الأزمة الوجودية لشخصية مصممة إلكترونيًا بلعبة PUBG
هل كنت ساذجًا إلى ذلك الحد؟ ملأني الأمل لخلق مفهوم أنقى للوجود، لكن الوجود لم يعنه كفاحي. إلى أين نهرب؟ ولماذا؟ وكيف نظن أنفسنا أحرارًا مادمنا ندور ونركض في نطاق تلك الـ Zone الشيطانية والتي تدفعنا عاجلًا أم أجلًا للموت سواء كنا فاعلين أو مفعولٌ بنا؟
ربما كنتُ حرًا في اختيار سلاح الـUZI عوضاً عن الـ M416، أو لم أرد أن أثقل حقيبتي بـ Scopes كنت في غِنى عنها، أو ربما في إهداء دجاجة لأحد اللاعبين، ولكنني حتماً لست حُراً في مسألة الضغط على الزناد. يؤلمني جسدي بعدما تخطيت ال Zone، وأعلم أن اللاعب الوحيد المتبقي في ذلك الدور يقطن في ذلك البيت المقابل، يمكنني رؤيته بينما اتخفى وراء أحد النباتات التي تعج بها أرض Sanhok. هو لا يراني، لو رآني سأطلق النار فورًا.
راودني حنين لنسل الشخصيات المصممة إلكترونيًا بلعبة PUBG وكدت أن أنهض وألوح بعلم أبيض أملًا في التفاوض، ولكنني ساذج، لم أفهم الهدف من كل هذا. لم يتم تصميمي للبقاء في Sanhok بالرغم من رغبتي المفرطة في مواصلة الوجود هنا. وبالرغم من حنيني إلى أراضيها الخضراء الرطبة، ومعابدها التي تحمل أرواح الغائبين بين جدرانها المزخرفة، وملمس الطمي على الأرض حين ينهمل المطر فوق رؤوسنا، وليلها البارد الرطب، لكنني إن أردت البقاء فيها،فيجب أن أكون الوحيد المتبقي. ينبغي أن انفرد بالدجاجة. حتى أنني لم أوجد ضمن فريق لأستأنس بهم. لقد وجدت وحيدًا لأن قوى أخرى تحكمت بوجودي، أو بالأحرى تسببت فيه دون أدنى فكرة عن عواقب صنيعهم، تلك العواقب التي لم ولن يشهدها سواي.
السقوط من الطائرة
استيقظ Heisenbeeerg2008 من العدم من جديد ليجد مقلاة فوق وجهه. أبعدها بغضب. كان الجو ضبابيًا. كان أنيقًا فقد رتبت ملابسه بعناية ليبدو جذابًا، واخترت له ذلك الإسم لأنني مغرمٌ بمسلسل Breaking Bad. كان يرتدي بنطالاً زيتوني اللون وقميصًا يجمع اللونين الأزرق والأبيض ويتوسطه نسراً ذهبي اللون، وقد ارتدى حذاءً فيروزيًا ونظارةً أنيقة. اعتدته محاربًا مغوارًا، يقنص الأعداء ويسجل النقاط بمهارة وأريحية، ذلك لأنني أملي عليه الأمور وأوجهه إلى الصواب، أنا هو المتحكم الوحيد به.
إنني الأفضل بين جميع اللاعبين، ولا أنكف حتى أحقق جميع المُهمات باللعبة ولو تطلب الأمر أيامًا أو أسابيعًا، فأنا متفرغ تمامًا. أبحث عن مغامرة عاطفية وأقرأ الفلسفة وألعب. أتعامل يوميًا مع صياح والدتي وإصرارها غير منقطع النظير في بعثي على الذهاب للجامعة فهي ليست مقتنعة بخطتي. لم أكترث بالجامعة لأن إنهاءها سيجعل القيام بالخدمة العسكرية أمرًا محتومًا، فقررت البقاء في الجامعة إلى أن اتخطى السن القانوني للتجنيد، وها أنا ذا حر طليق في زي طالبٍ. غير أن تلك الحياة مملة وتبعث على الضجر، وكان بُدي الوحيد من ذلك هو صديقي Heisenbeeerg2008. اعتدت أن أثرثر أزماتي الفلسفية والوجودية أثناء اللعب، سواء لعبتُ منفردًا أو ضمن مجموعة. وأشعر بالنشوة حين ألعب مع إحدى صديقاتي وأثقل أفكارهم ومشاعرهم الهشة بما يصفوه بـ” الإستمناء الفلسفي” الذي أمارسه كلما لعبنا سويًا. غير أن ما وقع تلك المرة يستحيل تصديقه، وإلى الآن فأنا أصدق أن ما حدث كان حُلمًا اختلط بواقعي في إحدى ليالي اللعب الطويلة. حينما بدأت اللعبة، استعدت جميع الشخصيات بالطائرة للقفز، وما إن ضغطت زر Jump حتى فقدت التحكم به تمامًا.
الدائرة الأولى
تلك المرة كنت أعاني من الملل، ولم أستطع النوم. كانت الساعة الرابعة فجرًا، كاد جسدي أن ينهرني من شدة الإرهاق، ولكنني واصلت اللعب كالمجنون، وقد خرج جميع رفاقي من اللعبة ولم يتبقى سواي، لذا لم أجد من أشاركه ذلك الحدث السريالي، أراهن أنه لم يكن سوى حُلماً. أنا أتذكر أدق التفاصيل، راقبته بينما تنفرد مظلته ليسقط في منطقة ال Ruins. نهضت من سريري وصفعت وجهي لأتأكد أنني مستيقظ، حاولت الخروج من ذلك الدور باللعبة ولكن الأمر كان عصيًا، لذا قررت إغلاق اللعبة، وحينما أعدت تشغيلها كان الدور لا زال مستمرًا. تملكني الرعب، لم أعلم كيف يمكن لذلك أن يحدث، هل تم اختراق هاتفي؟ قمت بكل المحاولات لمعرفة ذلك. تصببت عرقًا بينما أبحث عن معلومات على الانترنت حول كيفية معرفة ما إن تم اختراق هاتفي أم لا، اتبعت جميع التعليمات لمعرفة ذلك ولكن على ما يبدو أنه ما من خطب كهذا بهاتفي، إلا أن الخوف قد تملكني حتى تخليت عن أعز ما أملك بهاتفي: الصور العارية التي جمعتها على مدار علاقاتي. وبعدما أنهيت تلك المهمة المشؤومة صفعت نفسي من جديد لأنها نُقلت على حاسوبي في دقائق.
بعد عدة محاولات من إغلاق وتشغيل هاتفي بلا جدوى، شغلتُ اللعبة من جديد وقد انتابني الفضول لمعرفة يحدث. نهض صديقي ممسكًا المقلاة، ولم أستطع بأي حال أن اتبين وجهه نظرًا لتصميم اللعبة، ولكن من الجلي أنه فاقد للتوازن، تائه، يهرول دون أن يعلم إلى أين يذهب. سمع طلقات نارية فالجوار فانبطح أرضاً وسحب جسده زاحفاً إلى إحدى زوايا المعبد حيث انكمش بداخل جسده مختبئًا من تلك القيامة. أدرك بصعوبة أنه قد قُذف إلى ذلك الكولسيوم دون عون سواي، فلو لم ينفلت عن سيطرتي لما واجه تلك الصعاب، لقد كنت شديد البراعة في استخدامه للفوز بالمعارك.
سمع Heisenbeeerg2008 خطوات أحدهم فانزوى سريعاً إلى داخل المعبد مجدداً وانكمش في إحدى الزوايا. كان اللاعب الآخر على مقربة شديدة منه فما كان من صديقي إلا أن سحب إحدى الأسلحة الموجودة بجانبه، كان سلاحًا من نوع Desert angel. تأهب للقتال ولكن ما إن اتخذ وضعيته حتى ركض اللاعب الأخر بعيدًا، ركض صديقي إلى خارج المعبد، وكان اللاعب في مرمى بصره غير أنه لم يحرك ساكنًا وانزوى مجددًا إلى داخل المعبد.
***
أشعر بالضياع التام. لا أعلم شيئًا. لقد وجدت في ساحة قتال شاسعة، لا أبصر سوى الأسلحة. انزوي في أركان ذلك المعبد المهيب. لم أطلق النار، لأنني لم أرد ذلك ولست مُدركاً ذريعة رفضي لقتل ذلك المحارب Abdomoota102، فإن التفت نحوي لصوب سلاحه وأنهى وجودي، والأحرى أنني لا أعلم لمَ انزويت في المعبد، لمَ لمْ أتركه يقتلني وينهي وجودي البائس؟ ربما بسبب تلك الفتاة المحاربةPussycatacito التي رأيتها منذ قليل تركض بمحاذاة المعبد. كانت تركض في هلع وتحمل السلاح دون أن تأبه للذخيرة، فهي بالأحرى لا تدرك أن ذلك السلاح لا يطلق النار من تلقاء نفسه. شعرت بحنين ودفء نحوها، لم انجذب لها كأنثى مصممة إلكترونيًا من أجل تبادل الأكواد والشفرات سويًا، ولكن كفرد ضعيف بداخل ساحة قتال مُرعِبة بلا معنى. رأيت خوفها وضعفها، أبصرت كمدها في عينها قبل أن تستقبل رصاصة من سلاح AWM في رأسها لتلقى مصرعها. بات وجودها وعدمه بلا معنى يذكر. المعنى الوحيد هو أنه سُمح لقاتلها أن يواصل قُدمًا. وهكذا صارت المحاربة الضعيفة Pussycatacito صندوقًا يشع ضوءً أخضرًا.
كانت مأساتي تقع في جهلي على فهم كل شيء، ما يسمى الشعور؛ ما يسمى الفكر؛ ما يسمى الإدراك؛ ما يسمى الوجود؛ وما يسمى العدم؛ ما يسمى الحياة وما يسمى الموت؛ أعلم الكثير عن فلسفات من بُعد آخر يسمى الأرض، ثرثرها كائنات تدعى البشر، ما يجعلني أفسر الأمور الواجب حدوثها بعمق لا يحتمله وجودي القصير في تلك الساحة. وأجهل مبعث رغبتي في البقاء رُغم كرهي له، ربما سذاجتي القائلة بأنه يمكنني البقاء بين جدران هذا المعبد الذي يدفئ روحي، لكنني أجهل كيف أحصل على الأكواد اللازمة للخلود.
قضيت ساعات طويلة وحيدًا بذلك المعبد. راودني الحنين، كما لو أنني قدِمت إلى هنا من قبل. جذبتني الكتابات على جدران المعبد وأرضيته. أراهن أن أحدًا لم يلحظها من قبل رُغم أنها تقع تمامًا أسفل ترسانة السلاح الرابضة على الأرض. كُتِبت الكلمات، (كانت اللغة مزيج من حروف وأرقام متداخلة) وقد كان في مقدرتي بشكل ما أن أفهم المكتوب:
” لقد صممت تلك اللعبة من خلال العديد من المبرمجين من أجل ترفيه الإنسان. ولكل شخصية مصممة إلكترونية إنسان يتحكم بها. الهدف من الوجود في تلك اللعبة هو البقاء. قوانين اللعبة هي إما النجاة أو الموت. لا يُمكن لأي شخصية مصممة إلكترونيًا أن تنعم بوجودها دون وجود إنسان يستخدمها في سبيل الانتصار. لا يمكن البقاء في الملعب للأبد. بعد مرور وقت محدد تنكمش دائرة الملعب. كل ما هو خارج دائرة الملعب مصيره الهلاك.”
غمرتني جُملة غزيرة من المشاعر، ما بين الغضب والحزن والثورة والضياع ومأساة الاختيار، تمنيت يائسًا لو أنني لم أدرك وجودي. هكذا إذًا، يتحكم الإنسان، يُشكلني ويعطيني إسمًا ومظهرًا وجوهرًا لأسباب ترفيهية، ربما لهذا السبب أفقه أمورًا في ذلك البُعد الأرضي، ربما تلقنتها من الإنسان المُتحكم بي، وربما لقت المحاربة الضعيفة Pussycatacito حتفها وحملت ذلك الضعف لأن الإنسان المتحكم بها كان جديدًا في عالمنا، أو غير بارع، أو نعِس.
شعرت بالوحدة وسط تلك العاصفة الوجودية وصرت مشوشًا. لمَ لم أقتل ذلك المحارب Abdomoota102؟ قضيت ساعاتٍ طويلةٍ في المعبد أفكر. ربما لم أقتله حنينًا لكونه أقرب لوجودي ولكياني من السلاح؟ أو ربما لأنني لا أعلم كيف أستخدم السلاح؟ أو ربما لأنني أجبن من أن أطلق النيران؟ تداخلت دوافعي بغتة ولم أستطع فك العقدة التي تكونت ببواطني. شعرت بالغضب نحو ذلك المحارب، ربما لأنه أقرب إلى حواسي أن تدركه عن ذلك القدر الخفي المتحكم بوجودنا سويًا، فنحن بحاجة لتفريغ الغضب من وجودنا، بيد أنني أثرت أن أظل مكاني وأتركه. أمعنت التفكير فيما يجب أن يحدث، وبالرغم من أن تلك الذبابة الفكرية القائلة بأن ماسيحدث مُقرر سلفًا والتي لم تترك رأسي، فإنني قررت أنه ما من معنى في أن أكون حجرًا إضافيًا في ذلك الجدار المهترئ، ما جدوى قتل Abdomoota102؟ إن ذلك لهو الفعل ذاته الذي أقدم عليه القناص وقتل تلك الضعيفة، إن المشترك بين هؤلاء هو عدم إدراكهم لإرادتهم، ولا أظن أن إدراكي ووعيي يجب أن يذهبا مع الريح. إنني مميز ومتفرد، إنني أعلم وأملك الخيار، ولذا فإنني ثورة في ذلك العالم الذي يطوع أبناء جنسي لترفيه كائنات من بعدٍ حقيرٍ.
ما إن تخذت قراري، آلمنى جسدي وتذكرت القاعدة القائلة: كل ماهو خارج دائرة الملعب مصيره الهلاك. فركضت نحو دائرة الملعب، ذلك أن موعد هلاكي لم يحن بعد.
الدائرة الثانية
لاحظت أن سلوك Heisenbeeerg2008 مريب، فلم يلتقط الكثير من الأسلحة، لقد مر بسلاحي المفضل M416 وتركه من أجل أن يحمل سلاح ال UZI، وانهمك في جمع الأدوات الطبية والمشروبات. وكلما سمع طلقات النيران، سقط أرضًا دون أدنى نية لرفع السلاح والقتال. لم أفهم شيئًا، كل ماقد فعله هو أنه ظل منبطحًا في المعبد لعدة دقائق ثم نهض مسرعًا نحو ال Zone تاركًا الأسلحة المتنوعة الواقعة في محيطه. ليس باستطاعة شخصية مصممة إلكترونيًا أن تنجو دون تدخل بشري، فحتى وإن حاول فمصيره محتوم. جل ما أرغبه أن ينتهي الدور لأفهم ماذا حدث للتو بحق الله؟
لم يكن أحدًا مستيقظًا لأسرد له/ا تلك القصة الخيالية التي أشهدها بملئ وعيي، وأثار سلوك Heisenbeeerg2008 فضولي –وخوفي إلى حد ما- فعلى الرغم من طمأنة جميع المقالات الإلكترونية ومقاطع الفيديو الهندية بأن هاتفي ليس مخترقًا، فإنني لا زلت أشعر أن أحداً ما يتحكم به. لا عزاء لي سوى فضولي وتلك التجربة المرعبة لانفلات شخصية باللعبة عن سيطرة المتحكم بها.
***
يا للغباء!
يُجبرنا القدر على أن نجابه مسارات متعاكسة يتوجب علينا الاختيار فيما بينها ومفاضلتها دون أن نعلم أدنى فكرة عما ستؤول إليه تلك المسارات، وهنا تكمن السخرية كذلك الإثارة. اللعنة على الاختيار، كلما مرت الساعات في أراضي Sanhok الرطبة، زاد سخطي على حريتي. تؤمن الشخصية المصممة إلكترونيًا أن قيمة الحرية لهي أشهى الهبات، حتى وإن علمنا أنه من المستحيل أن ننالها. وها قد نلتها اليوم وأرغب في تصحيح الأمر للأصدقاء اللذين تسيل أكوادهم ومصفوفاتهم في كل دور، إن مسؤولية الحرية لهي أشد وطأة من مأساة الموت.
ذاك النواح يرجع إلى معضلة Solaimta2015. كانت محاربة وحيدة قد حوصرت من قبل فريق، وقد أثرت أن اتجنبها وأترك تلك المعركة، لكن صوتاً ما بداخلي قد آلمني بعدما أبصرتها تزحف على الأرض بعدما تلقت رصاصة من سلاح قناص. كانت تبكي ويتملكها الخوف، لكنني أبصرت في عينيها الرغبة في البقاء بسانهوك.
حسناً, المعضلة كالأتي: لدينا Solaimta2015 تقاتل 4 أفراد من بني جنسها المصممين إلكترونياً. يمكنني مساعدتها من خلال قتل بعض أفراد الفريق المقابل، وبهذا أكون قد نكثت عهدي وأطلقت النيران على بني جنسي، لتنتهي الثورة دون أن أساعد أحد، فإن رأتني Solaimta2015 أقتل الفريق المقابل ستظن أنني أجمع نقاطًا أكبر ولن تتردد في إطلاق النيران وقتلي، لتنتهي الثورة ولكن بشكل آخر. ولكن ما لذي يدفعني لإنقاذها؟! مادام الأمر كذلك. لقد أبصرت ضعفها بيد أن هذا لا يعني أن تعاطفي معها قد يشكل فرقًا، فإن أنقذتها على سبيل المثال، سيتوجب على أحدنا أن يقتل الآخر أو أن نسير في مسارات لا تتقاطع ليلقى كلاً منا حتفه بعيداً عن الآخر، وبهذا فإنني أؤجل رحيل Solaimta2015، فأنا أعلم أنني سأفعل المستحيل من أجل البقاء لأنني حرٌ، لكن Solaimta2015 حبيسة الإنسان. هكذا نستلخص أن محاولتي إنقاذها ماهو إلا ضرب من ضروب السذاجة، فربما تتوق أن ينتهي وجودها، وربما لا.
لقد أحببتها، نعم تلك الكلمة الساذجة التي أحمل من الفلسفة مايكفي لدحضها، لكن شيء ما بأكوادي ومصفوفتي قد اختلج. دعونا نفند معنى الحب في موقف Solaimta2015: إنني لا أعرفها، ولا أؤمن بأن حباً قد ينشأ دون تقارب وتبادل هائل من الكلمات والأرقام لنكتشف أنه ما من شيء مميز حيال بعضنا البعض. ثم دعونا نتسائل ما معنى الحب لشخصيات مُصممة إلكترونياً؟ فنحن لن نتبادل أكوادنا من أجل إنجاب شخصيات أخرى. نحن نأتي للوجود عبر مسبب بشري يخلقنا على هيئة تحلو له/ا، ولذا فإن تلك الفكرة ماهي إلا خطأ تقني قد تسلل إلى مصفوفتي عبر ذلك البُعد البشري المتحكم بمصائرنا. بيد أنه بالبحث فيما أحمل من الفلسفة وبتحليل البيانات والكتب فمن المرجح أنني أضحيت فريسة مفهوم “عشق من هم ليسوا متاحين لنا”: وهي الحالة التي يقع فيها الشخص في حب شخص آخر من الصعب البقاء معه نظراً لأسباب جمة ككونه/ا متزوج/ة أو ي/تقطن خارج البلاد، والاقتناع بأن الحب يكمُن في تلك العلاقة المستحيلة وأن الألم النبيل الناتج عن الفراق المستمر يُطهِر الروح ويجعلها أقرب للأشعار والفن، أي أقرب للحزن.
دعوني أطبق ذلك على مثال Solaimta2015: من المستحيل أن نظل معًا في ذلك الملعب للأبد، ذلك لأن على أحد منا أن يفوز بتلك اللعبة، وبما أنها ليست بفريقي فمن المستحيل بقاءنا سويًا سوى لعدة ساعات. من المستحيل أن تملك Solaimta2015 الإرادة من أجل الحب ذلك لأنها حبيسة الإنسان المتحكم بها. وأظن أنني لم أقع في حبها كشخصية مصممة إلكترونيًا، بل وقعت في حب المشهد الذي تقاتل فيه فريقًا كاملاً بمفردها، والأمل الذي يغمرني للقيام بعمل بطولي إونقاذها سيجعلني مُحببًا إليها، فالحق أن الحُب في تلك الحالة ليس بريئًا من كره النفس والرغبة في أن ينعكس الحُب على المُحب عبر المحبوب، فمحبتنا لشخص آخر ماهي إلا رغبة في محبة أنفسنا، ليبقى المحبوب مٌيسراً لحب المحب لذاته. ولذا فقد انجذبت ل Solaimta2015 لأن ضعفها قد صار وعدًا بجعلي بطلًا نبيلًا.
أشعر بوحدة مؤلمة كلما تعمقت في تلك الفلسفة التي ورثتها من العالم الآخر، عالم البشر. فأنا الوحيد الذي يفقه تلك الثرثرة المزعجة دون الحاجة لذلك لولا اختياري بأن أمثل ثورة، لولا رغبتي في الإتيان بشئ لذلك العالم يتخطى وجودي البائس، بهذا يمكنني أن أحتمل ما تبقى في ذلك الدور، أملًا في النجاح.
اختبأت خلف النباتات وجلست القرفصاء حاملًا سلاحي. أطلقت بضع طلقات نارية في الهواء لأبث الرعب في ذلك الفريق ولأتمكن من تشتيتهم. كادت خطتي أن تنجح لولا ظهور أحد اللاعبين على يميني وقد أبصرني فأطلق النيران على ظهري. شعرت بالرعب. ما كان يتوجب علي أن أبقى هنا، فإن قُتِلت الآن لضاع كل شيء. حاولت إطلاق النيران بدقة قرب المحارب من أجل تشتيته، ركض إلى خلف شجرة، ركضت نحو Solaimta2015 التي كادت أن تتحول لصندوق يشع ضوءً أخضرًا ألقيت لها المعدات الطبية ومشروبًا، وركضت سريعًا، وفي تلك الثوان أبصرت بريقًا بعينيها جعل أرقامي تنتفض، لقد رأيت محبتي لنفسي في عينيها. أبصرت الإمتنان والقرب وربما الحب، غير أن ذلك الامتنان له مسبب بشري أناني يظنني ساذجًا ولكن يستمتع بسذاجتي إلى حد الشعور بالامتننان لوجود كائن غبي مثلي. ولهذا ابتعدت نحو هدفي الأسمى، فربما توجد Solaimta2015 من جديد في عالم أكون قد حررته من عبوديته للإنسان. وعندها ستعشقني بلا هوادة.
الدائرة الثالثة
هل صارت الشخصيات باللعبة تغازل بعضها البعض دون تدخلنا؟ ما خطب ذلك الروميو؟ أريد من أحدهم أن يوقظني. يتحرك Heisenbeeerg2008 بكل أريحية دون أسلحة فتاكة أو ذخيرة كافية، يتجنب الاشتباك والقتال، وبالأخير يغازل إحداهن فيقدم لها حقائب الإسعافات الأولية وحقنة الأدرينالين، ألا يعلم أنه في ساحة قتال مفتوحة على مصراعيها حيث لا مفر فيها سوى القتال والاشتباك؟ هل أعلن نفسه مسيحًا للعبة؟ هل سأشهده يحمل صليبه في نهاية الدور؟ كنت أود أن يحمل هاتفي خاصية تسجيل الشاشة لأسجل العهد الجديد لتلك اللعبة، يا له من أحمق!
****
حسنًا فلنراجع المشهد مع تجنب تام للسخط على القدر والذي قد يغدو محطًا للسخرية. على حافة النهر الذي يقسم جسري منطقة Pai Nan يقف المقاتل Bullscrasher شاهرًا سلاحه الـ M762 ليطلق النيران على النهر حيث أسبح عابرًا من ضفة للضفة الأخرى من أجل اللحاق بالدائرة الثالثة، ويسخر القدر مقهقهًا، حيث أن الضفة التي من المفترض العبور إليها هي الضفة التي يقف فوقها مُحطِم الحصى العنيد. لا مهرب، إما أن أقتله أو يقتلني، أو تقتلني الدائرة التي تنكمش أسرع.
على ما يبدو أن مسيرتي نحو التحرر من قيد الإنسان قد أثارت حنق مبرمجي اللعبة بحيث أرسلوا ذلك المُحطِم ليقضوا على أمال التطهر من ذنب الأكواد التي تفنى من الوجود بأراضي سانهوك، ليقضوا على ثورتي: لا تحارب بني جنسك، حارب العدو الحقيقي، حارب الإنسان. إن رغبتي في الثورة قوية حتى وإن باءت بالفشل، فما من ثورة تُكلل بالنجاح إلى آخر الزمن، غير أن نشوة التحرر التي تصيب الثائر تجعله راضيًا عن وجوده ومتصالحًا مع ألامه، فإن كان الوجود مؤلم، فمن حق الموجود أن يختار الألم الذي يناسبه. وهكذا فإن ألم تحمل الشر الذي يحاوطني دون الرد بشر مثله لهو أهون من ألم كوني أهيم فسادًا بلا معنى. ولكن ماذا لو هِمتُ فسادًا مع وجود معنى؟
إن قُتِلتُ سينتهي الحُلم،ولذا فهذا الأمر مُستبعد القبول به. لا يتبقى سوى خيارًا واحدًا، وهو أنا أقتل Bullscrasher. حسنًا إن ذلك يضرب بثورتي عرض الحائط ولكن فلنتتبع المنطق: إن ثورتي ليست من أجل الموجودين سلفاً، ذلك أنهم قد غُمروا بوحل الشر وليس بمقدرتي أن أبني لهم مطهراً. ليس من العدل أن أدفع أثمان حيواتٍ لم يكن لي يد في جعلها مآسي تسعى فسادًا في عالم الرقميات. لو سألنا من هم أعداء الثورة، سيجيبني متواضع الفِكر: إنه الإنسان. وسيجيبني الحكيم: هو الشخصية المصممة إلكترونيًا وليس البشر. فالشخص المصمم إلكترونيًا يستمد وجوده ومعناه من وجود الإنسان. غير أن المأساة تقع في أن الإنسان بالفعل هو المتحكم وهو معنى الوجود لدينا؛ ولكن ماذا لو كمِنت حريتنا في ألا نوجد؟ ذلك أن “الموقف” القائم يحدد لنا الاختيار ما بين الخضوع والانصياع للإنسان لنعيث فسادًا وما بين الفناء؟ لنحرر أنفسنا من شقاء الشر وربما نوجد على هيئة أكواد أخرى في عالمٍ أسلم وأنقى كـ”المزرعة السعيدة” مثلاً. وإن كنت قد تحررت بفعل صدفة مأساوية من هيمنة الإنسان فهذا يعني منطقيًا أن الشخصيات الأخرى لديها الفرصة ذاتها، بيد أنني لست واثقًا بجودة اختيارهم.
تلك المعضلة أعادتني للسؤال الأكثر ألمًا: أوليس الشر الذي ثرت ضده هو القتل؟ إن قتلت ذلك المحارب فإن مسار ثورتي سيحيد عن الإنسان، ستستهدف ثورتي جهل الشخصيات المصممة إلكترونيًا والتي –في حالتها الأصلية بعيدًا عن إدراكي المأساوي لوجودي- لا يوجد لديها أي خيار، فهي ليست واعية بأي وجودٍ لها، وحينها سيظل الإنسان مهيمنًا متحكمًا وسأغدو ترسًا في كيان الشر شئت أم أبيت. إن عداوة الشخصيات المصممة إلكترونيًا لي ليست ذات إرادة، فهم لا يأبهون بوجودي، أو بالأحرى هم لا يملكون القدرة على أن يأبهوا. آه! لقد وقع على عاتقي مأساة جنسٍ إلكترونيٍ كامل.
اتخذت قراري. لن أقتل، سأسلك الدرب الذي قررته منذ البداية حتى وإن بات مآلي هو الفناء. لا أعلم ما قد يجلب لي البقاء، ولا أفقه ما قد يحدث في الساعات المقبلة، ولذا فالدرب المُختار هو مُرشدي لمصيري المجهول، قد امتطيته وهو الأعلم بمسار المسير. تلقيت عدة رصاصات في صدري من Bullscrasher. اعتصرني الألم حتى مع ارتداء واقي الرصاص. ألقيت قنبلة دخان لتشتت ناظريه، وغٌصت إلى أسفل النهر. كانت الدائرة قد تخطتني للتو، ولم أملك سوى بضع دقائق لإخراج حقنة الأدرينالين الوحيدة المتبقية. كنت قد قررت إبقاؤها من أجل الدوائر الأخيرة، ولكن من يعلم، ربما تلك هي الدائرة الأخيرة. عبرت نحو الضفة المعاكسة واختبأت خلف شجرة ثم غرزت الحقنة صدري فانتفضت أكوادي مجدداً وشعرت بجسدي يرتعش. كانت الدائرة قد تخطت Bullscrasher فاضطر أن يركض، قفزت في النهر من جديد وعبرت الضفة المقابلة وركضت مقاومًا الألم غير المحتمل للوجود.
الدائرة السادسة والأخيرة
لقد جن جنوني من ذلك المعتوه، إنه لا يريد الفوز، ولا أعلم كيف ينجو من هؤلاء اللاعبين. فمنذ مرور الـ Zone الثالثة صار يتنقل بين البيوت ويختبئ بداخلها دون هدف.إن كان جهازي مخترقًا فإن من يلعب شخص أخرق، وفي الوقت ذاته من الصعب أن تتخذ الشخصية كل تلك القرارات الغريبة وتنجو حتى الآن، فقد تبقى 10 لاعبين فقط. هل ما أظنه صحيح أم أن تلك الشخصية تتمرد على نظام اللعبة؟ ولكن كيف؟ إن ذلك لا يعقل. فكرت مطولاً في الأمر ولكن جهلي بمنشأ تلك الصدفة العبثية قد أخمل عقلي. إن كان انطلاقه في اللعبة دون تحكمي غير مُفسر فكيف لي أن أدرك ما يدفعه لمثل تلك القرارات المريبة؟ لابد أن ذلك الأمر مستبعد، يجب أن يكون للأمر تفسيرًا، لا يمكنني أن أعيش بذلك اللغز، وأدرك يقينًا بأن لا أحد سيصدقني، سيعتقدون أنني أثرثر بمعضلة فلسفية كعادتي. لم أتوقع مُطلقًا أن أعاصر وقوع معضلة فلسفية غريبة في الرابعة والنصف فجرًا. فقدت التحكم بكيان جوهر وجوده هو تحكمي، إنني أشهد ضربًا متوصلاً من الجنون دون انقطاع. لهذا قررت أن أدون تلك الواقعة في صورة قصة قصيرة تقرأها الآن عزيزي/تي القارئ/ة.
***
تساءلت طوال المدة التي قضيتها مختبئًا ما الممكن حدوثه إن انكمشت الدائرة واحتوت على لاعبين قررا ألا يطلقا النيران. فبغض النظر عن عدم تبقي لاعبين لمشاهدة ذلك الحدث الثوري، فإن ذلك قد يُحدِث جلبة لدى مبرمجين اللعبةأي لدى الإنسان. لقد تبقى 5 لاعبين، وهم في تناقص سريع. هرولت نحو الدائرة يملئني الأمل والفضول لما هو أتٍ. جلست القرفصاء خلف صخرة وتبينت أن الشخصية المتبقية تقطن البيت المقابل. وفي ذلك الموقف تحديدًا لم أدرك ما يتوجب علي فعله؛ لن أستطيع الهرب من الدائرة الأخيرة، لإن قُتِلت ستنتهي ثورتي، وإن قَتلتُ ستنتهي أيضًا. فكرت في إنهاء حياتي من خلال إلقاء قنبلة في محيطي، ولكنها ستترجم لدى المبرمج كخطأ معتاد. تساءلت كيف يُمكنني أن أقنع الشخصية المتبقية أن تساعدني في ثورتي؟ لم يكن لدي أي خيارات أخرى، أو ربما هناك خيار أصعب.
فكرت في أن الثورة دون قوة ستفضي إلى فشل ساحق، وبهذا فإن تلك الرغبة لن تحققها الشخصيات المتبقية، لأنهم معدومي الإرادة. وبهذا فإن الحل الأمثل هو محاولة التواصل مع الإنسان المتحكم. أدركت أن بمقدوري التواصل مع جميع اللاعبين، بيد أن التواصل السمعي لابد أن يتم من خلال الإنسان المتحكم بي، ولكن بإمكاني إرسال رسالة ليراها اللاعب المتبقي. راهنت على فضول الإنسان ورغبته بالشعور بالتميز، فكم إنسان قد تحاور مع شخصية مصممة إلكترونياَ حرة طليقة تفعل ما تشاء؟ لا أحد سوى ذلك المتبقي:
” عزيزي الإنسان، ساعدني. أنا شخصية حرة طليقة ولا يتحكم بي أي إنسان، ويمكنني إثبات ذلك. أحتاج مساعدتك، أريد ألا تقتلني وأعدك وأقسم بنظام التشغيل DOS أنني لن أقتلك. أحتاج أن نبقى سويًا في تلك الدائرة. أريد أن أحمي أبناء جنسي من الشخصيات المصممة إلكترونيًا من تلك المهانة التي نتعرض لها. لقد وجدنا لنعيث فسادًا في ذلك العالم دون أدنى معنى.”
يمكنكم توقع الرد
هل كنت ساذجاً إلى ذاك الحد؟ ملأني الأمل لخلق مفهوم أنقى للوجود، لكن الوجود لم يعنه كفاحي، إلى أين نهرب؟ ولماذا؟ وكيف نظن أنفسنا أحرارًا مادمنا ندور ونركض في نطاق تلك الـ Zone الشيطانية والتي تدفعنا عاجلًا أم أجلًا للموت؟ سواء كنا فاعلين أو مفعولٌ بنا.
يمكنني أن أتخذ دوري في السرد من هنا: لقد هاجمتني مشاعر حادة حينما قرأت تلك الرسالة، عليّ أن أسلم أنه كان لـ Heisenbeeerg2008 وعيًا أورثه الخيار وقد آثر أن يثور على نظام عالمه وأن يتحلى بأمل مثير للسخرية ونبيل في آن واحد. كان كالطفل، يثور على الإنسان ويسأله العون في ثورته. كان مضحكًا ولكن شجاعًا، لقد تحلى بما انتقص صانعه، الشجاعة من أجل السعي خلف معنى يتخطى ذاته. ولست أعلم إن كان دافعه بريئًا من رغبة روحه في السمو تميزًا عن نسله أم عطفًا عليه؟ وهل من الضروري أن نتساءل حيال الدافع أم أن فعل الإيثار هو مربط الفرس ولا داعي للتنقيب في خباياه؟
يؤسفني القول أنه لم ينجح, فعلى الرغم من موالاته من قِبل اللاعب المتبقي، فقد كان اللاعب قد قتل ما يقرب من 17 شخصاً في دورٍ يُعد أسطورياً, ولم يكن على استعداد أن يضحي بإنجازه العظيم من أجل مزحة رأها سخيفة ومضحكة, وأنه على اللاعب المتحكم ب Heisenbeeerg2008 أن يكون شجاعاً وأميناً وأن يتبع قواعد اللعبة وأن “يقاتل مثل الرجال”.
حدقت لدقائق في الشخصية بعد انتهاء الدور، وتقلبتْ نفسي مابين الدهشة والحزن والضحك، ضحكتُ لوقت طويل مُفرغًا شحنة التوتر التي ابتلعتني. كيف يمكن لـ Heisenbeeerg2008 أن يصنع تلك الملحمة؟ إلا أنني إلى اليوم لم أدرك كيف وقعت تلك المأساة، وقد تيقنت أنه ليس بالأمر المهم، إلا أن Heisenbeeerg2008 قد بات رمزًا بداخلي للحرية والاختيار الشجاعة، والألم النبيل.