضوع الكتابة، تلك العلاقة التي تحدد أساسًا مع وصف الواقع وهو يتجلى في عالم الخيال، خاصة أن الكتابة النسائية تحتوي على خصائص أساسية تتحكم بتلقيها، من حيث وضعها من قبل المتلقي/ة ضمن سجل السيرة الذاتية والاعترافات، قبل منحها صفة وضعية الإبداع المتخيل. فالمرأة لهذا تجد في الحكاية منفذًا للإنسانية”(4) بدلَ الواقع المُجحف في حقها، مشكَّلة بذلك هُويَّة جديدة؛ وبذلك فإن المرأة تمتلك هويتين:

هوية واقعية منبوذة من طرفها نظرًا إلى ربط قيمتها بجسدها، وهوية تخييلية مرغوب فيها تتمثل على مستوى جسد النص. وكذلك فإن الكتابة النسائية ترتبط بمعضلة في الساحة النقدية عندما يُربَط الإبداع النسوي بالسيرة الذاتية وبالخلجات الداخلية. في هذا السياق نفهم الأحكام النقدية التي يطلقها النقَّاد على الكتابة النسائية، إذ يصفونها بالخطابة والتقريرية، الشيء الذي يتحول مع قصص الكاتبات إلى مرافعات منبرية منفعلة، كما هو الشأن عند إدريس الناقوري الذي يلتقط نفس الملاحظة عن كتابة خناثة بنونة بحيث يرى أنها أقرب إلى “خواطر ذاتية أو اعترافات”(5). وكذلك نجيب العوفي يرى بدوره أن أسلوب خناثة بنونة يتميز “بتمويج التعبير وتهويمه على مستويات متوترة ومتراجحة”(6). وهذا راجع إلى الآراء التي يحملها الرجل عن الكتابة النسائية أو المرأة بصفة عامة، وبأسبقية الرجل بالكتابة بالجسد وتحديد هندسته، والذي كان يتحكم بمعاير جمال الجسد الأنثوي من خلال عين الأدب، وشهادة التاريخ، والكلام الشفهي، بمعنى “أنه ليس هناك من قصة محايدة أخلاقيًّا. إن الأدب عبارة عن مختبر واسع تجري فيه التقديرات والتقييمات وأحكام الاستحسان والإدانة، وهناك تستخدم السردية بوصفها حقلًا تمهيديًّا للأخلاق”(7). الأمر الذي يفسر حضور الجسد في مجال الأدب وتوظيفه من طرف المرأة الكاتبة عبر فعل الكتابة الذي يتطلب دراية ووعيًا في توظيفه، إما وسيلة لإثبات الخصوصية وتكسير التصورات والمعتقدات التي جعلته في موضع التشكيك والإدانة، وإما توظيفه من أجل لفت الانتباه واستغلاله فقط للدخول إلى مجال الأدب، علمًا أن توظيف الجسد في أبجديات الإبداع والتعبير ليس بعنصر جديد ومفاجئ.

لكن عندما تُقدَّم رؤية جديدة ومغايرة لمفهوم الجسد وكيفية توظيفه في الخطاب الأدبي؛ يعطي أبعادًا فنية جمالية من جهة، ومن جهة أخرى يفتح مجالًا متعددَ الرؤى والنقد فيما يتعلق بالفكر، بحيث يجعل الناقد أو المفكر يعيد النظر فيما راكمه من معرفة من خلال الاطلاع على الكتب التي أعطت أحادية الرؤية حول جسد المرأة. ويرى عبد النور إدريس “أن الكتابة بالجسد والتركيز على آلياته، وبعث الرغبة والشهوة في حنايا النص، تعدُّ من بين التصورات التي حملها الرجل نثوءات اللغة والخطاب، وألحق وظيفتها بالأنثى”(8)، فهذا دليل على أن الرجل والإبداع بصفة عامة الذي أنتجه ليس بريئًا في خلق تصور شهواني حول جسد المرأة، وتحديد هندسته، وجعل المتلقي يكوِّن تصورًا حول هذا الجسد خاصة في لاوعيه.

ختامًا:

إن إشكالية الجسد الأنثوي وتوظيفه في مجال الإبداع لا يقف عند حدود وصفه وإشعال الرغبة في ذهن المتلقي من خلال سرده داخل النص، بل الغاية الأمثل هو محاولة إعادة القيمة للجسد وتجاوزه بوصفه عائقًا في الوقت نفسه، لأن جوهر المرأة لا ينحصر في جسدها، بل بوصفها جزءًا لا يتجزأ من هذا الواقع، لا يختلف جسدها عن جسد الرجل في بعث الشهوة بدافع الفطرة، والقوة بدافع الوجود الفعلي.

  • الهوامش
  • 1.حميد لحمداني، “كتابة المرأة من المونولوج إلى الحوار”، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 1413-1993، ص 41.
  • 2. – أفاية محمد، “الهوية والاختلاف في المرأة، الكتابة والهامش” إفريقيا الشرق الطبعة الأولى، سنة 1988، ص 43.
  • 3. – كارمن بستاني، “الرواية النسوية الفرنسية”، رونيه بطلة “التائهة” – ترجمة: محمد علي مقلد الفكر العربي المعاصر، ع 34 ربيع 1985، ص 123.
  • 4. عبد النور إدريس، “التمثلات الثقافية للجسد الأنثوي –الرواية النسائية أنموذجا”، منشورات دفاتر الاختلاف، الطبعة الأولى 2015، ص 6.
  • 5. إدريس الناقوري، “المصطلح المشترك، دراسات في الأدب المغربي المعاصر”، دار النشر المغربية 1977، ص 212.
  • 6.- نجيب العوفي، “درجة الوعي في الكتابة”، دار النشر المغربية 1980، ص 227.
  • 7. بول ريكور، “الذات عينها كآخر”، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى 2005، ص 252.
  • 8. عبد النور إدريس، “التمثلات الثقافية للجسد الأنثوي –الرواية النسائية أنموذجًا”، ص 7.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبد الغفور روبيل

تدقيق لغوي: شروق ديركي

اترك تعليقا