“أين المفر؟” ولا مفرّ!
بالتّزامن مع جمهرة التّحليلات والمراجعات التي خلقها ما باتَ يُعرف اليوم بشهر الثّورات، صدرت هذه الأيّام آخر روايات الد. خولة حمدي “أين المفر”، فانضافت للسّاحة الأدبيّة قصّة أخرى من قصص الثّورة و أحاديثها. وهذه المرّة، نعودُ للمهد، حيثُ صرخات الوليد الأولى والأيّام الموالية لها، نقلًا لإرهاصات التّفاعل المبكّر مع الثّورة التّونسيّة. وقد نُشر للكاتبة إلى حدّ الآن ثلاث روايات لا تزال إلى السّاعة تتصدّر قوائم أعلى المبيعات في مصر، حيثُ نُشرت واحتفت بها قاعدة القرّاء العريضة، وفي غيرها من الدّول العربيّة، أين وُزّعت بعد انتظارٍ طويلٍ شيّق.
وكما سيلاحظ الكثيرون، فإنّ الد. خولة حمدي قد اختارت الإبقاء على عنوان عملٍ روائيّ سابق لها، لم يتسنَّ له بلوغ مرحلة النّضج، و رغم ذلك تمّت قرصنته ونشره دون موافقتها، في محاولة منها للرّدّ على ظاهرة الاستيلاءِ غير اللّائقة تلك. و حسنًا فَعَلتْ، في رأيي، ذلك أنّ “أين المفر ؟” يمثّل عنوانًا مناسبًا حقّا لفحوى الرّواية الأصليّة الصّادرة حديثًا ولأبعادها.
النصّ عامّة والرّواية على وجه الخصوص مرآة.. شئنا ذلك أم أبينا
مهما ظهر من سهولة الولوج إلى أسطرها والتّبضّع السّريع من حبكتها و أحداثها، تبقى رواية أين المفر، في العمق، شاهدة من شواهد العصر الذي وُلدت فيه ومنه. وهنا تحملنا الانطلاقة نحو أحد نقاط قوّة الرّواية الأهمّ ألا وهي الرّاهنيّة، والقرب من مجريات الواقع، و إن بعينٍ روائيّة تحمل مجريات الميدان على عاتق المتخيَّل. تعود الرّواية لتوثيق لحظات ما بعد الثّورة التّونسيّة مباشرة. وما أحوجنا لتدوين متعلّقات تلك اللّحظات وللعودة إليها، لتصحيح عدد من المسارات، لتذكية ما خَفَت من توهّج ولتعديلٍ متفكّر رصين للبوصلة. في شكل قصصيّ، يضفي شيئًا من الحياة على معالم الزّمان والمكان والأحداث، نجد ههنا نوعًا من التّوثيق الذي لا بدّ منه، مُضافًا لباقي القراءات.
ثمّ تأتي الحبكة، كإحدى نقاط قوّة الرّواية أيضًا والتي تجعلها قائمة الذّات وتجعل القارئ مقبلًا على إنهائها. هناك أحداثٌ متلاحقة تتلاعب بشخوصٍ مثيرة للمتابعة، فتحرّكها وتسكنها حسبما شاءت. هناك شباب حاضر بقوّة، وهو الأهمّ، ما بين همومه الشّخصيّة وهمّ المعطى التّاريخيّ والجغرافيّ. الشباب الذي يعيش أصعب لحظاته كفردٍ في خضمّ ظرفٍ اجتماعيّ عامّ صعب. ولا يكاد يجد معايير ثابتة يُعوّل عليها كمنصّة إقلاع. لا يجد غير نفسه التي لا تزال تبحثُ أصلًا عن ذاتها، وعن موقعها من المشهد ككلّ.
ثنائيّة الخروج والعودة
هناك أيضًا، في نفس الإطار، الكثير من الحديث والتنقّل ما بين الخارج و الدّاخل؛ الخروج والعودة مرّاتٍ وبوضعيّات تختلف لتصبّ في نفس اتّجاهِ قراءة التحرّكات على الأرض. والمطار أو “طريق المطار” كما هو مصطلح على ذكره في التّسمية المتداولة والذي صار أيقونة في الحديث اليوم، كرمزٍ للنّجاة وكمسمّى تحتشدُ فيه الفرحةُ التي لا يتمكّن من الحصول عليها الشّاب أو الشّابة ما بين أسوار حياته اليوميّة وعناءاته التي لا تتوقّف.
وراء ثنائيّة الخروج والعودة، تقبع ثنائيّة مقولتين: “ماهو مقدّر لك، لن يُخطئك” من جهة و”إن أردت الحصول على أمر فاذهب و احصل عليه” من جهة ثانية. و إذا أسقطنا القول على واقع شباب ما بعد الثّورة، تنبثق الأسئلة وتتشعّب أكثر؛ هل نقبل مبدئيًّا معطى انتمائنا اللّامشروط لأوطاننا التي خُلقنا فيها ولم تضطرّنا قنابلُ فسفوريّة لتركها قسرًا بعدُ، ونفكّر بتصويب الخاطئ فيها وتعميرها. ولسنا في ذلك أوّل البشر الذين يقفون على الخور وتكون مهمّتهم محاربته واستئصاله وتنصيب اللّائق والمرضيّ مكانه؟ وهنا “نستسلم” إيجابيًّا للقدر الذي اختار لنا حلبة الصّراع الذي سنخوضه في الدّنيا. أم أنّ أوطاننا هي ما نحكم نحن بأنّه أوطاننا، كمفهوم غير موروث وإنّما كنتيجة لقرارٍ شخصيّ واختيار يكون بمثابة إجابتنا الخاصّة على أسئلة ظروفنا وعصرنا؟ وهنا سنذهب للخارج، لنحصل على “ما نريد” إن كنّا نعرفه ونثق أنّه فعلًا حقيقةُ ما نحتاجُ وما يصلحُ لنا.
عن الحقّ في المشاركة في صنع الأحداث
الرّواية تعطينا فرصة، كما تعطي لشخصيّتها الرّئيسيّة المجال الظّرفيّ، للتّعرّف على الذّات أكثر – وهنا يتنزّل المرور باكتشاف الصوفية مثلًا والمحافظة ومقابلاتها وعدد من التّيّارات في خضمّ الرّواية- وللتّعرّف على ما يصنع الوطن حقّا؛ ماهيّته، ومِنهُ، محدّدات علاقتنا به. هل هم الأشخاص؟ هل هو المناخ؟ هل هي الظّروف؟ هل هي تربية معيّنة؟ تعاليمُ تشربّناها منذ الصّغر رغمًا عن عقولنا الصّغيرة المستفهمة؟ أم هو شعور باطنيّ يصعب تفسيره والتّعبير عنه لفظيًّا ولكنّه حاضر في الوجدان، بما لا يدع مجالًا للتّشكيك في صحّته وقوّته وتنفّذه بل وخصوصيّته النّابعة من دواخل الذّات. ذاك الشّعور بالانتماء، الذي لا يقبل التّوصيف والذي لا يكونُ عيشٌ سويٌّ بدونه. الشّعور بالقدرة على الحركة. الحقّ في الفعل على مستوى شاسع. وهو حقّ لا يتأتّى إلّا ومعه بالضّرورة موجباتُ فعل ما.
الفراغ الذي يستجلب الملء؛ الخور الذي يستدعي الإصلاح؛ الكوارث التي تستحثّ خطى من يردّ عليها. باعتبار أنّ الأمور إن كانت على ما يُرام، فلا معنى للتدخّل والمحاولة. وما دام الغليان قائمًا، فللطّبّاخِ فرصةٌ للخلق و”التّصنيف”. بلا نارٍ، مستعرة أو هادئة، لا نحصل على مذاقٍ حقيقيّ في نهاية تدخّلنا وتعديلنا لمقادير خلطة المعطيات، إلّا فيما يجري مجرى الاستثناء.
خولة حمدي لا مفرّ من تحمّل المسؤوليّة
تدفع خولة حمدي القارئ، بهدوء وتؤدة، مع اعتمال عدد من المجريات المحسوسة، للوصول بمفرده، عن قناعةٍ، لفكرة أنّه “لا مفرّ” من تحمّل المسؤوليّة والكفّ عن الهرب. شخصيّة “ليلى”، على سبيل المثال، عاشت على وقع “التهرّب” و”اللّا مواجهة” منذ طفولتها. قضَت بداية عمرها على أراضي “جنّةٍ” أوروبّيّة، إن صحّ التّعبير، بحكم مهامّ والدها الدّيبلوماسيّة. ثمّ، وفي إطار حياتها العاطفيّة، لاذت بالفرار مجدّدًا عن قصد أو عن تعوّد لا شعوريّ. وتكاتفت الرّسائل “القدريّة” لاحقًا لتجعلها، ومن خلال دراستها الأكاديميّة للثّورة كظاهرة، ترسم ملامح فهمٍ خاصّ جديد لما يجري ولوظيفتها ودورها فيه والأهمّ، لخطّة تعامل وردّ فعل جديدة مع الحياة. وبعيدًا عن الشّخصيّة الرّئيسيّة، الشّخصيّات عامّة جاذبة للاهتمام ومنوّعة، على قدر معتبر من التّمثيليّة. نجد فيها الأصوات المتعالية من هنا وهناك، السّاخطة والحالمة، والثّوريّة والرّجعيّة، العاطفيّة والمعقلنة، الرّسماليّة والمادّيّة الضّيّقة. لكلّ منها قولٌ وفعل.
بقيت مؤاخذتي الوحيدة على ما قرأت، متركّزة في أنّ رواية أين المفر ربّما تحتاج شيئًا من “الخبث” الرّوائيّ أو الأدبيّ إن جازت استعارة العبارة من الميدان الرّياضيّ الكرويّ، لتقنع بشكل لا يحتاجُ لوقفاتٍ تأمّليّة “مُنقادةٍ بالسّلاسل” في بعض الأحيان. ومع ذلك، لا أستطيع أن أنفي حقيقة أنّ البساطة والانسيابيّة عمليّة جدًّا وأقرب للقارئ في الجملة وأقدر على طرق أبواب عدد كبير من القرّاء وبالتّالي على التّأثير. هذا ما يقارعني به ذهني كلّما تمنّيت لمسةً أدبيّة جماليّة أظهر، لتخرج الرّواية في حلّة فذّة!
أين المفر شيءٌ من جَمالِ الأصالة المضمّنة
ومع ذلك، دعوني أسجّل، ختامًا وبشكل شخصيّ، إعجابي الكبير بآخر جزء من الرّواية. لأنّه حوى تكثيفًا جزيلًا وفي العمق لرسالتها. استمتعت للغاية بالتهامه. كان مؤثّرًا ومعبّرًا بشدّة وبموضوعيّة محترمة عن الوضع. ثمّ إنّي أحببت المعالم الأصيلة التّونسيّة التي بُثّت ما بين السّطور، وكاد يُزغردُ قلبي للتّعثّر السّعيد بها عبر المكتوب؛ تفاصيل صغيرة لتلك الجولات على عين المكان بالعاصمة، المدينة العتيقة كما يراها ويرتادها التّونسيّون اليوم ويعيشون في ميادينها وساحاتها. وتوقّفت منتشية أمام الحديث عن الكشّافة التّونسيّة وعن الجيش وبالذّات موقع كلّ منها كصرحِ بناءٍ وكفاعل متينٍ في السيرورة التّاريخيّة وفي ملاءمة المسار الذي يوجّه الحاضر والمستقبل.
القصّة المضمّنة داخل “أين المفر” هي جزء من كلّ، من قاعدةٍ تعيش أزمة على مختلف الأصعدة وبالذات في العمق الاجتماعي، الفكري، التّصوّري، بُعيد الثّورة في تونس وقس عليها واقع عدد من الشّعوب العربيّة. والرّوايات أو الكتابات التي توثّق لما يجري وتنقله، وإن بعيون مختلفة متنوّعة بل ومتضاربة أحيانًا – لابأس في ذلك- شحيحة للغاية اليوم. وبالذّات مقارنة بالظّرف التّاريخيّ الهائج والدّسم، الذي نعيشه. نعم، “أين المفر ؟” تطرح قضايا ومسائل حارقة، تعبث بفكر ووجدان الشّباب، تتحكّم بوتيرة حركته من عدمها، سواءً عاش الظّرف بكلّ وعي أم لم يتفطّن لكلّ ما يعتمل فيه ويعايش جرّاء معطيات الوضع العامّ. ولهذا، تستحقّ مكانها بين أيدِي القرّاء وعلى الرّفوف.