الإرث الإسلامي في أوروبا: تبادل ثقافي أم صراع ديني؟ (مترجم)
بقلم: أنتونيو هيريرا- بورخا فرانكو يوبيس
يوجدُ في أيامنا هذه ميلٌ إلى التفكير في التفاعل التاريخيّ بين الإسلام والمسيحية من منظورِ الغزو والصراع الديني. إنّها فكرة تشكِّلُ إلى حدٍّ معين، العمود الفِقري لردودِ الفعل الاجتماعيّة والسياسيّة التي تحدُث عادةً بشأن الهجرة الإسلاميّة -وخاصًّة التحدي المتعلق بالّلاجئين- وللنقاشِ حولَ تأثيرها في القيمِ الأوروبيّة الأساسيّة.
لكن هذه رؤيةٌ لا يشاطِرها كثيرٌ من الباحثينَ الذينَ يدرسون العلاقاتِ بين الأديان والثقافاتِ المختلفة في أوروبا، والذين تكشف تحليلاتهم، على العكس من ذلك؛ أنَّ الوضع كان، طيلة قرونٍ، أكثرَ تعقيداً وأغنى بالفروقِ الدقيقة، وأنّه لم يكُن متوافقًا مع المعاييرِ المتعلّقة بالمواجهةِ فقط..
إرثٌ مدروسٌ جيدًا، لكنّه يخلو من تفسيرٍ أوروبيٍّ شامل!
في السنوات الثلاثين الأخيرة، نمت الدراساتُ حولَ العلاقاتِ التاريخيّة المتبادلةٍ بين المسيحية والإسلام في أوروبا نموًّا مطَّردًا، وبفضل هذه الدراسات، تُعرَفُ اليوم على نحو أفضل الشبكاتُ الثقافية والتجاريّة، والطرق البريّة والبحريّة، التي وصلَ من خلالها إلى القارّة العجوزِ مجموعاتٌ معتبرة من الأشخاص والمعارف والأشياءِ القادمة من الضفاف الإسلامية للبحرِ الأبيض المتوسط والبلقان.
تزايدت الأبحاثُ حول هذه القضايا في مناطقَ جغرافية متباينة -شبه الجزيرة الايبيريّة، إيطاليا، أوروبا الوسطى، البلقان، وكذلك في جزر البحر المتوسط المختلفة- لكنّها فعلت ذلك بشكلٍ منعزل، ناظرة إلى التاريخ المحليّ وتاركةً جانبًا رؤيةً جغرافيّة أوسع. بهذا المعنى، إنّ الفجوةَ الأكاديميّة بين أوروبا الوسطى/الغربيّة وشبه الجزيرة الايبيرية، على سبيلِ المثال، ملحوظةٌ على نحوٍ خاص.
هذا الافتقارُ إلى التفسير الشامل، له أهميةٌ خاصّة؛ لأنه أعاق الاعتراف بالطبيعة الأوروبية حقًا للوجود الإسلاميّ في القارة، وأسهم هذا بدوره في تغذية أفكارٍ مسبقة في المجتمع الحالي حول العلاقةِ التاريخيّة بين الإسلام والمسيحية.
واعين بأهمية عكس هذا الوضع، آخذينَ بالحسبان الفارق الثقافيّ والسياسيّ الذي تعيشه أوروبا في الوقت الرّاهن، تشاركُ حاليًّا مجموعةٌ من أكثرَ مِن 150 باحثًا قادمين من 38 بلدًا من أوروبا والبحر المتوسط في مشروعٍ Cost Action1 تحتَ عنوان:Islamic Legacy. Narratives East, West, South and North of the Mediterranean (1350-1750).
انطلقت أسسُ هذا المشروع من أسئلة بحثيّة مختلفة تربطُ الماضي التاريخيّ للمناطقَ الأوروبيّة المتباينةِ وتسعى إلى التفكير بشروطٍ مختلفةِ ومن منظوراتٍ جديدةٍ في المجتمعات ما قبل الحديثة.
إعادةٌ التفكيرِ بالعلاقة مع الإسلام
مقابلَ التعميم المعتادِ الحادثِ عند تصوّر العلاقات السياسيّة والثقافيّة بين الشرق والغرب من منظورٍ الغيريّة/الاختلاف، يُظْهِرُ واقعُ الدراسة التاريخيّة أنّ الطريقة التي تشكلت بها المواجهة عبر القرون لمْ تكن واضحةً دائمًا.
أرادت بعض الاتجاهاتِ التاريخيّة إظهارَ المجتمعينِ المسيحيّ والإسلاميّ عدوّين، ونموذجينِ متعارضينِ في الحياةِ والفِكْر، يعيشان دائماً في حالة مواجهة. تمَّ تحليلُ النصوص والصور، في حالاتٍ عديدة، بأسلوبٍ مُنحاز، ينزِعُها من سياقها، ويأخذ في الاعتبار وجهًا واحدًا للعملة، وهو ذلك الذي ينطلقُ من الثقافة المفترضِ أنَّها المُهيمنة، ألا وهي الغربيّة.
على سبيل المثال، تبني مجتمعاتنا اليوم، في جزءٍ منها، صورًا نمطيّة وُلدت من أقلامٍ ورِيَشِ الكتّاب والفنانين في عوالمِ العصور الوسطى والحديثة. وهؤلاء يرسمون المُسلمَ شخصًا ينبغي أن يعتمر عمامةً وذا بشرةٍ داكنةٍ ويسلُك سلوكًا فاسدًا، دائمًا مقابلَ المسيحيّ، الذي لا بد أنْ يكون، بالضرورةِ، أبيضَ البشرةِ وذا استقامةٍ أخلاقيّة؛ في شكلٍ من أشكالِ ما قبلَ العُنصريّة pre-racism. هذه الأفكار، التي تم تبنيها لأعوام، وتمَّ التشكيكُ فيها تشكيكًا سطحيًّا في لحظاتٍ تاريخيّة معينة، ينبغي أن يُعاد التفكير فيها في ضوء الدراسة النقديّة للمصادرِ التي تتضمن موارد (صورًا ونصوصًا) إسلاميّة.
البحرُ الأبيضُ المتوسّط بوصفه حدًّا قابلًا للنفاذ
الكثير من هذه المقاربات تصرُّ على العداوة بين الإسلام والمسيحية ، وعلى كونِهما مجتمعينِ منفصلين، تنطلقُ من فكرةٍ فِهم الـ Mare Nostrum 2 بوصفه حاجزًا بين أوروبا وشمالٍ أفريقيا أكثرَ منه فضاءً للتبادل.
لحسن الحظ، أخذ هذا الميل بالتغيُّر في الأعوامِ الأخيرة. فمن خلالِ السِيَر الذاتيّة للأسرى، أو المتحوّلين إلى دينٍ آخر، أو العبيد، وكذلك من خلال دراسةِ تجارةِ المنسوجات، والكتب، والقطع الفنيّة، وموادِ الاستخدام اليوميّ، يمكن تصوّر كثافة التواصلِ الذي كان يحدث بين ضفتيّ البحر المتوسط، بآلافٍ من الأشخاص والأشياء والأفكار التي كانت تتنقل في كل لحظة.
إن مفهوم الحدود ذاته يقتضي إعادة التفكير عندما نتحدث عن الإسلام في أوروبا. تحدِّد الخرائطُ خطوطًا فاصلةً بين الأقاليم من خلال التفريقات السياسيّة والثقافيّة والدينيّة التي لم تتفق دائمًاً مع الواقع وكانت عُرضةً للتغير طيلة قرون. لذا، إنّ من الضروري إعادةُ التفكيرِ في مفهومِ الحدِّ الجغرافيّ بوصفه تمثيلاً تم إيجاده بقصدِ الإبعاد، لكنّه يشتغل في الواقع بطريقةٍ حيّة كفضاءِ اتصالٍ قابلٍ للنفاذ.
مثالُ المتاحف
في السنواتِ الأخيرة، حدث تجديدٌ في طريقة تنظيم المتاحف الأوروبيّة لمجموعاتها من الفنِّ الإسلاميّ وفي طريقةِ تقديمها لعامّة الناس، كتلك العائدةِ للمتحف البريطاني، ومتحف Gulbenkian في لشبونة، والمتحفِ الوطنيّ للآثار في مدريد، ومتحفِ اللوفر، ومتحفِ الفن الإسلاميّ في برلين، أو متحفِ Benaki في أثينا، فضلاً عن متاحفٍ أخرى كثيرة.
في بعض الحالات، وجد روادُ المتاحف أنفسهم، على سبيلِ المثال، أمام سرديّاتٍ جديدة، تسعى إلى نقل أفضلٍ للروابط المتبادلة بين الثقافات والأديانِ المختلفة.
وقد طال التجديد الفئاتَ الفنيّة التقليديّة لـ “الفنّ المسيحي” و”الفنّ الإسلامي، اللذين ما عادا يُفهمان على أنّهما خيارين مختلفان، أو أسلوبين مختلفان ينطلقُ كلّ واحدٍ منهما من تقليده الخاص، وإنما هما كائنان حيان، ومتغيران، وكثيرًا ما يقتبسانِ من بعضهما البعض. لذا، يتوجّه النقاشُ الأكاديميّ الآن أيضًا إلى تحليلِ التفاعل الذي حدث بين الشرقِ والغرب، في إظهارٍ لتاريخ طويل من التواصل وليس المواجهة فقط..
إن تطويرَ مشاريعٍ مثلَ Cost Action المذكورٍ سلفًا يسعى إلى تكوين كتلةٍ أكاديميّة حَرِجة على المستوى الأوروبيّ تسمحُ بإقامةِ جسورٍ بين البحثِ الأساسيّ والمؤسساتِ الثقافيّة؛ بهدفِ أن يفكر المجتمع الأوروبي على نحوٍ أكثر وعيًا في ظاهرةٍ هي وجود الإسلام في أوروبا، حيث تشكّل جزءًا من التاريخِ المشترك للقارّة.
نرشح لك: التديُّن الانفصامي كيف تحوَّلَ الإسلام من دينٍ يُعاشُ إلى دينٍ يُمارَسُ؟
European Cooperation In Science and Technology 2 - الاسم الروماني للبحر المتوسط، ومعناه: بحرنا. المصدر: https://theconversation.com/el-legado-islamico-en-europa-mas-intercambio-que-conflicto-religioso-131428