ثورة وملوك وجمهوريات

قد لا يعلم البعض كيف قامت الثورة الفرنسية بالقضاء على الملكية، وإقرار النظام الجمهوري فى ربوعِ الدولة الفرنسية، بل وجدتُ البعض يقارن أحداثها بما حدث في مصر عامي 1952 و1953. ولكن الفرق الكبير كان فى الأسباب والأسلوب، والفارق الأهم كان فى تبعات الثورة الفرنسية وتأثيرها على الحياة السياسية فى فرنسا على مدى يزيد عن الثمانون عامّا حتى استقرار النظام الجمهوري بها.

بدأت أحداث الثورة الفرنسية سنة 1789، ووصلت لذروة العنف بخلعِ الملك لويس السادس عشر عام 1792 وسجنه ثم محاكمته وإعدامه بالمقصلة فى يناير من عام 1793، وقد تم إلغاء الملكية من طرف الثوَّار في 1792 (بعد ثماني عشر عامًا من تربُّع لويس السادس عشر على العرش)، ذلك رغم محاولته تهدئة الأوضاع فى العام السابق بتغيير لقبه من “ملك فرنسا” إلى “ملك الفرنسيِّين”.

لم يتم إعلان قيام الجمهورية الأولى كما قد يتصوَّر البعض، إنما انتقل الحكم خلال ثلاثةِ مراحل من نظام ملكي إلى نظامٍ شبه برلماني، وقد اشتهِر خلال فترة البداية أحد رجال الثورة “روبس بيير”، هذا الإنسان الدموي ال$ أعدم فى تلك المرحلة ما يزيد عن عشرين ألفًا من الفرنسيين من كلِّ جانب واتجاه، فسميت بفترة “الرعب”، وامتزجت بالحروب الأهلية بين مؤيِّدي الثورة ومؤيِّدي الملكية والكنيسة، وانتهت بإقصاء روبيس بيير ذاته واعدامه عام 1795، ثم جاءت فترة سيطرة “الديريكتوار” أي مجلس إدارة الدولة ثم تلتها فترة القنصلية.

وقد اعتبر المؤرخون أنَّ تلك المرحلة، من لحظة سقوط الملكية إلى إعلان قيام امبراطورية فرنسا بزعامة نابليون عام 1804، نحو اثني عشرة عامًا، هي بمثابة قيام الجمهورية الأولى ثم سقوطها، رغم أنَّه لم يعلن رسميّا عن قيامها فى أي وقت.

قبل قيام الامبراطورية، كان نابليون هو الحاكم الفعلي بلقب “القنصل الأول” نتيجة لما أنجزه من انتصاراتٍ عسكرية رغم صغر سنه بفضل عبقريته في الفنون الحربيَّة، ولكنَّه كان يتطلع لمزيد من السلطات للسيطرة على البلاد وتنميتها، فأعلن قيام الامبراطورية، ونصب نفسه امبراطورًا.

إعلان

حكم الامبراطور نابليون الأوَّل فرنسا لمدة عشرة سنوات، قام خلالها بتحديث التعليم والصناعة والزراعة والقوانين الوضعية والتقاليد الديبلوماسية. هذا، إلى جانب توسيع الرقعة الجغرافية الفرنسية من خلال انتصاراته فى عدَّة حروبٍ أوروبية. ومع ذلك، تم عزله عام 1814، لا سيما بعد خسارة حربه فى روسيا، وتم إعادة النظام الملكي بتنصيب الملك لويس الثامن عشر ملكا على الفرنسيين.

استطاع مؤيِّدى نابليون إعادته إلى الحكم فى العام التالي، ولكنه لم يمكث إلَّا مائة يومًا به، حتى هزم فى معركة “واترلوو” الشهيرة ببلجيكا أمام الجيش البريطاني والهولندي والألماني والبروسي. ثم تم نفيه حتى وفاته، وعاد الملك لويس الثامن عشر لعرش فرنسا مرة أخرى فى 1815 وظل متربعًا حتى عام 1824.

استمَّرت الملكية فى حكم فرنسا بعد ذلك، فتولَّى الملك شارل العاشر الحكم من 1824 إلى 1830، وكان أشهر أعماله الخارجية، الاشتراك فى هزيمة أسطول محمد علي فى موقعة نفارين باليونان عام 1827، ثم احتلال الجزائر سنة 1830. تلاه فى السلطة الملك “لويس فيليب” وظلَّ على العرش حتى عام 1848، (18 سنة)، ولكن كانت السنوات الأخيرة من حكمه متسمة بإنتشار الفقر والفساد فى أروقة الحكم، فظهرت بشائر ثورة جديدة بتزمر الأهالي من الغلاء وجشع التجار وفساد السلطات.

 

هرب الملك لويس فيليب إلى إنجلترا متنازلًا عن العرش، فانعقدت الاجتماعات البرلمانية لتشجيع قيام الجمهورية مرة أخرى، مع عمل تعديلاتٍ دستورية هامة ومع توسيع القاعدة الانتخابية لزيادة عدد الناخبين بإشراك الفئات الاجتماعية المهمَّشة، ترشَّح لمنصب رئيس الجمهورية الثانية الأمير لويس نابليون بونابارت، ابن شقيق نابليون الأول، وتم إنتخابه رئيسًا للجمهورية إنتخابًا مباشرًا من قبل الشعب الفرنسي سنة 1848.

ولكن النظام الدستوري الجديد منعه من إعادة الترشُّح مرة ثانية، فانقلب على الدستور وأعاد تأسيس الامبراطورية الفرنسية تحت مسمى الامبراطورية الثانية، واتخذ لنفسه لقبًا: الامبراطور نابليون الثالث. وبذلك، لم تستمر الجمهورية الثانية إلَّا أربع سنوات وبضعة أشهر ولم يكن لها إلا رئيسًا واحدًا. بقي يحكم فرنسا بهذه الصفة الامبراطورية من 1852 حتى 1870 (أي 18 عامًا أيضّا).

 

خسر نابليون الثالث حربه ضد بروسيا عام 1870 مما أدى لسقوط الامبراطورية الفرنسية الثانية، وقيام الجمهورية الثالثة. وبذلك بدأ النظام الجمهوري يستقر فى فرنسا لأوَّل مرة بعد الثورة الفرنسية، رغم أنَّ هذه الجمهورية الثالثة، وكذلك الرابعة التى قامت بعد الحرب العالمية، لم تأخذ بالنظام الإنتخابي المباشر لرئيس الجمهورية، حتى جاء شارل ديجول عام 1958 وأسَّس الجمهورية الخامسة بدستورٍ متميَّز وبنظامٍ إنتخابي مباشر لرئيس الجمهورية مع إعطاءه السلطات اللازمة لحكم البلاد.

وختامًا، لا أعتقد أنَّ إنجاز الثورة الفرنسية كان إقصاء الملك أو إلغاء الملكية وارساء الجمهورية، إنَّما يقينى أنَّ إنجازها الأوَّل، ومنذ بدايتها، وبالتحديد يوم 26 أغسطس عام 1789 كان “إعلان حقوق الإنسان والمواطن”، وهو الإعلان الذى تبنته كل البلاد المتحضّٓرة، فصار فيما بعد “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” الذي عملت به الأمم المتحدَّة فى العاشر من ديسمبر عام 1948.
إنَّ الثورة التي لا تترك تأثيرًا على تطوُّر الفكر والعقل، تصبح مجرَّد هوجة، لا أثر لها فى التاريخ.

إعلان

اترك تعليقا