وماذا بعد الفستان الأبيض؟
“لا أتمنى من الله إلا أن أراكِ بـ الفستان الأبيض.. وتبدأين حياتك مع ابن الحلال.. فتصير لك مملكتك الخاصة.. وتُنجبين صغارًا يملؤون حياتنا سعادة وسرورًا..”
كلمات تجري على لسان كلّ أم مصرية وربما كلّ أب، تحكي عن أُمنياتهم لابنتهم منذ نعومة أظافرها وحتى تصير شابة ناضجة. كلمات تحمل بين طياتها المحبة والأمل، تتكرر مئات المرات على مسامع الفتيات ولكن دون حديث عن تفاصيل أو معلومات عما يعقُب ارتداء ثوب الزفاف “الفستان الأبيض” وسكن العش الصغير..
وبسؤالهم عن مدى جاهزيتها لهذه الخطوة، يُجيبون بملء أفواههم: اشترينا أفضل أثاث ولِباس.. ولكن ماذا عن الحياة وتفاصيلها؟ واقع يظل غائبًا بشكل أو بآخر عن أذهان الفتيات حتى تجد نفسها جزءًا منه.. فلا تعلم وقتها ماذا عليها أن تفعل.
تبدأ القصة بأن تولد الفتاة فيولد معها الحلم؛ حلم الفستان الأبيض وحفل الزفاف والفرحة الموعودة. وتكبر الزهرة يومًا بعد يوم ويكبُر معها الحلم. ويمتلىء ذهنها بالتساؤلات: متى؟ وأين؟ وكيف؟
متى ستقف أمام الجميع فى حُلتها البيضاء الجميلة، وتضع التاج فوق رأسها فتصير أميرة من الأميرات. بعض الفتيات يأتيهنّ الحلم مُزينًا بمشاعر جميلة تطرق باب قلبها للمرة الأولى ويصبح هذا الحبيب هو أميرها الذي سيأخذها معه إلى عالم جديد، لا تعرف عنه الكثير، لكن ما تعرفه أنه عالمها هي ومن تحب.
وأخرى قد تذهب إلى حلمها، كمن يؤدي واجبًا فرضته عليها الظروف، فهى ليست فرِحة ولا حزينة ولكن ستتزوج لأنه حان الوقت وجاء الرجل المناسب، فتسير وراء هذا الرجل المختار وهي مُحملة ببعض الآمال.
وهناك أخرى تهرول نحو هذا الحلم هرولة وتقتنص الفرصة إذا جاءتها هربًا من واقعها الذي لا ترضاه ولا تحبه، هربًا من القيود والضغوط. وسعيًا نحو هذا الرجل الذي سيأخذها إلى عالم آخر تراه في خيالها أنه سيكون أفضل بكثير من عالمها، فتذهب معه من دون طول تفكير، فرأسها مُمتلئ بالأماني الجميلة الوردية، وقلبها مُتعطش لجميل الحبّ والمشاعرالتي طالما انتظرتها وناجتها في خيالها.
تهتمّ الفتيات وعائلاتهنّ كثيرًا بتجهيزات ما قبل الزواج؛ الأثاث والأجهزة الكهربائية، الملابس والمفروشات، الفستان الأبيض والطرحة، حفل الزفاف والأغنيات، ألوان الورود والديكورات. تُولي الفتيات عناية شديدة بالبشرة والشعر وكلّ ما له علاقة بجمالها وقوامها، وكلّ ما يجعلها أروع في عيون الفارس الهُمام، وذلك يحدث في مُختلف الطبقات الاجتماعية مع تباين الأذواق والقدرات المادية، فأحد لا يمكن أن يُنكر كمّ الأموال التي تُنفَق على تجهيزات الزواج، مبالغ طائلة، بالنسبة للغني والفقير.
كلّ هذا جميل، ولا اعتراض عليه..
تأتي الليلة الموعودة، ليلة الزفاف، فيكون كل شيء على ما يرام بعد عناء طويل؛ المسكن جاهز ومُمتلئ بقطع الأثاث والديكورات. حضر المدعوون وارتدت الزهرة فستانها الأبيض ليستقبلها أميرها في حُلته السوداء ليرقصا معًا رقصة البداية على أغنيتهما الُمفضلة. الفرحة تعُمّ المكان، الوجوه ضاحكة والقلوب مهللة، فقد أتمّ الوالدان واجبهما تجاه أبنائهما -الزوج والزوجة- على أكمل وجه أو على قدر استطاعتهما. وها هما يشهدان عُرسهما وهما في قمة السعادة. يتبادل الزوجان نظرات الحب وكلمات التودد. ويُسدل الستار على قصة حب جميلة توّجت بالزواج وبيت جديد من المفترض أن تُعمره المودة والرحمة..
يمُرّ الشهر تلو الآخر..ليُرى المأذون خارجًا من نفس البيت يحمل بضع أوراق تعلن نهاية قصة الحب وتُعلم الجميع بأنّ الطلاق قد تمّ، وأنّ هناك حبيبين قرّرا أن يفترق بهما الطريق بلا رجعة. فيضرب الأهل كفًّا على كفّ متسائلين عن سبب الفُرقة التي تكون في كثير من الأحيان مكللة بالكراهية والسب واللعن، والمحاكم في كثير من الأحيان.
أين ذهبت المشاعر والوعود؟ أين الفرحة التي كانت ملء العيون واللهفة التي كانت ملء القلوب؟ لا أحد يعرف! فقط انتهت القصة.
ما الذي حدث؟ في رأي الكثير هو خطأ المرأة، وفي رأي البعض هو خطأ الرجل.. وفي رأى العقلاء، هو خطأ الطرفين..
الحقّ أنّ ما ننفقه من وقت وجهد ومال في التجهيز المادي للزواج أكثر بكثير من الوقت الذى يقضيه طرفا العلاقة كي يُعِدّا نفسيهما معنويًا لحياتهما الجديدة. الفتاة تهتمّ بمظهر “عريسها” وهداياه، ما اشتراه للمنزل وما لم يشترِ بعد. لا تتهاون إذا قصّر في مطالبها ولكن تتغاضى كثيرًا عن أيّ قصور في أخلاقه أو تصرفاته.
وينبهر الخاطب بجمال العين وطيب العطر وحلو كلمات عروسه، ويغضّ طرفه عن سوء التفاهم الذى كثيرًا ما يحدث بينهما. ويتحجّج كلٌّ منهما بأنّ العشرة والأيام ستتكفل بستر العيوب وسدّ الثغرات وإصلاح الفاسد وتعديل المائل، إن صحّ التعبير..
وكأنّ المأذون يملك عصاة سحرية أو سيلقي عليهما بتعويذة وهو يعقد قرانهما. تُبدل من حال كلّ منهما إلى الأفضل، فيستقيم لهما الحال فورًا ويعيشا في سعادة وهناء إلى الأبد، كما يحدث في أفلام الرسوم المتحركة.
صحيح أنّ التفاهم والتواؤم التامّ بين الطرفين هو المستحيل بعينه، ولكن هناك حدّ أدنى من التفاهم والودّ والاحترام المتبادل يجب أن يتوافر بين الطرفين منذ البداية، وإلا فلا حاجة في بقائهما معًا..
وأنا هنا أتحدث عن التفاهم والود والاحترام. وليس مشاعر الحب التى لن يكون لها وجود إذا مالت يومًا كفة الودّ والاحترام. وكأنّ الودّ والاحترام عمودان أساسيان يرفعان سقف الحب، فإذا ما حدث خلل في أحد العمودين فسيتأثر السقف وربما تنهار العلاقة بأكملها فوق رؤوس الأحبة، كما يحدث كلّ يوم..
أعرف جيدًا أنّ التغيّر هو سُنة الحياة، وأنّه ليس هناك من شيء يضمن لنا دوام القلوب على أحوالها، ولكن في النهاية يجب أن نأخذ بالأسباب ونؤدي ما علينا من تريّث وحسن اختيار ثم نترك ما على الأيام للأيام، فما سيحدث بعد ذلك هو إرادة الله لنا.
أما من دخلوا زواجهم من باب الود والحب فعلى آبائهم دور وواجب في توضيح شيء فى غاية الأهمية، وهو أنّ من يبدأ حياته الزوجية في الحقيقة هو كمن يأخذ حبيبته في مركب لينزلا به إلى البحر في رحلة لا يعلم إلى متى ستمتدّ إلا الله، وأقول بحر لأن الأيام ستمضي بهما ما بين ساعات هناء وسرور وساعات قلق واضطراب، فلن تبقى الحبيبة الجميلة على حالها ولن يبقى الحبيب الحنون على عهده، سيغضب وستبكي، سيقسو وستشتكي، سيعود ليصالحها وستغفر له.. فإن لم يكن هو رُبان ماهر وإن لم تكن هي شراع صبور، وإن لم يكن ما بينهما قويّ ومتين، رباط غليظ، سينكسر المركب وتنهار الحياة بفعل الموج ولطماته.
ستظلموا بناتكم كثيرً إذا هنّ عِشنَ بِوَهم أنّ الزوج سيحمل في يمينه فانوسًا سحريًا وفي يساره بُساط علاء الدين.. لا تطلبوا منهنّ أن يُأجّلن أحلامهن حتى يتزوجن، “فلتخرجي مع زوجك، فلتُسافري مع زوجك، فلتفعلي ما تشائين ولكن مع زوجك” لأنه في النهاية بشر وليس هناك ما يُلزمه بتحقيق أحلام زوجته المحرومة. ولأنها ستُصاب بخيبة أمل قاتلة عندما ترى أنّ الزواج ليس كله نُزهات ورحلات و هناء ودلال..
ارحموا فتياتكنّ من الجوع العاطفي الذي يجعلها تسير معصوبة العينين خلف أول رجل يُداعب أذُنيها بمعسول كلماته فتظنّ أنّ هذا هو الحب وتنكسر حين تكتشف خداعه..
أشبعوا فتياتكم حبًا ومشاعر، وامنحوهنّ كثيرًا من الثقة بالنفس والإحساس بجدراة الاحترام والتقدير، حتى يتسنّى لهنّ أن يخترنَ الشريك الصحيح والذي يستحقّ منهنّ أن يتحمّلن عناء الحياة ومصاعبها..
علموا أولادكم ثقافة الاختلاف، وأنّ هذه التي تركت بيت والدها لتُعمر له بيته ليست بخادمة ولا جارية، إنما هي إنسان مثله له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، إنسان مثله يغضب ويملّ، يبكي ويمرض، فلا يحقّ له أن ينفر منها إذا ما ذبُلت، أو انشغلت بأبنائهما فنسيت أمر هندامها لحين.. علموهنّ أنّ الرجولة احتواء وقوة لا تُستخدم إلا لمساعدة الحبيب، وأنّ اكتمال الرجولة لا يكون إلا بحلو الكلام ولُطف المعاملة وطيب العِشرة..
الآباء الأعزاء، جميل جدًا أن تعملوا وتجتهدوا لتوفروا لأبنائكم زيجة طيبة ومسكنًا مُريحًا، وفي ذلك سعيكم مشكور. ولكن بالله عليكم انتبهوا للقلوب وما فيها، والنفوس وما تضمر، والعقول وما يحتويها. علّموا أبناءكم أنّ الزواج مسؤولية ليست بالهينة..
أنّ الزواج ليس بنزهات وهدايا وأغنيات حبّ كلّ الوقت، ولا هو ضغوط وهموم ومسؤوليات كلّ الوقت.. فهو حياة متكاملة..لن يذوق شهدها إلا من يتحمل مُرها..
فلنُعلّم أبناءنا أنّ الحب شيء أكثر من رائع، لكنّ استمراريته شيء ليس بالهيّن وليس بالمستحيل، يحتاج الأمر إلى كثير من الشجاعة والصبر والمرونة..كفانا طلاق، كفانا بيوت تُهدم وقلوب تنكسر.
ولنُفكر جميعًا فيما سيأتي بعد الفستان الأبيض..