مَولِد البنوك المركزية
من المعروف أنّ أوّل بنك مركزيّ تمّ إنشاؤه في العالم هو البنك المركزيّ السويدي، عام 1656، حتى وإن كان لم يحمل تسمية “مركزيّ”، ثمّ تلاه عام 1698 بنك انجلترا، ثمّ بنك فرنسا فى عام 1800. وحتى عام 1900، لم يكن بالعالم سوى 18 دولة مزودة ببنك مركزيّ (يوجد اليوم 172 بنك مركزيّ يخدم نحو 200 دولة).
فى بداية الأمر، لم يتم إنشاء البنوك المركزية لنفس الهدف ولتأدية نفس المهامّ، ولكنّها أصبحت اليوم تعمل كلها فى نفس الإطار لخدمة نفس الأغراض الماليّة للدول. ولقد جاء تطوير دورها التنظيميّ بعد إنشاء بنك فرنسا (المركزي). وفيما يلى نبذة توضيحيّة لتاريخ هذا البنك:
فى يناير من عام 1800، قام نابليون بونابرت بإصدار فرمان بإنشاء “بنك فرنسا” بناءً على توصيات من رجل مال سويسريّ الجنسيّة. ففي السّنوات التي تلت الثورة الفرنسية، ظهرت أول محاولات لإصدار عملات ورقية، ولكن تسبّبت الأحداث في فقدان قيمتها مما أفقد ثقة عملاء البنوك، فعادوا للتعامل بالعملات الذهبية والفضية، وقد أحدث ذلك تدهورًا فى العملات الورقيّة المتداولة، ممّا دفع نابليون إلى تقبّل فكرة إنشاء بنك مركزيّ للدولة الفرنسية تكون مهمّته إصدار العملات الورقية، قيمتها كميات الذهب والفضة المودعة لديه وبضمان حكوميّ للمودِع سواء من البنوك أو الأفراد، وبحيث يكون لأيّ فرد حائز على عملة ورقيّة الحقّ في سحب ما قيمة هذه العملة من ذهب من خزينة البنك المركزى. وقد نتج عن ذلك استعادة الثقة بالعملة الورقية، وأصبح استبدالها بالمعادن النفيسة بلا فائدة. علمًا بأنّ أوّل عملة ورقية كانت مطبوعة بالحبر الأسود على ورقة بيضاء، وعلى وجه واحد فقط من الورقة.
بدأ البنك المركزيّ الفرنسيّ نشاطه بمواجهة طلبات استعادة الذهب، فتأسّس برأس مال مكون من إيداعات البنوك المختلفة بالإضافة إلى ودائع بونابرت نفسه، حتى وصل حجم رأس ماله (فى ذلك الوقت) إلى 30 مليون فرنك. وبما أنّ بنك فرنسا ليس بنكًا عاديًّا، وبما أنه الجهة الوحيدة التي يحقّ لها إصدار عملات، (علمًا بأنّه حتى عام 1912 كان عدد البنوك الأمريكية التى لها حقّ إصدار العملات 7355 بنكًا)، فعملاؤه هم البنوك التجارية العادية المتخصصة في إقراض الأفراد والشركات. ولمّا كان المقترِض من تلك البنوك يوقّع على أوراق مالية مثل الكمبيالات لصالح البنك المقرض، تقوم تلك البنوك بتسليمها للبنك المركزيّ مقابل عملات رسمية، فيصبح هذا التداول وهذه الدورة المالية محركًا اقتصاديًّا لزيادة حجم الأموال المتداولة فى السوق، فيزيد ثراء التجار والأفراد.
وبهذا الأسلوب، وبعد الانهيار الاقتصاديّ الناتج عن الثورة الفرنسية، استيقظ الفرنسيّون وعادوا إلى أعمالهم وأنشطتهم، فازدهرت التجارة والصناعة نتيجة قيام البنوك بإقراضهم. كما نتج عن ثراء العديد من الفرنسيين زيادة حصيلة الضرائب الحكومية، فازدهرت إمبراطورية نابليون وتأسّست دولته الحديثة.
ظلّ البنك المركزيّ الفرنسيّ منذ ذلك الوقت يقوم بدورٍ محوريّ فى التنمية الاقتصادية لفرنسا، حتى تاريخ 12 مايو عام 1998، تاريخ تنازل البنك عن حقّه في إصدار العملات لصالح البنك المركزي الأوروبي الذي صار يصدر عملة “اليورو”.
من المهمّ أيضًا توضيح أنّ البنك المركزيّ الفرنسيّ كان مركزه القانونيّ حتى عام 1945 يتلخّص في أنّه شركة مساهمة خاصة، تملك أسهمَها نحو 200 عائلة فرنسية، إلى أن تمّ تأميمه عند انتهاء الحرب العالميّة على يد الجنرال شارل ديجول.
أما الآن، فتتحوّل كلّ البنوك المركزيّة في العالم تدريجيًّا إلى مركز قانونيّ خاصٍّ له شخصية اعتبارية مستقلّة عن الحكومات وعن القطاع الخاص، حتى تستطيع كغيرها المنافسةَ في السّوق العالميّ، فيبقى السؤال: هل سيكون ذلك أفضل للاقتصاد الوطنيّ لمختلف الدول؟ أم أنّ العولمة ستطغى علينا جميعًا لصالح القوى المهيمنة؟