أزنافور … في ذكراه الثانية
(22 مايو 1924 – 1 أكتوبر 2018)
لطالما شملت اهتماماتي الموسيقية الأغاني الفرنسية، وخاصة منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، فعرفت داليدا، وجيلبرت بيكو، ومارك أريان، وغيرهم الكثير من نجوم الغناء الفرنسي. إلا أن مطربًا بعينه تميز عن كل هؤلاء، بكلمات أغانيه التي وإن قاربت الشعر، إلا أنها سعت لتقديم لوحات مسرحية، بصورة غنائية مبتكرة. فلم تقتصر على الحب الرومانسي بين الرجل والمرأة، بل امتدت لتشمل حب الأم والابنة والفن والوطن، كما تطرقت إلى موضوعات محظورة، مثل العلاقات المثلية وتأثير الحروب المدمر على الأطفال الأبرياء.
وكان تشارلز أزنافور، الذي فارقنا يوم 1 أكتوبر منذ عامين، يمتاز بأسلوب متفرد في إلقائه الحي لتلك الأغنيات من فوق خشبة المسرح، إذ كان أقرب إلى ممثل البانتومايم، المجسِّد لصوت الراوي الذي يتراوح بين العاشق الولهان إلى المسن الذي يتذكر أيام شبابه إلى الفنان الرسام إلى الزوج المقهور، وغيرهم من الأنماط المختلفة وأحيانًا المهمشة من الشخصيات.
ولكم كانت سعادتي إذ دعيت لحضور حفل من حفلاته بكازينو لبنان، ولم أتفاجأ كثيرًا بتنوع جماهير ذلك الفنان العظيم، من جميع الأعمار ومختلف الجنسيات، ووجود الوزارة اللبنانية بكاملها بالصفوف الأولى لهذا الحدث. وفوجئت الجماهير العريضة أثناء العرض بتعثر الفنان وسقوطه شبه مغشيًا عليه فوق خشبة المسرح. ساد القاعة هرج ومرج، وسارع الأطباء من الحضور لإجراء الإسعافات الأولية للمطرب المسجى على الأرض، والذي أحاط به أفراد فرقته الموسيقية. وهمّ مخرج الحفل بإسدال الستار، إلا أننا فوجئنا جميعًا بنهوض الفنان، واعتذاره للجماهير الغفيرة، وإصراره في التو والحال على إعادة غناء الأغنية التي كان يتغنى بها، بل ومصرًا على أن يتجاوز برنامج الحفل، مستفيضًا بغنائه لأحدث التسجيلات التي كان قد قام بها مؤخرًا، شاكرًا وممتنًا لجمهور لبنان العظيم. وقد ذكرني الحادث بلقاء تلفزيوني كانت قد أجرته معه المذيعة حمدية حمدي لبرنامجها الشهير “العالم يغني”، أهدى خلاله لجمهور التلفزيون المصري مجموعة من أغنياته الشهيرة.
ورث أزنافور، المولود عام 1924 في باريس، الغناء والترفيه عن والده منذ نعومة أظافره، وتفرغ للفن في سن التاسعة كمغنٍ وممثلٍ وراقصٍ، حقق شهرة محلية بمختلف ملاهي باريس الليلية ومطاعمها.
وفي بداية الخمسينيات من القرن العشرين، احترف شارل أزنافور التأليف والتلحين الموسيقي لكبار المطربين، ومنهم إيديث بياف، الذي أعجبت بأسلوبه المتميز، ونصحته بتقديم أغانيه التي نالت إقبالًا جماهيريًا ما كان لأحد أن يتوقعه.
تخطت شهرة أزنافور فرنسا وكندا، فأصبح نجمًا عالميًا تتسابق عواصم العالم في طلب استضافة حفلاته وعروضه المميزة. وأحب العالم العربي عروض أزنافور، فاستضافته القاهرة والإسكندرية بمصر، وكان أول مطرب أجنبي يحيي حفلًا غنائيًا كامل العدد بمدينة بيروت بعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها.
وصلت أغنيته She باللغة الإنجليزية إلى قمة قائمة الBBC، في سابقة غير عادية، كما تصدرت مبيعات الأسطوانات في إيطاليا، في نسختها الإيطالية. أما سينمائيًا، فقد لعب دور البطولة في دور عازف البيانو في فيلم عالمي من إخراج “فرانسوا تروفو” بعنوان “أطلق النار على عازف البيانو” (1960).
سجل أزنافور على مدى سبعين عامًا أكثر من ألف أغنية، لعل أشهرهاLa Boehme، Mourir d’Aimer، Comme Ils Disent ، Hier Encore، Deux Guitares وغيرها. وتغنى أزنافور بهذه الروائع أمام الملوك والرؤساء في شتى أنحاء المعمورة، إلا أنه كان دائمًا يفتخر بأن صوته الدافئ المعبّر، وألحانه الشجية المتميزة، يحملها الأثير عبر أجهزة الراديو والترانزيستور، إلى عوالم تكد وتعمل من أجل لقمة العيش في آلاف القرى، وإلى الملايين من محبي الفن الجميل ومتذوقيه. ولم تقتصر أغنيات المطرب الكبير على اللغة الفرنسية فحسب، فاشتهرت أغانيه بثماني لغات أخرى، كالإنجليزية والإيطالية والأسبانية والأرمنية إلخ.
“لقد حلمت دومًا، وما زلت أحلم، بأن يصل صوتي إلى شتى بقاع الأرض، مهدياً الابتسامة لكل من يسمعني”.
وحين أتم أزنافور عامه الثمانين، احتفى به كبار مطربي فرنسا، من أمثال جوني هاليداي، وسيلفي فارتان، وبتيولا كلارك وآخرين. ثم تكررت الاحتفالات، حين أتم الخامسة والثمانين، وشارك فيها أعظم مطربي العالم بألبوم أطلقوا عليه اسم “الثنائيات”، صاحب فيه أزنافور كل من إلتون جون، وبول أنكا، وخوليو إجليسيوس، وسيلين ديون، وغيرهم، فصار من أعظم ألبومات الغناء في النصف الثاني من القرن العشرين.
ولطالما اعتز أزنافور بأصوله الأرمنية، وسارع في المساهمة في جمع التبرعات وإحياء الحفلات لمساندة وطنه الأصلي بعد أن أصيب بزلزال مدمر. وقد عبرت أرمينيا عن امتنانها، بإقامة تمثال للمطرب الكبير في أهم ميادينها.
وفي أوائل أكتوبر من عام 2018، أصر الرئيس الفرنسي ماكرون على إعلان الحداد العام في فرنسا، وأقام جنازة رسمية مهيبة، تخليدًا لذكرى الراحل العظيم، تصدرها الرئيس الفرنسي بنفسه، مع قادة الفكر والفن بفرنسا.
وهب أزنافور حياته للفن الراقي الهادف، فما كان من الفن إلا أن كافأه بحب الملايين من مختلف الجنسيات والثقافات واللغات في العالم أجمع.