الجزء الثاني من سلسلة “شذرات عن النقد الأدبي” طرح كتاب النقد الأدبي لكارلوني وفيلو
(رسائل للقارئ العادي)
حلة ما قبل النقد
يستحضر كتاب “كارلوني وفيلو” في أول فصل للكتاب القول، بأن كان هناك ما يسمى بحقبة “قبل أن يبدأ النقد“، وهي تلك الحقبة التي كان يعتبر النقد فيها عبارة عن امتثال لما هو ذاتي بحت، أو ما يسمى بالرسائل التوجيهية في مساوئ ومحاسن النص الأدبي، كما كان يفعل “فولتير” مثلًا في كتابه “معبد الذوق“، حيث كان يوجه فيه نصائح استعلائية على النص ويفند ما هو سلبي فقط، حتى أنهم وقتذاك توصلوا لما يسمى بالجمال المثالي في أواخر القرن السابع عشر وبدايات القرن الذي يليه، وأصبح هناك قواعد للجمال فإن لم يكن للقارئ اتباعها فيكون قد ضل عن المهنة الأدبية تما.
لقراءة الجزء الأول: الجزء الأول من سلسلة شذرات عن النقد الأدبي
من ثم كان لبعض المحدثين أمثال “لاهارب” التي قامت المدرسة النقدية على أعماله وأفكاره بشكلها البدائي، بأهم أسسها التي تتلخص فيما يسمى ب “نقد مواطن الجمال“، رأي آخر يتعارض ورأي “الجمال المثالي وذلك يتمثل في قوله الآتي:
أن الجمال هو نفسه في كل الأزمنة، لأن الطبيعة والعقل لا يمكن أن يتغيرا.
هكذا حيث أزاح العائق الذي يقع على الفن والأدب بفكرة أنه فقط يتمثل في المثالية. بالطبع هذا كان قوله الخاص الذي لا يعني له الصحة التامة، بل يعني فقط أن النقد كان دؤوب التطور في ذاته من عقد لعقد وحقبة لأخرى. لأن ما للعقل وما للطبيعة إلا التغير المستمر أبدًا.
وما يمثل تلك الحقبة أيضًا بل في الكثير من الأوقات الآنية هو النقد الانطباعي، أي: السعي وراء انطباعات ذاتية محضة، تركتها الكتب التي تقرأ. فيقول مونتاني أنه يظهر كقارئ للذات وهاو، وإنساني أيضًا، فهو يقول إنه يبحث في القراءة عن المتعة وعن المعرفة العميقة لذاته الإنسانية، فيقول الآتي:
إنني لا أبحث في الكتب إلا عما يعطيني لذة، من خلال تسلية شريفة، أو إلا إذا درست فإني لا أطلب إلا العلم الذي يبحث في معرفة النفس، والذي يعلمني أن أحسن الموت، وأحسن العيش.
وما يعني هذا إلا أنه يرفق المتعة بالقراءة ويربطها بها ربطًا مستقطع النظير كملايين الأشخاص الذين يقومون بهذا.
القوة في الهشاشة
كما أشرت من قبل أن النقد كاد أن يقع أو بالفعل قد فعل ووقع في خانة “العود الأبدي النيتشوي“، (ولا أقصد هنا أنه قد فعل بمنحى سلبي)، من حيث إعادة تدوير الأفكار والتأويلات الخاصة بالنقد ومفهومه عند الكتاب، أي أننا حتى الآن ليس لدينا مادة صرف يمكن الاعتماد من خلالها على نقد مدرسي صلد، وعلى ما أعتقد هذا ما يؤجج جمالية المساحة الفكرية للتأويلات النقدية منذ مطلع تاريخها. ومن هنا نبدأ الحديث عن بدء الفكر “الدوغمائي” النقدي، عندما أطلق “نيزار” وجماعته حركة بمسمى “النقد المطلق” وهو ببساطة قتل\نقد النص بشكل مسبق التنظير، أي موضعة الكتاب في خندق يسمى بالفلسفة الجمالية المطلقة ذات الأفكار أحادية الزمان والمكان، بما لا يترك المساحة الكافية للإنتاج الحر المبتعد عن فقه الرجل الواحد، وادعاء أن هناك أخلاق إنسانية موحدة عابرة للقارات والأزمنة، دون اعتبارية لما هو قد يكون بطبيعة الحال مختلف، ديناميكي، متغير كما الطبيعة التاريخية للأحوال البشرية.
موضوعية بدائية
فيما يلي في منتصف القرن التاسع عشر يظهر ضارب طبل “النقد الموضوعي” البدائي، وهو “سانت بوف” الذي حث على أن نتخلص من نقد الفلسفة المطلقة، وأن نضع أنفسنا موضع نفسية البطل (كما المسرحيات التراجيدية اليونانية القديمة) والكاتب قبل كل شيء، فنوضح ونفسر ونشرح الآداب من خلال هذا التكنيك، بل ونقوم بذلك على أساس طابع نقدي شعري- النقد الشعري– وليس الشعر النقدي بالطبع، لكنه بالطبع (النقد الشعري) لم يقاوم الزمان لمدة مطولة كما هو واضح، لكنه تطور بالطبع. ولقد أصر “بوف” أن يتم نقد النص بوصفه لا بإطلاق الأحكام المطلقة الجوفاء، العمياء، بل نستخدم الحكمة والفهم الرزين والوصف السليم.
في القرون التالية بدأ ما يسمى “النقد العلمي – الموضوعي” أن يرسي بوادره في عالم النقد، حتى تلمسنا أولى شذراته على حذو التاريخ. أو كي نكون أكثر مسؤولية في استخدام الكلمات، نقول: فترة المحاولات في موضوعية النقد الأدبي، حيث حاول نقاد وكتاب من أمثال: فيلمان، تين، برونتيير، هانكان وبورجيه وغيرهم، أنا يستنبطوا الآثار الأدبية من خلال السيكولوجية الخاصة بالبطل وللكاتب أيضًا وميوله العاطفية، وانفعالاته الجمالية، مع الميول للتفسير السوسيولوجي لمحيط الشخصية الرئيسية ولاتجاه الرواية أو النص في حد ذاته، هذا مما يعمق النظرة الناقدة النافذة لا التنظيرية للنقد – الموضوعي العلمي. وبالطبع مع ذلك لم يتوصلوا لمدرسة صلدة يقفوا على درجاتها ناقدين للنصوص المكتوبة، بل بما أن السيرورة الأدبية هي مكملة لبعضها البعض وهذا يا يجب أن يوضع في الاعتبار، فقد توصلوا لبدايات ما يسمى “أدب الالتزام“.
إن للانطباعية أعظم الفضل في أنها حفظت للنقد فتنة ولذة، ولم نألفهما لدى النقاد الجديين، ولكن إلى جانب ذلك-كما رأينا- هناك وضع عنيف في شدته، وإننا ملزمون دائمًا شئنا أم أبينا أن نخرج منه، ما يؤدي غالبًا إلى نظرة سريعة وسطحية للمؤلفات. إن دراسة تعتمد الصبر واليقظة، أو تعتمد سعة العلم هي- بكلمة مختصرة- لا تظهر، إذن عديمة الفائدة، كما قيل عنها.
-كارلوني وفيلو
فروع شجرة الانطباعية
ولكن قبل أن نتعمق في نظرية أدب الالتزام للفيلسوف “سارتر” والنقد القائم على التحليل النفسي لفرويد والنقد الماركسي، بموجب تراتبية التاريخ في الكتاب المعين، يجب أن نشير لنقطة الدائرة المغلقة التي يدور فيها النقد الأدبي مرة أخرى. وذلك لأن ” كلمة الانطباعية احتلت مكانة كبيرة، بين عامي 1885 و1914، في خصام النقاد. ومع ذلك ليس من اليسير تعريفها، فلنفرض أن العلماء والعقائديين قد أرادوا أن يتوصلوا إلى معرفة موضوعية أو حكم موضوعي، أي مستقلين عن وجهة النظر الخاصة للناقد، فإن الانطباعيين يريدون- على العكس- أن يقتصروا على تثبيت التقاء الأثر بذاتيتهم. إن كلمة “انطباع” تعني –بدقة- هذا اللقاء الآني والساذج بين النص والقارئ، والتبادل الذي ينتج عن ذلك في نفس القارئ. هكذا، يعدو النقد الانطباعي نظريًا إلى المفهوم النقي والبسيط لردود فعل الناقد الذاتية أمام نتاج أدبي”. وهذا هو تفسير مبسط لما يسمى النقد الانطباعي من منظور الكاتبين لإيطاليين.
هذا مما يوصلنا إلى فرعين من النقد مهمين للغاية:
أولهما هو النقد الصحفي وهو بشكل عام النقد الذي يقوم على الاستقصاء السريع لأثر النص أو المنتج الأدبي، من خلال قراءة النص في أسرع وقت، وذلك نابع بشكل كامل من النقد الانطباعي، ولكن بالطبع هناك بعض المعايير التي تتموضع على عاتق الصحفي، وهي مثلًا أنه يجب أن يكون ذو ثقافة واسعة وعالمية كي يطبع مقالاته الذاتية التي تلحق بالنص مباشرة، كي تكون عميقة في نفس الوقت ولكن هذا لا يحدث بشكل عام، وأصبح النقد الصحفي لأيًا كان من الكتاب الذين يريدون أن يكتبوا آراءهم الذاتية الصرف عن النصوص المبذولة.
وثانيهما هو النقد الأكاديمي والذي أيضًا فرق بينهما الدكتور “محمود الربيعي” في كتابه “مقالات نقدية“، ويعتبر النقد الأكاديمي هو النقد الذي يأخذ أعمدة من الزمن والوقت مطولان في البحث، حيث يستخدم الأكاديمي على سبيل المثال “إدوارد سعيد” نظريات الاستشراق والكولونيالية في محاججة مضامينه التي يراها في الرواية أو الكتاب مثلًا، مثلما فعل مع رواية “في قلب الظلام” لكونراد، هذا مما يتخذ من الوقت والجهد قدر كبير ولكنه على ما أعتقد يبقى كمرجع دائمًا مع أنه في سلبياته يعرف بالصرامة والمرجعية حيث يقال أنه يخندق الأدب في مدرجات مصطلحية وفكرية صلبة. وكما يقال: ” مهما كانت صعوبة التمسك بالحرفية، فإن الانطباعية هي ضرورة، شعر بها النقاد دائمًا، فحين يكون الناقد مسرفًا في المنهجية ينتهي به الأمر إلى أن يفلت منه الجوهر، وينسى أن الكتب لم تكتب لتفسر من جهة أسبابها الخارجة عنها، بل لتوفر انطباع لذة نفسية وفكرية”.
مدارس نقد القرن العشرين
لكن كما جرت العادة فقد أتى المجددون لساحة النقد بنظريات مستحدثة للمفاهيم النقدية والفنية وكلٍ بمفهومه الخاص، وكان للقرن العشرين النقب الأكبر للقول في هذا المجال الضخم المعقد. فهنالك النقد الماركسي الذي ترسخ على عقيدة وأيدلوجية وجدلية “الصراع الطبقي” وكان النقد ينبثق من هذه النقطة بشكل حتمي، أي أنه محرك التاريخ الأكبر بدون فصال. وتبعته المدارس الألمانية من أمثال التفكيكية و البنيوية واللاتي سنشرح فيما بعد. ومدرسة أو نظرية “أدب الالتزام لسارتر” والتي فسر مغزاها في كتابه الذي أصدر فيما بعد الحرب العالمية الثانية باسم “ما الأدب؟” يسأل فيه ثلاثة أسئلة تهم النقاد و القراء وهي: ما الكتابة؟ لماذا نكتب؟ لمن نكتب؟؛ كان لهاذا الكتاب رجع صدى هائل، ليس لأنه نال الإعجاب بل بشكل ما العكس، لأنه كان يطالب الأديب باتخاذ موقف ثوري والكتابة عن فقط ما يكون له هدف سامي وبطولي وموقف ضد أي سياسة ظالمة(مثل الاحتلال الفرنسي للجزائر آنذاك)، مما أجج ضده انتقادات بأنه نسي ما يعنيه الأدب والفن من الأساس وأنه بذلك يسحق تلك المرونة التي يتسم بها الفن لنفسه، وذلك لأنه كان ضد تلك الفكرة كما هو واضح(الفكرة المتمحورة حول سؤال، هل الفن للفن؟ أم للفن أهداف أعمق).
ويذهب الذكر أيضًا لفرويد ومدرسته في النقد القائمة على تحليل نفسية البطل وزاوية الغريزة الجنسية- بشكلها المطور، وتعقيداته التي أجرى “دوستوفسكي” مثلًا عليها العديد من العمليات الأدبية، التي يدرس فيها نفسية البطل بشكل متعمق وكيف يتأثر ويؤثر، ويتخذ موقفًا وآخر لا وما إلى ذلك. كل تلك النظريات سيتم تعريفها فيما بعد لأنها نظريات حداثية وما بعد حداثية وتم ذكرها في الكتاب بشكل ملخص ومختصر. وحيث أن لنا صولات وجولات عديدة قادمة فمن الأفضل قراءة هذا الكتاب كنوع من أنواع الفهم السريع لما حدث في تاريخ النقد الأدبي، لحين شرح بقية النظريات بشكل أكثر تفصيلًا وتظليلًا.