الأسس الفلسفية للممارسات الطبية القديمة، كيف أرشدتنا الفلسفة إلى الطريق؟
في أحد أبرز مؤلفاته “ فلسفة التاريخ ” يستطرد فيلهيلم هيغل عن تاريخ الممارسات الطبية قائلًا:
“ظاهرتان قديمتان قدم الإنسان: الدين والطب، أتقى بالأول شرور القوى الطبيعية المحيطة به وأشفق على نفسه من المرض وأفزعته آلام المصابين من أهله وعشيرته ففزع إلى التطبيب، نشأ الطب إذن مع صدور أول “آهة” من مريض تعبيرًا عن ألم من مرض ألم به أو من جرحٍ أصابه، ذلك لأن حاجة الإنسان إلى الشفاء لا تقل عن حاجته للغذاء”.
غير أن جهل الإنسان بالأسباب الطبيعية وغياب المنهج الفكري والمنطق القويم جعله يستعين بالسحر والشعوذة كوسيلة للتطبيب، حتى بدأ الإنسان يعرف موقعه ضمن الطبيعة، وتطور مع ذلك المنطق الإنساني وأساليب تفسير الظواهر المحيطة به فبدأت الممارسات الطبية تتحرر تدريجيًا من الخرافات والشعوذة إلى أسلوب حديث نسبيًا يعتمد الملاحظة كمنهجٍ للتفسير. وكانت الأمراض والإصابات السطحية أول ما تحرر من التمائم والرقي وأتجه نحو الممارسات الممنهجة لسهولة التعرف على أسبابها وبالتالي معرفة العلاج، إذ تعرف الأشياء بمسبباتها والمعرفة كما يعرفها أرسطو- تكون بمعرفة العِلل. ونتيجة لذلك كانت الأمراض العقلية والنفسية آخر ما تحرر من سلطان السحر والتعاويذ؛ لصعوبة التعرف على أسبابها الفسيولوجية من جهة وتأخر ظهور الطب النفسي إلى الساحة العلمية من جهة أخرى، إذ لا يزال شطٌر كبير من الناس حتى وقتنا الحاضِر يؤمنون بأن عددًا لا يستهان به من الأمراض العقلية كالصرع مثلًا يعود إلى الشعوذة أو الأرواح الشريرة ويرجعون الأعراض الطبية إلى أسباب ميتافيزيقية على الرغم من أن أبقراط (460- 370 ق.م) قد أوضح أن الصرع كغيره من الأمراض له أسبابه الفسيولوجية. كما ينسب له الفضل بأنه أول من اعتقد أن للأمراض أسبابها الطبيعية مخالفًا بذلك المعتقدات المنتشرة بين أطباء عصره ومن سبقوه الذين كانوا يعتقدون أنها من الخرافات وعمل الآلهة.
وكأي علم من علوم تلك العصور لابد أن تنشأ الممارسات الطبية من أسس ومناهج فلسفية، فالفلسفة تُعرف بأنها أم العلوم، وليس ببعيد عن وقتنا هذا حينٌ من الدهر كانت جميع العلوم مرتبطة بها، إذ من الفلسفة يولد المنطق ومن المنطق يولد التصنيف والقياس والاستقراء ومنها يبرز المنهج الذي يطبع عصرًا ما خالقًا روح ذلك العصر حسب تعبير هيغل. وهُنا كان الدور الأبرز للفلاسِفة اليونان دون غيرهم في مسألة وضع الأسس المنهجية لممارسة الطِب، وعلى الرغم من بعض الحركات التي ترد نشأة الطب القديم إلى وادِي الرافدين أو مصر القديمة إلا أنه كما قلنا أن أسس ذلك النوع من الطب وجدت لدى اليونان بالإضافة إلى الصينيين قبل غيرهم وأثرت المناهج التي وضعوها على الممارسات الطبية في العصور اللاحقة ومن ضمنها الممارسات الطبية في العصر الذهبي للحضارة الأسلامية -إذا ما علمنا أن كبار الأطباء من المسلمين كابن سينا والرازي وابن رشد اتخذوا طابعًا يونانيًا بحتًا- وحتى عصر النهضة الأوروبية حيث ظهر الطب التجريبي بديلًا عن طب الكُّليات أو القياس اليوناني دافعًا عجلة التقدم الطبي إلى ما وصلت إليه اليوم.
للاستطراد في صلب الموضوع وبعد هذه المقدمات التي لابد منها نقول: أن الطب في ذلك العصر كان ينظر إلى الإنسان ككُل أي على أنه وحدة واحدة لا تتجزأ وهو يعتمد بذلك على فلسفة المذهب الكلي أو الواحدي (لذلك قد يطلق عليه هنا وهناك طب الكُّليات) ويميل هذا المنهج إلى علاج الإنسان ككُل بعيدًا عن التجزئة والتخصص الذي يسود عصرنا الحالي فنتيجةً لهذه النظرة وعند حدوث إصابة ما فإن العلاج المتبع في هذه الحالة يهدف إلى استعادة الجسم ككل لعافيته المفقودة لا العضو المصاب فقط، فمثلًا يهدف العلاج بالإبر الصينية للمريض المصاب بالقرحة إلى استعادة التوازن وعلاج جميع أعضاء الجسم بدلًا من التركيز على أدوية تعمل على تقليل أو معادلة الحامض المعدي أو علاج فرط نشاط العصب التائه. وهذا الفرق جوهري مقارنةً بالممارسات الحالية للطِب وربما يعزى فقدان التخصص خلال تلك العصور إلى عدم توفر المعلومات اللازمة لدراسة كل عضو من أعضاء الإنسان على حدة فعلوم وظائف الأعضاء والباثولوجيا لم تكن قد ظهرت بعد، إضافة إلى تحريم الممارسات التشريحية.. هذه الأسباب وغيرها أدت إلى شيوع مذهب الكليات في تلك الفترة، إلى أن أعلن أبو الفلسفة الحديثة ديكارت أن التحليل والتجزئة هما عنصران أساسيان للحصول على أي معرفة.
بالإضافة إلى النظرة الكلية فقد سادت تلك العصور النظرة الحيوية أو المذهب الحيوي ليمثل الأساس الآخر الذي استندت عليه الممارسات الطبية، والمذهب الحيوي هو تيار مثالي يعتبر أن كل مظاهر الكائن الحي ترد إلى قوة حيوية أو عوامل فعالة في التكوين فيه تميزه بذلك عن الجمادات، وأن للظواهر الحيوية خصائص لا مثيل لها في الظواهر الكيميائية والفيزيقية وهو بذلك يعتبر الحياة الفارق الأساسي لتصنيف الحي من الجماد أو بطريقة أخرى يعدُ الفارق بين الكائنات الحياة من غير الحية فرقًا في الجوهر أو الطبيعة لا فرقًا في الدرجة. رُبما نرى أصداء مشابهة للمذهب الحيوي في الديالكتيك لدى هيغل حيث تنشأ الطفرة من تراكم التغيرات الكمية إلى حد تستحيل معه إلى تغير كيفي. و ترتد أصول المذهب الحيوي إلى أفلاطون وآرائه بصدد النفس، كونها قوة روحية تمكن الإنسان من تعقل المعاني الكلية، فهي مبدأ لا مادي قائم بذاته ومتمايز عن الجسم. وكذلك إلى أرسطو الذي يعد النفس أو الروح مبدأ الحياة والأفعال الحيوية في الكائنات الحية، من نبات وحيوان وإنسان، وهي في كلٍّ على قدره. وإذا كان الجسم يتألف من مادة وصورة عند أرسطو فإن النفس هي صورة الجسم الحي، والتي يطلق عليها اسم الكمال، ويصفها بأنها وحدة عضوية غرضية النشاط.
لقد ترتب على الحيوية استنتاج طبع روح ذلك العصر وهو أنه لا يمكن تفسير المعقد بالبسيط ولا يمكن رد الحياة العضوية إلى عناصر بسيطة غير عضوية، فالمركب يفسر العنصر والجهاز يفسر عمل العضو والأعلى يفسر الأدنى. تبعًا لذلك اتخذ المنهج المعرفي شكل الهرم الذي يتجه من الأعلى (الأعقد) إلى الأسفل (الأبسط) وهو نقيض المنهج الذي نتبعه الآن، حيث اعتبرت الحيوية من العلوم الزائفة كونها غير خاضِعة للتجريب ولا تنطبق عليها شروط الفلسفة العلمية ونقيضًا للحيوية حلت الاختزالية أو الردَّية حيث يمكن تفسير كل مظاهر الحياة أستنادًا على قوانين فيزيائية ومعادلات كيميائية ويعد الفرق بين الكائنات الحية وغير الحية فرقًا في الدرجة لا في النوع حيث الكل خاضع لقوانين لا ينفك عنها وهي صورة من صور الحتمية العلمية.
كان نتيجة لهذه الأسس مبادئ مهمة في الفلسفة أو في الطب وأهمها:
مبدأ الاتزان فعندما تقرأ للمرة الأولى محاورات الجمهورية لأفلاطون أو الميتافيزيقيا لأرسطو أو آراء الفلاسفة اليونان السابقين على سقراط، أنبادوقليس مثلًا أو جماعة الفيثاغوريين رُبما تلحظ وبطريقة لا تترك مجالًا للشك أن هؤلاء على اختلاف توجهاتهم الفكرية ومناهجهم الفلسفية متفقين جميعًا -إلى حدٍ ما- على فكرة التوازن الذي لابد أن يسود للوصول إلى صورة مثالية للعالم أو الإنسان. إنها يوتوبيا لا تقتصر على دولة مثالية يحكمها الفلاسفة لكنها تمتد ضمن الفكر اليوناني إلى توازن بين قوى ومكونات الجسد الإنساني للوصول إلى حالة مثالية يحكمها العقل وتحقق فضيلة الحكمة.
ضمن هذا المحور يمكن فهم الفكر اليوناني كُله فهو الاتزان بين العناصر الأربعة الأساسية في العالم وهي الماء والهواء والنار والتراب لأنبادوقليس. وهو الاتزان بين الحكام والجند والشعب في جمهورية أفلاطون الفاضلة والاتزان أو التوسط بين الإفراط والتفريط لدى أرسطو.
فمثلًا تمثل الصحة لدى أنبادوقليس توازن بين العناصر الأربعة أما المرض فهو اختلال لحالة التوازن تلك. ومن هذه النظرية طوّر جالينوس (129 – 216م) فكرة الأمزجة الأربعة حيث اختلالها يؤدي بالنتيجة إلى المرض كما في اختلال العناصر الأربعة.
أما أبقراط فقد رأى أن النفس الإنسانية تنحدر من الصحة إلى المرض بسبب فقدان التوازن بين الأمزجة الأربعة، حيث يحتوي جسم الإنسان على الدم والبلغم والصفراء والسوداء. تركب هذه الأشياء قوامه وتتسبب بآلامه وصحته. الصحة هي الحالة التي تكون فيها هذه المواد المكوّنة متناسبة مع بعضها، في القوة والكمية، ومختلطة جيدًا. يحدث الألم حين تبدي إحدى هذه المواد عوزًا أو زيادةً، أو حين تنفصل داخل الجسم ولا تختلط مع بقية المكونات.
ولابد من الإشارة إلى أن فقدان التوازن بين هذه المكونات لا يؤدي فقط إلى أمراض جسمية بل أيضًا إلى عوارض نفسية، ففرط السوداء يؤدي إلى الكآبة وفرط الصفراء يؤدي إلى السلوك العدواني أو الغضب.
انتقلت هذه النظرية في الأمراض إلى الفلاسِفة من الأطباء المسلمين، فقد اقتبس ابن سينا في كتابه القانون من أرسطو نظريته في الوسط العدل وبين إفراط وتفريط، وشرح العِلل التي تؤدي إلى اختلال التوازن بين الأخلاط وبالتالي المرض، وأضاف على نظرية أنبادوقليس في العناصر الأربعة معتبرًا الماء أهم كل العناصر مستدلًا بذلك على القول القرآني (وجعلنا من الماء كل شيءٍ حي). كما فصّلَ في نظرية الأمزجة الأربعة لجالينوس.
وينبغي الإشارة هنا إلى أن الممارسات الإسلامية في المجال الطبي وإن لم تخرج عن الأسس اليونانية إلا أنها اختلفت عنها من ناحية التطبيق بحكم المسافة الزمنية بين أبقراط وجالينوس والحضارة العربية، ويبدو الأثر اليوناني أكثر وضوحًا عندما نقرأ لابن رشد مقولته:
“متى اجتمع أرسطو وجالينوس على معنى فذلك هو الصواب، ومتى اختلفا فقد صعب إدراك الصواب”.
وفي جالينوس الذي صنفه العرب “ثاني الفاضلين” بعد أبقراط يقول المتنبي:
يَمُوت راعي الضّأن في جَهْلِهِ ميتَة جالينوسَ في طِبَّهِ.
أما المبدأ الثاني فهو الغائية وهي النظرية التي تزعم أن كل ما في الطبيعة إنما يتوجه إلى تحقيق غاية معينة، فالغائية هي علم الغايات؛ إذ ترى أن العلة هي الكامنة وراء أنواع التغيرات كلها، حتى السلوك الإنساني الأكثر عقلانية يفسر عامة بأنه خاضع لتأثير الغاية، والطبيعة أيضًا خاضعة للغاية، إلا أن الغاية فيها مزروعة بطريقة غير واعية، أما الإنسان فإنه يحدد غايته بطريقة واعية. ويقوم مبدأ الغائية على أن كل ما هو موجود إنما هو موجود ويفعل من أجل غاية ما، والغايات الجزئية في العالم مرتبطة بغاية كلية واحدة.
وهي إحدى محاور فلسفة أرسطو: أن كونًا تحكمه الغائية لهو أكثر معقولية من كون تحكمه الصدفة العمياء، وأن الغائية متحققة في الموجودات الطبيعية.وعرف ارسطو الغائية بأنها المبدأ الذي تتحرك الأشياء بمقتضاه نحو تمام صورها، التي هي وجودها بالفعل، وكل ما في الطبيعة يخضع لغاية واحدة أسمى.
اختلفت الآراء حول الغائية بعد أرسطو الذي أرسى أول مبدأ غائي، فقد صنفها البعض على أنها واعية حتى في الكائنات الغير واعية وذهب البعض الآخر إنها لا توجد إلا في الإنسان وبصورة غير واعية، أما القديس توما الأكويني فقد اعتبرها البرهان على وجود “الإرادة الأسمى” التي توجه الكائنات نحو غاياتها ونحى ابن سينا والكندي هذا النحو أيضًا، كما أن لفكرة الغائية التأثير الملموس في فكر كل من هيدغر و هيغل في العصر الحديث.
أما من الناحية الطبية فإن تمام الصحة يكون في تمام تأدية الأعضاء لوظائفها على أفضل وجه. وتتحقق هذه الغائية من خلال قوة تسري في الجسم بأكمله تسمى في الفكر اليوناني “الطبيعة” أو الطاقة الحيوية كما ورد إيضاحها أعلاه. وهنا يتضح -من تسمية الطبيعة- أن هذه الفلسفة لا تضع حدودًا فاصلة بين الإنسان والكون فهما كلٌ متسق ووجهان لعملة واحدة. إذ لا فرق بين الوجه الخارجي للطبيعة الذي ندركه بالحواس والوجه الداخلي لها الذي يدرك بالمشاعر، ويتجلى هذا الانسجام في القول العربي: “إذا عرف العالم عرف الإنسان الكبير وإذا عرف الإنسان عرف الكون الصغير”.
لقد انعكس هذا التصور الفلسفي على الطب فغدت وظيفته محاكاة الطبيعة. ذلك لأن الطبيعة ليست سلبية، وهي واعية بدورها في مصارعة المرض مستعينةً في ذلك بالدواء الملائم للعضو العليل.
أما المبدأ الثالث المتعلق بمنهج المعرفة هو الفراسة، والفراسة هي استدلال الباطن من خلال الظاهر، اشتهر قديمًا عند العرب بالإضافة إلى ممارسات أخرى ذات طبيعة مشابهة وتعد جميعها حسب مفاهيمنا الحالية علمٌ زائِف فهي قائمة حسب كلام مؤيديها على الحَدس وتقتضي أولًا خبرة طويلة في الممارسة وثانيًا فطنة وبصيرة فذة تنفذ لباطن الأمور، لذلك فالطب الحديث يرفضها كما يرفض فكرة الغائية لأنها غير خاضعة للتجربة والاختبار ومنافية للتحليل أحد أهم خصائص الطب التجريبي ولا تحقق شروط المنهج العلمي الحديث . يقول كلود برنار مؤلف كتاب “المدخل إلى الطب التجريبي”:
“أنه ينبغي مقاومة فكرة تفوق الطبيب بضرب من الحدس والإلهام، ذلك أن فكرة كهذه غامضة لا تصمد أمام العلم والمروجين لها يسيئون إلى تقدم الطب لأنهم يبالغون في تقدير شخصية الطبيب ويبخسون من قيمة العلم”.
هكذا تتضح الجوانب المختلفة للنزعة الشمولية الكلية التي تشكل الإطار الفلسفي للنسق الطبي القديم، ولكي تتحد الصياغة مع المضمون كان لابد أن تتخذ الأحكام الطبية صيغة قضايا كاملة (وهذا السبب كما قلنا لتسميته “طب الكليات”). ولتطبيق هذه القواعد الكلية اتخذ الأطباء الوسيلة المنطقية القديمة وهي القياس أو الاستنباط. لقد كان القياس شائِعًا بين اليونان قبل أرسطو ولكن ينسب لأرسطو تقنينه. أوضح أرسطو أنه لوضع أي استنتاج منطقي لابد من توفر مقدمة كبرى تكون عمومية شاملة ومقدمة صغرى خاصة بالموضوع قيد الدراسة وينتج عن كِلا المقدمتين النتيجة. فمثلًا إذا كانت المقدمة الكبرى أن الإنسان حيوان ناطق، والمقدمة الصغرى أن فلان إنسان تصبح النتيجة: فلان حيوان ناطق. انتقلت هذه الطريقة في الاستنتاج إلى الممارسات الطبية وسادت الفكر في العصر القروسطي حتى ظهور فكرة الاستقراء بواسطة السير فرانسيس بيكون (1561 – 1626م) لتحكم المنطق الحديث حتى عصرنا الحاضر.
لقد أوضح أبقراط أن القياس هو المحاكاة أي محاكاة الطبيب لعمل الطبيعة فالمقدمة الكبرى في جميع الممارسات الطبية هي أن الطبيعة البشرية تعمل على الإبقاء على ما هو نافع وإخراج ماهو ضار، ووظيفة الطبيب محاكاتها في الممارسة الطبية ومن ناحية أخرى يستفاد من هذه المقدمة في تشخيص الأمراض حسب طبيعة الخارج من الجسم، وهذا السبب الذي جعل جالينوس يقول بوجوب أن يكون الطبيب فيلسوفًا عارفًا بأساليب القياس والمنطق وطرق أرسطو ليصل إلى التشخيص الملائم.
مثلًا في حالة القيء الدموي يكون الخارج من الجسم هنا (الدم) نافع أي أنه عكس عمل الطبيعة فيتم تشخيص الحالة بأنها مرضية. أو مثلًا كان الطبيب سابقًا يستفرغ الصديد من الدمامل والأورام بعد أن تنضج مما يؤدي إلى إطالة زمن المرض لأنه في ذلك يحاكي عمل الطبيعة التي تتمكن من الدفع التام بعد النضج لأن رقة المواد مانعة من سهولة خروجها.
من ناحية أخرى فإن الأساس الفلسفي للطب الصيني هو إصلاح الخلل في الطاقة الحيوية (التي تقابل فكرة الطبيعة لدى اليونان) التي تسري في الجسم حيث أن تنظيم انسياب هذه الطاقة يعيد للجسم عافيته. تسود الفكر الصيني عمومًا فلسفة قائلة إن العالم يتكون من قوتين متعارضتين: قوة موجبة (اليانغ) وسالبة (الين) في ضوئهما تفسر جميع ظواهر الكون والإنسان، حيث تسري كلا القوتين في إيقاع منتظم داخل الجسم خلال مسارات محددة، فإن ازدادت القوة الموجبة أدى ذلك إلى ارتفاع درجة الحرارة والآلام الحادة، أما إن ازدادت السالبة خارت قوى الإنسان. ويساعد الوخز بالأبر على إعادة التوازن بين القوتين وبالتالي يستعيد الجسم عافيته. أي أن العلاج هنا يهدف إلى استعادة الصحة للجسم ككل بدلًا من العضو المصاب فقط وهذا ناتج عن النظرة الواحدية أو الكلية التي سادت تلك الفترة كما جرى إيضاحه.
ولكن ينبغي أن نذكر أنه وعلى الرغم من الطابع الإيجابي للطبيعة فلها دور أيضًا في الأمراض وأثر سلبي على صحة الإنسان حيث أن الأبدان على حد تعبير أبقراط تتغير بتغير البلدان والأهوية والمياه فعلى الطبيب أن يحذر تقلباتها كما أن الأمزجة تختلف باختلاف فصول السنة مما يؤدي إلى وجود أمراض تكون شائعة خلال فصول معينة وتختفي أو تقل خلال فصول أخرى وهذا أحد الاستنتاجات التي لا تزال قائمة إلى اليوم ورُبما يعد صورة بدائية للتأثير الأيكولوجي على الإنسان. وسنقتصر بالكلام عن هذا التأثير على نظرية ابن خلدون حيث يوضح في مقدمته أن الأمراض تكثر بين سكان الحضر أكثر منها بين البدو ويفسر هذه الظاهرة؛ بسبب خصب عيش الحضر وكثرة مأكلهم وقلة اقتصارهم على نوع واحد من الأغذية وعدم توقيهم لتناولها وفساد أهويتهم، أما البدو فمأكولهم قليل في الغالب، يغلب عليهم الجوع حتى صار لهم عادة ولا يعالجون غذائهم بالتوابل فذلك ما تدعو إليه ترف الحضارة، إنما أغذيتهم بسيطة مما يقارب مزاجها من ملائمة البدن، أما أهويتهم فقليلة العفن لقلة الرطوبات إن كانوا مقيمين أو لاختلاف الأهوية إن كانوا رُحل، ولهذا لا يوجد طبيب في البادية إذ لو احتيج إليه لوجد. ويؤكد ابن خلدون نظريته أيضًا بعامل آخر فسيولوجي لسنا بصدد بيانه الآن.
لقد استمرت هذه الأسس الفلسفية بالتحكم في المناهج الطبية خلال العصر القروسطي وحتى بزوغ العصر الحديث حيث برزت الفكرة القائلة أن منطق القياس عقيم ولا يؤدي إلى جديد مع ظهور طرق جديدة في الفلسفة أدت إلى صياغة مختلفة للمنهج العلمي لتبدأ الممارسات الطبية في أخذ نحوًا آخر يعتمد على الملاحظة الحسية والتحليل قبل كل شيء ليبدأ الطب الحديث من النقاط التي توقف عندها الطب القديم ويحقق نهضة علمية تعد بحق أحد أهم منجزات الحضارة الإنسانية.