الأكوان المتعددة: ما هي؟ وهل يوجد دليل على وجودها؟ (مترجم)

▪️ حتى الآن، قد يتسنى للعلماء رصد مايقع حتى حافة الكون، فهل سنتمكن ذات يوم من معرفة مايقع وراءه؟. ترى ما الذي يكمن وراء حافة الكون المنظور؟، أيمكن أن يكون كوننا هذا مجرد واحد من الأكوان المتعددة؟

في عالم السينما، لم تكف الأفلام يوماً عن طرح مثل تلك الأسئلة والسعي وراء إستكشافها، بدءا من أفلام الأبطال الخارقين، مثل “DR Strange in the Multiverse of Madness” وصولاً إلى الفيلم الهندي الشهير “Everything Everywhere All at Once”، حيث ظلت قصص الخيال العلمي  مفعمة دوما بالتفاعلات والتداخلات الإبداعية فيما بين العوالم البديلة “الموازية”. وأياً من كان عالِم الكونيات الذي تتوجه إليه بالسؤال، يظل مفهوم “الأكوان المتعددة” أكثر من مجرد خيال محض أو وسيلة لخلق القصص والحكايا.
في الواقع، إن الأفكار البشرية حول “الواقع البديل – العالم الموازي” قديمة ومتنوعة، ففي عام 1848 كتب “إدجار ألان بو”  قصيدة نثرية تخيل فيها وجود “تعاقب لا محدود للعوالم”، إلا أن مفهوم “الأكوان المتعددة” في حد ذاته ظهر وتشكلت معالمه حين شرعت النظريات العلمية الحديثة في التكهن بوجود أكوان أخرى فيما وراء عالمنا، في محاولة منها لتفسير خصائص كوننا المعلوم.

يقول الفيزيائي من جامعة ستانفورد “أندريه ليندي”: “إن فهمنا للعالم الواقع لم يكتمل إلى حد بعيد، فالعالم موجود بصورة مستقلة عنا”. وبناءً عليه، إذا كانت تلك الأكوان موجودة بالفعل فهي منفصلة عنا، لايمكن الوصول إليها أو رصدها بأي مقياس مباشر (حتى الآن على الأقل)، وهو ما دفع عدد من العلماء للتساؤل عما إذا كان البحث عن أكوان متعددة هو أمر علمي حقآ.

ومن هنا فإننا نتساءل بدورنا، هل سيتمكن العلماء ذات يوم من معرفة ما إذا كان كوننا هو الكون الوحيد الموجود؟
وفي السطور التالية سوف نقوم بتفكيك النظريات المختلفة حول فكرة وجود “كون متعدد” محتمل يضم بين أرجاءه أكوانًا يسير كل منها وفقا لقوانينه الفيزيائية الخاصة، وما إذا كان من الممكن أن تكون هناك نسخ متعددة لكل فرد منا تعيش في تلك الأكوان.

ما هي “الأكوان المتعددة”؟

“الأكوان المتعددة” هو مصطلح يستخدمه العلماء لوصف فكرة مفادها أنه فيما وراء كوننا المعلوم قد تكون هناك أكوان أخرى. وقد ظهرت العديد من النظريات العلمية التي تفترض وجود أكوان متعددة، ومن ثم وضعت تلك النظريات طائفة من السيناريوهات المحتملة المتنوعة، بدءا من وجود مناطق في الفضاء في مستويات مختلفة عن المستوى الذي يوجد به كوننا، وصولا إلى ماوصفوه بأنه “توالد أكوان” منفصلة مستقلة، تنبثق إلى الوجود بإستمرار.
ورغم إختلاف وتنوع تلك النظريات، فهي جميعا تتشارك في عامل واحد هو أن المكان والزمان اللذان يمكننا رصدهما لايشكلان الواقع الوحيد.

إعلان

ولكن، لماذا يعتقد العلماء أنه قد يكون هناك أكثر من كون؟

في هذا الصدد يقول الصحفي العلمي “توم سيجفريد”، مؤلف كتاب “The Number of the Heavens” والذي يناقش فيه تطور مفاهيم الكون المتعدد عبر آلاف السنين: “لايمكننا تفسير كافة خصائص كوننا إذا لم يكن هناك سوى هذا الكون فقط” ؛ ويتساءل “لماذا توجد الثوابت الأساسية للطبيعة على ماهي عليه؟ لماذا وجد زمن كاف في كوننا لتشكل النجوم والكواكب؟ لماذا تشع النجوم على هذا النحو التي هي عليه وبهذه الكمية الكافية من الطاقة؟ كلها أسئلة لانملك إجابات عنها في نظرياتنا الفيزيائية”.

وهنا يطرح سيجفريد نظريتين محتملتين:
إما أننا في حاجة إلى نظريات أحدث وأفضل لشرح وتفسير خصائص كوننا،
أو كما يقول أن “كوننا ربما ليس سوى واحد من بين أكوان عدة مختلفة وأننا نحيا في الكون اللطيف والمريح من بينها”.

ماهي أكثر نظريات الأكوان المتعددة شيوعاً؟

تأتي الفكرة الأكثر قبولا من الناحية العلمية مما يعرف ب “علم الكونيات التضخمية” والتي تتلخص في أنه في اللحظات القصيرة التي أعقبت الإنفجار العظيم، بدأ الكون في التمدد بوتيرة متسارعة. ومن ثم يفسر “التضخم الكوني” الكثير من الخصائص الملحوظة للكون مثل تركيبه وتوزيع المجرات عبره.
“في البداية…” يقول ليندي، وهو أحد مهندسي نظرية التضخم الكوني، “… بدت هذه النظرية وكأنها قطعة من الخيال العلمي، إلا أنها ساهمت في تفسير العديد من الخصائص المثيرة لعالمنا، مما جعل الكثيرون يأخذونها على محمل الجد“. ومن بين التنبؤات التي تطرحها تلك النظرية هو أن التضخم الكوني من الممكن أن يحدث مراراً وتكراراً، وربما على نحو لانهائي، مما يتولد عنه كوكبة من “الأكوان الفقاعية” ليس لها جميعاً ذات الخصائص السائدة في كوننا، وإنما قد تنطبق عليها خصائص فيزيائية مختلفة.
وقد تكون بعض تلك الأكوان مشابهة لكوننا الخاص، ومع هذا فهي جميعاً تقع فيما وراء حدود العالم الذين يمكننا رصده.

ماهي الأفكار الأخرى حول نظرية الأكوان المتعددة؟

من بين النظريات الأخرى الوجيهة للأكوان المتعددة مايعرف بـ ” تفسير العوالم المتعددة Many Worlds Interpretation” لميكانيكا الكم. حيث تقترح هذه النظرية، والتي قدمها العالِم الفيزيائي “هيو إيفريت” عام 1957، وجود مايسمى “خطوط زمنية متفرعة” أو “عوالم موازية”، في كل منها تتخذ قراراتنا مسارات متباينة يترتب عليها في كثير من الأحيان نتائج مختلفة إلى حد بعيد.
وفي هذه الجزئية، يحاول عالِم الفيزياء “جيمس كاكليوس” من جامعة مينسوتا – والذي كتب عن فيزياء ( أو لا فيزياء) الأبطال الخارقين- توضيح هذه النظرية : “يقول هيو إيفريت: هناك عدد لا نهائي من كواكب الأرض الموازية، وحين تقوم بإجراء تجربة ما وتحصل على نتائجها المحتملة، فإن ذلك يؤكد أنك تحيا على  “كوكب الأرض” حيث خرجت تلك النتائج، بينما على “أراضٍ” أخرى سوف تحصل على نتائج مختلفة”.
وفقا لهذا التفسير، قد تكون هناك نسخ متعددة منك تعيش في عوالم موازية حيوات مختلفة كنت لتعيشها لو أنك إتخذت قرارات مختلفة عن تلك التي تتخذها فعليا هنا. ومع هذا، فإن العالم الواقع الوحيد الذي يمكنك إدراكه حقآ هو هذا العالم الذي تحيا فيه.

إذن، أين توجد كواكب الأرض الأخرى تلك؟

تتلخص الإجابة على هذا السؤال في أن كواكب الأرض الأخرى تلك تمتد وتتداخل في أبعاد متعددة لايمكننا رصدها أو الولوج إليها؛ ويشير “ماكس تيجمارك” من معهد ماساتشوستس، إلى هذا النوع من الأكوان المتعددة على أنها “كون متعدد من المستوى الثالث”، حيث توجد سيناريوهات متعددة في العوالم المتفرعة. يقول ليندي: “قد توجد القنبلة الذرية في العوالم المتعددة، لكنك لاتعرف متى ستنفجر بالضبط في كل عالم منها، وربما لا تنفجر القنبلة أبدا في بعض من تلك العوالم”
من جانب آخر، إقترحت بعض نظريات التضخم الكوني أن الأكوان المتعددة هي ما أطلق عليه تيجمارك: “كون متعدد من المستوى الثاني”، حيث تختلف القوانين الفيزيائية الأساسية السائدة عبر الأكوان المختلفة. يقول ليندي: “في كون تضخمي متعدد، أنت لاتعرف حتى ما إذا كان من الممكن  أن توجد قنابل ذرية من الأساس أم لا”.

ماذا لو أردتُ أن أقابل نفسي؟، كيف يمكنني الوصول إلى هناك؟. هل بإمكاننا السفر بين الأكوان المتعددة؟

مع الأسف لا، إذ لايعتقد العلماء أنه من الممكن السفر بين الأكوان، على الأقل حتى وقتنا الراهن. “مالم تكن القوانين الفيزيائية الراسخة التي نعرفها خاطئة…” يقول سيجفريد، “… فإنك لايمكنك السفر عبر  الأكوان المتعددة. ولكن،  ربما بعد ألف عام من الآن قد يتمكن شخص ما من إكتشاف مالم نتخيله أبدا”.

هل ثمة دليل مباشر على وجود أكوان متعددة؟

رغم أن هناك بعض الخصائص الكونية تتطلب بالضرورة وجود أكوان متعددة، فحتى الآن لم يتم رصد أي شيء مباشر يؤكد وجودها. وحتى الدلائل الداعمة لفكرة وجود أكوان متعددة، لاتزال حتى يومنا هذا دلائل نظرية محضة، بل وفي بعض الحالات لا تعدو كونها نظريات فلسفية.

علاوة على ذلك، ترى طائفة من العلماء أن الإنفجار العظيم إنما قد تولد عنه ذلك الكون المتوازن الملائم لوجودنا، بمحض الصُدْفة الكونية. فيما تعتقد طائفة أخرى أنه من المرجح أن يكون هناك عدد من الأكوان المادية وأننا ببساطة نحيا في واحد منها يملك الخصائص الملائمة لوجودنا. هنا يقول كاكليوس أن وجود عدد لاحصر له من الأكوان أو الأكوان الفقاعية التي يمتلك بعضها خصائص فيزيائية أو قوانين أساسية مختلفة، هو فكرة جذابة… “ولهذا يأخذ بعض الناس مثل تلك الأفكار على محمل الجد، إذ تساعدهم على معالجة بعض القضايا الفلسفية”.

كذلك يدور جدال فيما بين العلماء حول ما إذا كانت نظرية الكون المتعدد قابلة للإختبار التجريبي أم لا، حيث يرى بعضهم أن هذا غير ممكن، معللاً ذلك بأن الأكوان المتعددة هي، بطبيعة تعريفها، أكوان مستقلة عن كوننا ومن المستحيل الوصول إليها، ومن ثم من المستحيل أيضا إختبار تلك النظرية. ولكن، من يدري، ربما لم نتوصل بعد إلى الطريقة الملائمة لإختبارها والوقوف على مدى صحتها.

أخيراً، هل سنتمكن ذات يوم من معرفة ما إذا كان كوننا ماهو إلا واحد من بين أكوان عدة؟

ربما لا نتمكن من ذلك أبدا، ومع ذلك تبقى فكرة الكون المتعدد واحدة من بين فرضيات عدة نتجت عن نظريات متنوعة يمكن اخضاعها للإختبار على نحو ما، وفي حال إجتازت تلك النظريات إختباراتها، تكون فرضية الكون المتعدد الناتجة عنها قد إجتازتها بدورها.
من ناحية أخرى، ربما تساعد الإكتشافات الحديثة العلماء على تحديد ما إذا كان هناك حقا شيء موجود فيما وراء حدود كوننا المرئي.

يقول سيجفريد: “الكون ليس مرهونا بما يمكن لبعض الكائنات من البروتوبلازما التي تعيش على كوكب ضئيل، أن تكتشفه أو تختبره. صحيح أننا يمكننا القول أن تلك الفكرة غير قابلة للإختبار وبالتالي ليست حقيقية، ولكن في واقع الأمر هذا لايعني سوى أننا لم نتوصل بعد لطريقة إختبارها. ربما نتمكن في يوم ما من إكتشاف كيفية إختبار نظرية الكون المتعدد، وربما لا، لكن الأمر الوحيد المؤكد هو أن الكون يتحرك وفقاً لإرادته الخاصة”.
***
المصدر

ملاحظات من المترجمة :
* إدجار ألان بو: شاعر و ناقد أدبي و مؤلف ومحرر أمريكي، ولد في 19 يناير 1809 وتوفي في 7 أكتوبر 1849. من أشهر قصائده: الغراب - أنا بيل لي - ألدورادو...
أما قصصه فمن أشهرها: سقوط منزل أوشر - القلب الواشي - ليجيا - القط الأسود...
** الكون المتعدد: هو فرضية تقوم على فكرة وجود مجموعة من عدة أكوان، بما فيها الكون الخاص بنا، وتشكل معاً الوجود بأكمله. وتسمى الأكوان العديدة داخل الكون المتعدد  أحياناً بالأكوان المتوازية أو الأكوان البديلة أو الأكوان الكمية أو العوالم المتوازية.
***تصور عالم الكونيات ماكس تيجمارك وجود أربعة أنواع من الأكوان وصفها بأنها مستويات:
المستوى الأول: حيث يتوسع الفضاء إلى أبعد ما يمكن رؤيته، ومن الممكن أن يستمر بذلك إلى الأبد.
المستوى الثاني: حيث تتواجد أماكن لا حصر لها  منفصلة بشكل دائم عن كوننا، ويملك كل منها قوانين فيزيائية مختلفة عن غيرها.
المستوى الثالث: يوجد نوع فضاء يسمى فضاء هيلبرت، حيث توجد فيه عوالم كاملة أخرى متفرعة بشكل كبير عبره.
المستوى الرابع: إعتقد تيجمارك أنه يمكن وصف الطبيعة و الأكوان بشكل جيد من خلال الرياضيات، حيث أن كل بنية رياضية تعمل على وصف كون مادي معين.

إعلان

اترك تعليقا