الإشارة
يوم إجازتي طويلٌ ولزج، يمرُّ عليَّ بِسَأمهِ ووحدتهِ وكأنه حملٌ ثقيل فيرهقني، يومُ راحتي لا راحة لي فيه.. لماذا أصحو فيه مبكرًا وكأنه يومُ عمل؟ كانت جدتي تقول أنّ الصحوَ المبكرَ دون مبررٍ علامةٌ على العجز، وكنت أحاول إقناعها أن العالمَ المتحضرَ كله يستيقظ مبكرًا، فكانت تردُ على بحكمةٍ مستهينةٍ: “العالمُ عنده إلي يصحاله يا بنتي، إنما أنا معنديش!” وعلى الرغمِ من أني أنا أيضاً ليس لدي ما أصحو من أجلِه، لكن بما أن خيارَ النومِ والأحلامِ قد انتفى؛ سأنهضُ لألقي ببعضِ اللقيماتِ في جوفي، فأستجمعَ قوايَ الباهتة، لأُجابِهَ ببسالةٍ وحشَ الضجر..
لماذا يا إسكندريةُ تصبحينَ أبردَ فأبردَ كلَ شتاء؟ أم أنكِ مازلتِ على حالك وأنا من تزيدُ هشاشتُها عامًا بعد عام، هذا المطبخ الفسيحُ العتيقُ يبدو أكثرَ بياضًا وشحوبًا يومًا بعد يوم، الجبنُ التركيُ في شقفةِ خبزي تزيدُ ملوحَتَهُ أكثرَ فأكثر مع كل قضمة، لماذا تدهورت صناعتُه، أم أنه هو أيضًا على حالِه وأنا من سئِمتُ الطعام؟ أظنّ أنّ مسار حياتي زاحفٌ للأسوأ، وكل تلك إشاراتٌ على ذلك.. لا شيء يكبرُ ويزهو إلا أمُّ الشعور، الصفصافةُ التي زرعها أبي يومَ أتممتُ ستةَ أشهرٍ من عمري، والتي أصبحت تسدُّ على بصيصَ البحر؛ والذي كنت أقف في صغري على هذا الكرسي الحديدي فألمحُه من نافذةِ مطبخنا العالية، عمرها اليوم ستةٌ وأربعون عامًا، أنا الكبرى لكنها ما زالت صبيةً وستعمّرُ لِما بعدَ موتي بزمن.. لماذا تعمّرُ بعضُ الأشجارِ لآلافِ السنين، ويموت الإنسان في لمحِ البصر؟ الأشجارُ أقوى من الإنسان وهذا لا شكَّ فيه، لكنّ الإنسان جهول، هو الكائنُ الوحيدُ الذي أدركَ في نفسِهِ ضعفَه، ثمّ اكتشف الكذبَ، فأخذ يتظاهر بالقوة. وأنا لا أحبُّ الكذب، أعترف أني ضعيفةٌ ومهزومة، حتى تلك الشجرةُ التي أكبُرُها بستةِ أشهرٍ سقطَ منذ عدةِ شهورٍ أحدُ أكبرِ فروعِها على سيارة جارِنا، ولولا أنه رجلٌ طيبٌ ويؤمنُ بالقضاءِ والقدرِ لأصرَّ أن أصلحَ سيارتَه على حسابي لأنها شجرتي، لكنه لم يفعل.. واعتبرتُ سقوط َالفرعِ يومَها إشارة، الشجرةُ توأمي تنهار وتتداعى مثلي، ثم ما لبثتُ أن انتفضتْ وهبّتْ من ضعفِها ورجعت كما كانت، بل أظنها صارت أضخمَ من ذي قبل، هي الآن أقوى مني..
أين ذهبوا كلُهم؟ كان يومُ الجمعةِ في بيتِنا يعجُّ بالحياة، كنا نجلسُ على هذا الطاولةِ الخضراءِ الصغيرةِ في هذا المطبخِ الأبيضِ الذي كنتُ أراه منيراً، وكان أبي في أيام الجمعة يعفيني أنا وأمي من إعدادِ الإفطار، وكان يجبر أخي على مساعدته ويقول ممازحاً: “ارحمونا شوية من عككوا، النهاردة يوم الشيفات”.. وكان يعدُّ الفولَ بطريقةٍ يقولُ عليها سريةً مع أنها معروفةٌ لي ولأمي ولكي يضفي على طبقِ فولِهِ لمحةً من السحرِ والغموض كان يخلعُ عليه لقبَ “الفول المستكوفي”، وأحيانًا يضيف لتوصيفه: “إلي وصى عليه الحكيم لقمان”، فنضحكُ كلُّنا ونبالغُ في إعجابنا بصنع يديه، أين ذهبوا؟ مازال صوتُ صداهُم يملأ المكان، عبقُ عطورِهم مازال يملأ الخزانات، بقاياهم من حولي تشهدُ أنهم قد مرّوا من هنا.. كيف تسرّبوا من بين يدي واحدًا تلو الآخر، حتى أخي الأكبرَ بعد فشلِ مساعيه في إيجاد امرأةٍ تُريحه، عاد ليعيش معي، ثم رحلَ هو الآخر إثرَ فشلٍ آخر، وكان هذه المرة كلويّ، فامتصّ منه رحيقَ الحياة قطرةً قطرةً، حتى تركَه في صباح يومٍ باردٍ جسداً فارغاً لا روح فيه.. كلهم ذهبوا، وأنا متى أذهب؟ تلك الجدران أصبحت تلفظني، الستائرُ ما عادت تتقبلُ وجودي، الخزانات تكره ملابسي، أسمع المرايات تتهكم عليّ كلما مررتُ من أمامها، الشجرةُ المحملقةُ في من خلف النافذة، تتحداني وتغيظني، مازالت في شبابها وأنا أشيخ وأكرمشُ كتفاحة قديمة تُركت في العراء.. يقولون لي ما زلتِ صغيرة، والصِّغر تركني منذ أعوام ورحل مع من رحلوا.. أنا منبوذةٌ هنا، وسأظل هنا حتى يجد العدمُ طريقَه لي فأكون أنا وهو سواء..
سُعاد جارتي ترقصُ مع طفلتِها الصغيرة، أعرف ذلك لأني أسمعُ موسيقى راقصةٍ آتيةٍ من نافذة مطبخي المفتوحة، “أه يا زين، أه يا زين، أه يا زين العابدين”، تحبُ سعادُ الرقصَ على الأغاني القديمة، تَسعَدُ وتُسعِد ابنتَها الوحيدة.. أمي لم تكن تعرفُ كيف تَصنعُ السعادةَ مثل سُعاد، علمتني الهدوءَ والصلاةَ والخجلَ والحشمةَ والصمت.. أتأملُ ابنةَ سعاد وهي تختار لنفسِها ثيابَها ولونَ شريطةِ شعرها وأساورَها وحذاءها وتصرُّ على أن تطلي لها أمُها أظافرَها، أطالع سنواتِها الأربع، لأكتشف أنّ الأنثى قد فُطرت على حب الزينة، وأنها لا تتزين من أجل الرجال، بل من أجل إسعاد ذاتها، مثل ابنةِ سعاد التي تسعد ذاتها الصغيرة.. من يقنعها بخلاف ذلك قد يشوّه فطرَتها الأولى، قد تصبح مَسْخًا.. لا هي امرأة ولا هي رجل، الامرأة التي لا تتزين مشوهةٌ بلا شك، وأنا مشوهة بلا شك.. أقنعتني أمي من صغري أن التزين ممنوع لأنه حرام ويجذب الشباب “اللعبيين”، على حدّ قولِها، وكنت أسمع أبي أحيانًا وهو يهمسُ لها: “سيبيها تعيش سنها، تعمل زي بقيت البنات” وكانت أمي تأبى وترفض بشدة، فرَبيت رمادية، وظللت رمادية.. تخرجتُ من الجامعة، كليةِ التجارة، فخرجت منها كما دخلتها، لا حبٌّ ولا صداقات.. وبناءً على رغبة أمي قضيتُ فترةَ ضجرٍ في البيت لعل “العَدَل” يأتي، فلم يأتِ، وبما أنّ بالزواجِ فقط ينعدل حالُ الفتيات، ظل حالي مائلًا في نظر أمي وخالاتي، حتى أنقذني أبي بأن وجد لي عملاً في بنكٍ في شارع سيزوستريس حيث كان يعمل صديقٌ له، ومن يومها وأنا قابعةٌ في محطِّ يدِ أبي، عرضوا عليّ ترقيةً بشرط النقلِ ورفضت، الترقيات في نظري أوهامٌ إدارية، كل العمل سواء، وأنا أحب شارعَ سيزوستريس، قريبٌ لبيتنا، وراقٍ، والمشي في جنباته كلَّ صباح يريحني نفسيًا..
أتذكر أني قبل تعييني بيومٍ واحدٍ رأيت فيما يرى النائم الفنانةَ سعاد حسني، وكانت في الحلم هائمةً في ساحةٍ بيضاءَ فسيحةٍ ترتدي طرحةً خضراء، ورداءً أبيضًا يشعّ نورًا وكان يحوم حولها سربٌ من الحمام الأبيض البديع، يطير في أشكالٍ دائريةٍ لانهائية، يهبط على يديها ثم يرتفعُ للسماء ثم يعاود الكَرَّة وكأنه يكره أن يبارحَها، وكانت هي تنظر للسماء وتبتسم ابتسامةً ملائكية هادئة وراضية، لوّحتُ لها، فلوحتْ لي، وحطت على ركبتيها ثم انتفضت متحولةً لطائرٍ أبيض مهيب بجناحين من عظمتهما ظلّلا على الساحة بأكملها، ثبتت للحظة في السماء وكأنها تنظر لي نظرة الوداع، ثم حلقت بعيدًا، جاذبةً وراءها كل الحمام.. حين أخبرتُ أمي بالرؤيةِ وحالةُ الانبهارِ لم تفارقني بعد، أقنعتني أنها إشارة كي أذهب لأول يومِ عمل لي مرتديةً الحجاب، ليفتح الله علي ويسدد خطاي، وحين حاولت مناقشتَها في أنّ الإشارةَ ليست لي، وإنما هي ربما لسعاد حسني، هبّت في وجهي: “وأنت مالك ومال سعاد حسني، وذنوب سعاد حسني، ماتوب ولا ماتوبش، إيش خشخشك أنتِ، الإشارة ليكي يا عامية القلب والنظر!” وبعد ذلك اليوم بعدةِ أعوام حين ماتت سعاد حسني، واختلف الناس في تحليل فجيعة موتها، كونه قتلًا أو انتحارًا، علقت أمي بلسان اليقين المؤيد أن الاحتمالين سِيَّان وقالت ببساطةٍ ناجزة: “من أعمالكم سُلِّط عليكم!”
أقنعتني أمي بسهولةٍ بمسألة الحجاب وضرورةِ الذهاب لأول يوم عمل متشحةً به، ولم أكن أملك أي ملابس للحجاب وقتها، فأعطتني من ملابسِها بدلةً رمادية عريضة المنكبين ذات جونلة طويلة، لا هي واسعة ولا هي ضيقة، أشبه بماسورةِ المياهِ متوسطةِ القطر، وطرحةٍ رماديةٍ كالحة، عريضة، أقرب للخمار منها للحجاب، وأهدتني سلسلةً ذهبيةً تدلت منها آية الكرسي من الحجم الكبير، لتحفظني وتمنحني “قيمة”ً بين زملائي، على حدّ قولِها، ومن ويومها وأنا هكذا، الشكلُ الذي صنعته لي أمي يومها، احتفظتُ به في حياتها إرضاءً لها، وفي مماتها احتراماً لذكراها.. واليوم أنا سائمةٌ، نظرت لنفسي في المرآة فشعرت أني لم أعد أعرفني، من أنا؟ أنا صَنعة آخرين، مات الكثير منهم، شيخ الجامع الذي كانت تحضر أمي دروسه بانتظام، أمي، العائلة الكبيرة والصغيرة، هذا الوجه الذي لا هو جميل ولا هو قبيح، ماذا لو كان به لمحةٌ من المساحيق فقط لأُذكِّر نفسي ومن حولي أني امرأة؟ أنا جالسة هنا أنتظر الموت، وهو آتٍ لا محال، لماذا أنتظره بكل ذلك الشغف، سأنزل لسُعاد، التي مازلت اسمعها ترقص على زين عابدين، وأطلب منها أن تعيد تأهيلي، لأبدو لأول مرة في حياتي كامرأة مثل الأخريات، ولماذا أذهبُ لسعاد أنا بإمكاني أن أتحوّل مني لنفسي، ثم أخرج للعالم كفراشة من شرنقتي.
ربما لو تغيرت قليلا يجد الحب طريقه لي، ربما خطة أمي في جذب ابن الحلال “إلى بيعرف ربنا” لم تعُد تصلح، أو أثبتت فشلَها في حالتي.. الحب، ما هو الحب أصلا؟! أظن أني أعرف الكثيرَ عن الحب، شاهدتُه في عيون الكثيرات، لمعة مؤقتة ما تلبث أن تختفي سريعاً، هبات من ريحِ سعادةٍ خالصة، تأتي وترحل عشوائياً، مخلفةً وراءها أحياناً ألمًا، وأحياناً ضجرًا وأحياناً يأسًا وضياعًا تامًّا.. ما فائدة الحب إذًا؟ أظن أنني لا أعرف شيئاً عن تلك الخدعة التي لم أنخدع بها من قبل، هل أنا أذكى من الحب؟ أم أن الحبَّ أذكى مني فتجاهلَني من قبل أن أتجاهلَه.. أنا أريد أن أفعل شيئاً، إما أن أفعل شيئاً جديداً اليوم، أو أموت أفضل، لا يوجد كيانٌ ثابت على حاله إلا الكيان الميت، حتى أهلي عندما رحلوا تغيروا من حالٍ لحال، لا شيء ثابتٌ هنا غيري.. طالما أردت الذهاب لسوق الساعة، أو كما تطلق عليه سعاد “ساعة القماش”، لماذا لا أذهب اليوم، وأشتري طُرَحاً ملونة، وملابسَ للبيت نسائية، أصبحت وحدي في البيت، لماذا لا أرتدي ما يحلوا لي كما تفعل النساء؟
التاكسي رفض الدخول لقلبِ السوق المكتظ بعربات الباعة، عرباتٍ صغيرة تصطف ملاصقةً لبعضها البعض عن يمين ويسار الطريق، تمتلئ عن آخرها بجبالٍ من الملابس الملونة، تبدو وكأنها ضفّتا وادٍ يموج فيه نهر من النساء، كل ألوان النساء، جئن من كل حدب وصوب لينبشن في محتوى العربات، بحثاً عن كنوز مما قل ثمنه و قُبِل ذوقُه.. الأرديةُ المعلقةُ على العربات، تسد رؤية الأفق. بدأت أشعر وكأني دخلت أدغالاً لانهائية من أرديةٍ لامعةٍ زاعقةِ الألوان، مطرزةٍ بالذهب والفضة، تتلألأ في ضوء شمس العصاري، تجذب إليها النساء كالنحل للأزهار.. النساء البسيطات يتفحصن الأرديةَ التي تكشف أكثر مما تستر، ويتبسطن مع الباعة في مباحثاتٍ مطولةٍ لخفض أسعارِ ما هو في الأصلِ بخس، وكأن الهدف ليس تخفيضَ السعر، وإنما الاستمتاع بالحالة، بكل تفاصيلها.. كلّ امرأة من هؤلاء، بلا استثناء، لها حسنٌ وفتنة خفية، تحت قشرةٍ من الاحتشام والتحفظِ المزيف، تمامًا مثلي تحمل كلٌ منهن حلماً سرياً بالغواية، الغواية أم إرضاءِ النفس أم التأكيدِ على أن الأحلامَ مازالت قريبةً وأن العمر مازال فيه بقيةٌ باقيةٌ من رمقِ الحياة.. لفت انتباهي رداءُ نومٍ ذهبيٍ معلقٍ في أعلى الأعالي، خطفَ بصري وسلبني أنفاسي بِوَميضه، كان يرفرفُ فيبرق وسطَ الأردية، متوهجٌ كالشمس بين كواكب، وقفت أمامه مشدوهة للحظات حتى سمعت صوتاً يقول: “أنزله لحضرتك؟” فطقطقت رأسي بالموافقة، شعرت وقتها في قرارة نفسي أن هذا الثوب يحمل لي إشارة، انفراجةً قريبة، خروجًا من عتمةِ حزني لغدٍ مشرقٍ وأكثر بهجة.
يا ترى، البلوزة الحمراء التي اشتريتها تصلح للعمل؟ هل يعقل أن أرتدي أحمر وطرحة أحمر بأسود؟ سيقولون جُنت بعد موت أهلها، كيف خطر على بالي أن أشتري تلك الألوان؟ وماذا لو ربطت الطرحة من الخلف، “سبانيش” كما تقول الفتيات، ما هذه الأفكار المجنونة، أنا جُنّ جنوني، هذا لا شك فيه، هل جن جنوني الآن، أم أني في السابق كنت مجنونة تتظاهر بالعقل؟ لا أصدق أن جارتي سعاد مازالت تسمع نفس الأغنية حتى تلك الساعة، أه يا زين أه يا زين العابدين، لا لا البيت هادئ تمامًا، الأغنية عالقة في ذهني أنا وحدي.. رداء النوم الأسود القصير هذا، كيف تجرأت على أن أقف وسط النساء وأنزعه من يد فتاةٍ كانت تتفحصه؟ ولمن سأرتديه؟ ولماذا لا أرتديه لنفسي؟ حتى ابنةُ سعاد ذات الأربع سنوات فهمت أنها تتزين لنفسها وأنا ما زلت في حاجة لأن أفهم البديهيات.. الرداء الأسود على جسدي جميل، والرداء الذهبي أجمل، وكأنهما صنعا امرأةً من كومةِ لحمٍ لم تكن لها معالم، خسارة العمر الضائع، أول مرة أرتدي شيئا مثل هذا، الله يسامحك يا أمي، أين أنا من عالمِ النساء المزركش الملون البهيج؟
فات السبت سريعًا وقلقًا وجاء الأحد، أول مرة أُظهر جزءًا من عنقي في العلن منذ سنوات طويلة، شعور الهواء على عنقي ما أغربَه، سعيدةٌ وخجلى وأشعر بجزءٍ من العارِ والفضيحة، الكل ينظر لي باستغراب واندهاش، أول مرة أضع مساحيق تجميل، حرصت على أن تكون خفيفة حتى لا أصدم أحدًا، أظن أني بمظهري هذا الصباح قد صدمت نفسي أولاً، ثم سعاد التي كانت تقفز من الفرحة لرؤيتي في لونٍ غيرِ الأسود أو الرمادي أو البني، ثم البوابَ الذي شخص في وجهي فأشعرني أني فقدت عقلي، وكأني خرجت عارية، عنده حق، أنا واللون الأحمر لم نجتمع أمامه من قبل.. ثم شعرت أني صدمت المارة والشوارع والسيارات والمحلات وعربات الحنطور وأطفال المدارس، أظن أن الصدمةَ الحقيقيةَ كانت بداخلي أنا، لا عند أحد غيري، اكتشفت أن الحياة خارجَ دائرتي الصغيرة أبسط مما أتخيل، وأن لا أحد يأبه بي أصلاً، ارتديت أحمر أو أسود، أنا في الحقيقة غير مرئية، أنا والآخرون سواء، لا معالم لنا إلا في نظر من يعرفنا.
مرّ يوم عملي عادي، لم تتعدَّ اندهاشات الزملاء أول نصفِ ساعةٍ من النهار، وعدت لإيقاعِ العملِ الرتيب، حتى رمت حنان زميلتي في منتصف النهار ببعض الأوراق أمامي، وهي تطلب مني أن أنهي لها إجراءات دفتر توفيرٍ لعميل يجلس في الانتظار، وذلك لأنها في حاجة للرحيل سريعاً لتعرضها لظرف طارئ، وما أكثر ظروف حنان الطارئة. تناولت الأوراق لأراجعها، وإذا بي أرى ما لم تصدقه عيني، اسم العميل: زين العابدين كامل التهامي، أخذتُ أكرر الاسم في سري وزاد خفقان قلبي، سال عرقي على وجهي وخرّت قواي، وقلت لنفسي إنها الإشارة. هذه هي الإشارة.. اليوم هو يومي، كل ما حدث كان يقودني لهذه اللحظة، طبعاً، لماذا هذا التغيير المفاجئ الذي اعتراني، فقررت أن أغير مظهري الذي اعتدت عليه واعتاد علي؟ كله كان من أجلِ تلك اللحظة الذهبية، اللحظةِ الذهبيةِ التي أشار لها رداء النوم الذهبي، وأغنية زين العابدين التي يتردّد صداها في ذهني منذ يومين.. ترددت، هل أنادى على الاسم أو لا؟ وفي لحظةٍ حاسمة مشيت لحيث الميكروفون ببطء وأنا أغني في سري بخلاعة سينمائية “أه يا زييين عابديين، يا ورد، يا ورد مفتح بين البساتييين”، وندهت بصوت تعمدت أن يكون أنثوياً على قدر معرفتي واستطاعتي، فالتف بعض زملائي من الرّجال للتأكد من صاحبة الصوت، فرأيت في عيونهم استغرابًا، فلم أهتم، وأعدت النداء: “أستاذ زين العابدين كامل التهامي شباك 7″، سرعان ما رأيت رجلًا أربعينيًا، ممشوقَ القوام يتحرك من مقعدِه ببطء ويخترقُ زحامَ طوابير العملاء، اقتربَ من بعيد في معطفه الأسود وكوفيته حمراء، فوجدت نفسي أنتفضُ من السعادة بالإشارات التي تنهال علي كالمطر بعد طولِ جفافٍ وانقطاع، فقد كان يرتدي نفس الألوان التي كنت أرتديها، ياللمصادفة السعيدة، اقترب حتى وصل للشباك، فتسمرت عيناي عند شفتين واعدتين بابتسامة في طريقها للسطوع وشاربٍ بني منمق، يعلوه أنفٌ صارمٌ استعار انحناءته من الصقور، حتى انتهت رحلة صعودي عند عينين بريئتين عسليتي البريق.. تثبتَ فمي على وضعِ الفتحِ وعيناي على وضع الشخوص وكأني ماكينة كانت تعمل بكفاءة منذ لحظات، ثم كسر ترسها فأصبحت عديمة الفائدة.. نظر إلي في تساؤلٍ بابتسامة أشرقت منها أسنانه البيضاء وقال: “حضرتك ندهتي!”
فقلت على عجل متظاهرة بالحزم “أيوة يا فندم حضرتك أستاذ زين العابدين، امضيلي هنا لو سمحت”
فرد “أنا همضي عن زين العابدين”
فنظرتُ له مستنكرةً محاولةً ألا أفقد بريقي الأنثوي المفتعل “ليه يا فندم مش حضرتك أستاذ زين العابدين؟!”
فرد وقد كبرت ابتسامته” لا يا فندم، ده هو زين” نزل الرجل لأسفل الشباك وارتفع بطفلٍ صغيرٍ يغار القمر من جماله فأوحى لي من فوره أن أمه لابدّ أجملُ منه، ابتسم الطفل ولوح لي بيده الصغيرة متحمساً فلوحت له بابتسامة محبة متحسرة، أنزله الرجل فاختفى ثانيةً عن ناظري تحت الشباك، ثم استطردَ مَن سَلَب لُبي منذ دقائق وفجأة تحول في نظري لرجل عادي معقوف الأنف، وقال: “أنا الوالد كامل التهامي”..
فرددت بعدم اكتراث مفاجئ: “مفهوم يا فندم ربنا يخلي، امضيلي هنا وهنا”
خدعتني الإشارات اللعينة، ويالها من خدعة مؤلمة، وكأنّ هناك من يدبرُها عن قصدٍ ليسخرَ مني، ولكني مازلت أؤمن بالإشارات، وذلك على الرغم من أني لديّ كل الأدلة التي تفنّدُ وهمَ الإيمان بها، لكني أيضًا لا أريد أن أعود لانتظارِ الموت، سأنتظر الإشارة التالية أفضل، لعلها تأتي، وإن أتت لعلها تصدقني الوعد، ولو لمرةٍ واحدة..