أفراح القبة وساقية المسدس الدوارة
للمرة الثانية، شاهدت الأسبوع الماضي العرض المسرحي البديع “أفراح القبة”. من إخراج يوسف المنصور، وبطولة نخبة من الممثلين ذوي الموهبة العالية، والأداء الاحترافي المتميز.
المسرحية التي تعرض على مسرح الشباب، جمعت عناصر تميز قلما تتواجد في عرض واحد، فرؤية “المنصور” لنص نجيب محفوظ الرائع كانت فريدة، وإخراجه للعرض اتسم بفهم عال لما بين يديه من أفكار، ولما يملكه من أدوات نجح في توظيفها جميعا في أماكنها الصحيحة.
انضباط الإخراج، وجودته انعكس بالإيجاب على الأداء التمثيلي، فقدم الممثلون مباراة تمثيلية عالية المستوى. لم تقتصر متعتها على الأدوار الرئيسية، إنما امتدت حتى للأدوار الثانوية. التي جاءت مؤثرة وشديدة الجمال، الجمال الذي أحاط ببقية العناصر من حركة وغناء وإضاءة وموسيقى وتصميم رقصات واستعراضات، ولولا قلة الإمكانيات، وعدم وضوح الصوت بشكل كامل على مسرح الشباب، نتيجة لمشكلات -حسب ما أعتقد- في الأجهزة الإلكترونية بالمسرح، إضافة إلى بعض الهنات التمثيلية، والتأثر بعدد من المشاهد الشهيرة في مسرحيات أخرى، لاستحقت المسرحية علامة الإجادة الكاملة.
والحقيقة إن الحديث يطول إذا أردنا الكتابة بإسهاب عن مواطن الجمال في هذا العرض المتميز، والحق إن أفكار هذا العمل تستحق التفكيك والتفكير، وإن أداء الممثلين -كل على حدة- يحتاج إلى تحليل ودراسة، لكني أفضل رغم هذا الاستحقاق الواسع ترك مسألة الإشادة النقدية المفصلة لغيري ممن قدموا بالفعل إشاداتهم بالعمل، أو ممن سيقدمون لاحقًا، ذلك أنني أود هنا الإشارة إلى مسألة أخرى أظننا في حاجة إلى مناقشتها بشكل أوسع.
إن “أفراح القبة” على نجاحها النقدي والجماهيري، تشبه ساقية المسدس الدوارة، فأمام المهتمين بفن المسرح 6 أيام فقط، قبل أن ينتهي عرض المسرحية التي تعرض في الخميس والجمعة والسبت من كل أسبوع حتى نهاية نوفمبر، واليوم كطلقة مسدس إن انطلق من ساقيته أصبح من المحال تعويضه -ما لم يصدر قرار جديد بمد أمد العرض-، وأنا وإن حالفني الحظ فاستمتعت بهذه المسرحية القيمة مرتين، فإن الملايين من المصريين سيبقون محرومين من مشاهدة مثل هذه الأعمال إذا استمرت سياسة العرض الحالية، و”أفراح القبة” ليست استثناءً فالعشرات من العروض الرائعة مثل: ليلة من ألف ليلة وليلة، اضحك لما تموت، الحادثة، المتفائل وغيرها الكثير من الأعمال التي ينتجها البيت الفني للمسرح سنويًا تذهب طي النسيان لأن أحدًا لا ينتبه إليها، ولأن جهودًا حقيقية لتوثيقها لا تبذل.
إن أقصى إنجاز يمكن أن تصل إليه واحدة من هذه المسرحيات مرتفعة القيمة الفنية، هو أن تحظى بليال عرضٍ أكثر، أو أن يأخذها أحدهم بعين الرأفة فيمنحها تصويرًا من زاوية واحدة لتملك الأجيال منها بعد ذلك نسخة منخفضة الجودة على يوتيوب.
نحن في حاجة إلى الترحل بهذه العروض إلى خارج القاهرة، إلى تحرك نحو الشوارع، وزيارة للأقاليم، والقرى، إلى ثقة حقيقية في الفنون وفي قدرتها على التغيير إلى الأفضل.
التلفزيون المصري في حاجة إلى الاستعانة بمثل هذه الطاقات الشابة، لإخراجه من عجزه وشيخوخته، إن الشركات الخاصة، والمنصات الرقمية تختطف من التلفزيون الرسمي اليوم كل موطن قوة كان له في الماضي، فتنتج أعمالها الخاصة، وتشتري الحقوق الحصرية للأعمال الجديدة، بميزانيات لا تستطيع المؤسسات الحكومية تحملها، وفي سوق خرج منه قطاع الإنتاج خاسرًا، في الوقت الذي تعمل فيه كل مؤسسة من مؤسسات الدولة بمعزل عن الأخرى، فتُهدر فرص كانت لتتحقق لو أن قليلًا من التنسيق حدث بين الجميع.
إن التلفزيون الحكومي يستطيع أن يقدم كل أسبوع عملًا جديدًا وحصريًا للمشاهد، إذا ما نسق مع البيت الفني للمسرح، والبيت الفني للفنون الاستعراضية، إذا ما مد جسورًا للتواصل مع دار الأوبرا ووزارة الشباب ومعاهد الفنون، فيكسب هو بذلك إنتاجًا منخفض التكلفة ينافس به في عصر الميزانيات المفتوحة، وتكسب هذه الجهات إخراجًا احترافيا وتوثيقًا حقيقيا لأعمالها، وجمهورًا جديدًا ينضم إليها، ويكسب الجمهور مخرجين ومغنيين وممثلين وفنانين عظماء، ربما يعيدون يومًا ما بناء خريطة قوتنا الناعمة… ربما.
نرشح لك: تحفة عميد الأدب العربي الروائية: عقدة “أديب”