دعوى “ذكوريّة الفقهاء”، هل الفقه صناعةٌ ذكوريَّة؟
- كثيراً ما تحدث كتّاب الحداثة والمروّجون للحركة النسوية عنُ السُلْطة الذكوريةِ للفقهاء، وقتلوا كتبَ التراث بحثاً واستخراجاً للأمثلةِ التي تؤيِّد طرحهم، زاعمين أنَّ ما حملهم على ذلك؛ الدفاع عن المرأة وحقوقِها، والوقوف في وجه الظلم الذي لحق بها وإنصافها؛ جرّاء التشريعات الفقهيَّة الذي تأثرت بسلطةِ الذكور الفقهاء، وهي دعوى زائفة، ومقولة شيطانيّة، أخذت تشقُّّ طريقها إلى الأسماعِ والقلوب مؤخراً، محاوِلةً إقصاء التشريع الإسلاميِّ، وجعله بعيداً كل البعد عن المجالس العامة والتشريعات القانونيّة، وصولاً إلى انسلاخ المجتمعات من قيمها الإسلامية، غيرَ أنّ أصحاب تلك الدعوات يناقضون أنفسهم، إذ يدّعون أنَّ هدفهم من تلك الحملات إنصاف المرأة من أهواء الفقيه، غير أنَّ هذه الدعوات بحدّ ذاتها تُشكِّل مستوى متبايناً بعيداً كل البعد عن المنهجيَّة،” إذ ينظر الفقيه إلى النص على أنه يجب أن يُعمل على ما هو عليه، دون أن يشوبه هوى أو مصلحة، فيكون الفهم منطلقاً من موضوعيّة النص، بينما ينتقده الحداثيّ بناء على ذاتية القارئ؛ إذ يجعل نفس الفقيه هي العلة القائمة وراء هذه الثقافة الذكورية التي يدَّعيها، مما يجعل امرأة الفقه في نظرهم امرأةً مضطهدةً ومنتقصة ثقافياً ودينياً، فهي كما ترى ريتا فرج في كتابها “امرأة الفقهاء وامرأة الحداثة” تختلف عن امرأة الحداثة.”
إلا أنّ هذه الاتهامات تثير السخرية حقيقةً في كثير من مفرداتها، إذ فيها جهالة كبيرة بمفهوم الفقه الإسلامي وعلاقة الفقيه به ودوره فيه ومدى تأثير نفس الفقيه في الأحكام المستنبطة بواسطته، إذ يظنون أنَّ الفقه الإسلامي متأثر في نشأته بالنفس المدركه له، كما الحال في الأدب والفن، وأنَّ الفقه ليس إلّا عملاً بشرياً بمعنى أنه يتأثر بأحاسيس الفقيه ومشاعره، وهذه نَظْرةٌ أحادية، فالفقيه ليس مُشرِّعاً؛ بل كاشفاً للأحكام والإرادة التشريعية للَّه عز وجل، فالنصوص التي تشكل الوحي ومصادر التشريع الإسلامي، ليس للفقيه أمامها إلا الإيمان بها والالتزام بمنهج استنباط الأحكام وفق ما قررته مباحث علم أصول الفقه من قواعد للاستنباط وضوابط لاستخراج الأحكام، إذاً فالفقيه لا يستقل بصياغةِ الأحكام، بل هو ملزم بضوابط معينة لا يمكن تجاوزها، والفقه الإسلامي إنّما هو معبّر عن شرع اللّه وإرادته وحكمته.
المرأة في اجتهاداتِ الفقهاء:
ومما يؤكد على ذلك مجموعة اجتهادات فقهية جاءت مخالفة لأهواء الرجل، وكذلك اجتهادات لفقيهات جاءت مخالفة لأهواء المرأة، مما يؤكد أن النَّظر في النصوص الفقهية كان مجرداً عن الأهواء، ومنضبطاً وفق أصول الاستنباط، وللتوضيح أكثر أذكر هذه الأمثلة:
أولاً: اجتهادات فقهيّة خالفت فيها المرأة أهوائها ووقف منها الفقيه في صالح المرأة – فيما يظهر – غير أنّ الحقيقة أن كلا من الفقيه والفقيهة وقفا موقفاً منطلقاً من موضوعية النص، ومثال ذلك:
أ- حق المرأة في الخروج إلى المسجد: فإن عائشة رضي اللّه عنها ترى منع المرأة من الخروج إلى المسجد لما رأته من إحداث النساء لأفعال كانت منضبطة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنّ ابن عمر رضي الله عنه كان يرى أن للمرأة حقاً في الخروج إلى المسجد لحديث: ” لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتهن خير لهن. ”
ب- حق المرأة في ولاية النكاح: كذلك ترى عائشة أن لا حق للمرأة في ولاية النكاح على نفسها أو على غيرها، في حين يرى أبو حنيفة أنَّه يجوز للمرأة العاقلة الرشيدةِ أن تزوِّج نفسها كما يجوز لها أن تبيع مالها، وقد أخذ جمهور الفقهاء بقول عائشة رضي اللّه عنها.
ج- حكم الساحرة: وكانت حفصة بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين ترى قتل الساحرة لما توقعه من ضرر فهي مثل المرتدة في الحكم، إلا أنَّ عثمان بن عفان لا يرى قتلها، وقد أنكر على حفصة ما فعلته بأمَتِها التي سحرتها.
ومثل هذه النماذج نماذج كثيرة وقفت فيها المرأة – فيما يظهر – ضد مصلحة المرأة، ووقف فيها الرجل الفقيه في موقف المتحيز للمرأة، غير أنّ الحقيقة لم يتحيز أي منهما للآخر، وإنما وقف موقف الكاشف للأحكام، المنصف من الأدلة التشريعية، كما في بعض الأحيان كانت ترى المرأة اجتهاداً فقهياً يميل لمصلحة المرأة بناء على الأدلة فتُراجعَ الفقيه في اجتهاده، فيقتنع بدليلها وينقاد نحو الصواب، ومن ذلك:
أ- يُذكر أنّ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه عزم على تحديد مهور النساء في اثنتي عشرة أوقية، فرأت امرأة أنّ في ذلك مساساً بالنص الشرعي وحق المرأة في الصداق، فردت عليه بقولها: “يُعطينا الله وتحرمنا، أليس الله سبحانه وتعالى يقول: (وءاتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً)، فرجع إلى قولها. وعائشة رضي الله عنها كانت من فقيهات الأمة التي يُرجع إليهن في كثيرٍ من الأحكام، حتى أنَّ كثيراً من مجتهدي الأمة كانوا يقدِّمون اجتهاداتها على غيرها من الصحابة لملازمتها بيت النبوة ودرايتها، وعلمها بما يجري داخله أكثر من غيرها، وهي رضي اللّه عنها أسمى من أن ترد حديث أو تأول نصاً انتصاراً لكرامتها، فالاتهام للفقه بالذكورية لا يعدو عن كونه جهلاً بواقع الفقه وأحكامه، وبما يزخر به من مواقف وآراء لصالح المرأة دون الرجل، كتوريث الجدة أم الأم دون الجد أب الأم، وتوريث الأخت الشقيقة والتي للأب وإعطائها النصف كاملاً، فالفقه لا يتحيز لجنس دون الآخر، وإنَّما يُتبع فيه الدليل ولا يحيد عنه.
قضية الميراث في الفقه الإسلامي:
بناء على ما سبق ظهرت وتكاثرت الكتابات الترويجية للنسوية والحداثة، وأُخذت قضية الميراث كنموذج تنبثق منه كتابات نسوية أحادية المنهج، حيث لا يوجد تطلع لأفكار ورؤى وحلول وأفاق غير الذي في نفس صاحب تلك الكتابات، ومن ثم حصرها في اتجاه واحد، يريد أن يلزم النظّار جميعاً بالنظر من منظوره، إلا أنّ ما هو سائد عند الكثير على أنّ المرأة على النصف من الرجل في الميراث كقاعدة عامة غير صحيح، بل ومعايير التفاوت في الميراث لا علاقة لها بالذكورة ولا بالأنوثة، فالرجل مثلاً حين يتوفى ويترك بنتاً وأماً وأباً فإن البنت تأخذ النصف، والأم تأخذ الثمن والأب يأخذ أقل من حصة البنت، ذلك لأنّ معايير الميراث في الإسلام تنبثق من منظورين: الأول: درجة القرابة، والثاني: حكمة الله في موقع الجيل الوارث، فكلما كان الجيل صغيراً مستقبلاً للحياة كان نصيبه من الميراث أكثر من غيره، والحالة التي تتفق بها درجة القرابة وموقع الجيل الوراث، ترث بها المرأة على النصف من الرجل، والاستقراء للحالات المختلفة على مدى تاريخ التشريع الإسلامي تُبيّن أن المرأة ترث أكثر من الرجل أو مثله فيما يزيد عن ثلاثين حالة، بينما ترث المرأة على النصف من الرجل في أربع حالات فقط، وفي هذه الحالات ما لله من حكمة في الفرق بين العبئ المالي المُلقى على عاتق الرجل، والعبئ المالي للمرأة، بما يتضمن من إعفاءات وتخفيفات عنها في كثير من التكاليف المالية والبدنية وإلقائها على عاتق الرجل، كمسألة النفقة ولو كانت الزوجة غنية، مع إيجاد ذمة مالية خاصة للمرأة تستطيع بها التصرف بمالها كما تشاء، كما ألزم الرجل بدفع المهر دون المرأة، على الرغم من أن كلاهما منتفع من الزواج.
وحدة الأصل والتكامليّة الشاملة:
يرتدُّ الرجل والمرأة في التشريع الإسلامي إلى أصل واحد، فالنَّاس مخلوقون من نفسٍ واحدة، ومن ثمَّ حرصت الأحكام على وضع إنسانية المرأة الموضع اللائق في الحكم، كما جعلها مكرمة، فلم يكن خطاب الإيمان والعمل الصالح مقتصراً على الذكور دون الإناث، بل وكان للمرأة بلوغٌ لمراتب الإحسان والتقوى، كما جاء حسم النص القرآني بالنهي الجازم عن جعل المرأة كالمتاع لا يراد منها إلا إرثها، بل وعزز حقيقة الوعي عند المرأة لحقائق دينها، وبالدور الذي يمكن أن تؤديه المرأة في البنية الاجتماعية منضبطاً بالهدي النبوي، والعلم والبصيرة، وتكوينُ الإنسان المسلم عموماً على قاعدة وحدة خطاب التكليف وتحمل مسؤولية المجتمع والأمة، بحيث يأخذ كل منهما بيد الآخر نحو تحقيق عملية البناء الكبرى في أطر خطابات التكليف، بل وكان للإسلام إحداث نقطة تحول شامل، فبعد أن كانت المرأة متاعاً للعبث في الجاهلية، طمعاً في مالها أو إرثها، أصبحت مصدراً مهما تقوم عليه الأسرة وصلاح المجتمع ككل، وهل وَضْعُ المرأة على خطِّ المسؤولية والجزاء، شريكة للرجل في بناء الأمة ضمن حدود الشريعة وضوابطها، إلا عنوانٌ للنقلة النوعية الإنسانية بعيداً عما أحدثته عصور الجاهلية وغيرها من حفريات في قيمة المرأة؟ حتى جاء القرآن وصوّرها روحاً نديّة مليئةً بالرحمة والنُّور الربانيّ إن هي أحسنت، وتمكنت من إعداد جيلٍ صالح مُصلح.
دور الفقيهات عبر التاريخ (المرأة ومجالس العلم):
تكاد تندثر سير الصالحات من النساء من الأعمال التاريخية، حتى إنه ليخيَّل للمجتمع أن الفقه قام على جهود الرجال دون النساء، فالنساء اللواتي حضرن درس العلم في المسجد النبوي وكُنَّ جزءاً فاعلاً في النسيج المجتمعي حتى ضجت غرف أمهات المؤمنين، وكُنَّ أشبه بالمنتديات الثقافية التي يَرِدها كل سائل وباحث، وفي ذلك تقول عائشة رضي الله عنها: ” نعم النساء نساء الأنصار؛ لم يكن يمنعهن حياؤهن أن يتفقهن في الدين”، حملن الرسالة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وكُنَّ لواءً وذخراً وحمىً لهذا الدين، إذ استمر إقبال الصحابة على حجرات النبي ليأخذوا عن عائشة رضي الله عنها الفقه، ويقول أبو موسى الأشعري في ذلك: “ما أشكل علينا أصحابَ رسول الله حديث قط، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً”. وهذه نماذج لنساءٍ كُنَّ ذوات علم، وعلى قدر من اعتناق الحق، وحفظ مواثيق هذا الدين:
أ- أما السيدة شفاء بنت عبد الله فكانت أول معلمة في الإسلام، أجادت القراءة والكتابة وتعليم الصبيان، حتى شاع عنها رجحان العقل وحدة الذكاء وصواب الرأي، فاستعملها عمر بن الخطاب على شؤون السوق.
ب- وأما السيدة عُمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية فحفظت حديث عائشة وكانت أعلم ثلاثة بحديث عائشة رضي الله عنها وأظهرت قدرة فائقة على الحفظ، وروى عنها البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
ج- وبدأت السيدة زينب بنت علي مجالس العلم بعد أن شهدت مقتل الحسين، فسافرت إلى المدينة ثمَّ إلى مصر لتقيم فيها وتعلم أهلها الفقه، وكان لها مجلس تحضره النساء اللواتي يردن تفقهاً، وحذت حذوها فاطمة بنت الحسين التي خلدت ذكر الحسين وما حل بآل البيت بالشعر، وكذلك أختها سكينة بنت الحسين التي اعتنت بالأدب والأدباء، وكانت تحب العربية وتجمع الأدباء حولها حتى كان لها ما يعرف اليوم (بالصالون الثقافي) الذي يتناول أمور الدين والفقه والأدب والعلم.
ولم تنحصر الريادة النسوية على آل البيت من النساء، بل تجاوزتهم إلى عموم المسلمين، فهذه الكاتبة شهدة بنت أحمد بن الفرج الإبري اشتهرت بحسن الخط وكانت تكتب للخليفة، كما كتبت في الحديث والوعظ والتذكير واللغة والتاريخ والأدب، ويذكر أنه كان يحضر مجلس الموطأ خمسمائة طالبة يحفظن موطأ الإمام مالك رحمه الله، ويحفظن المطولات في الفقه، ولا نغفل عن السيدة نفيسة بنت الحسن تلميذة الإمام مالك التي حضرت مجلسه ثم ارتحلت إلى مصر؛ لتبدأ مجلسها الخاص، حتى عُدَّ الشافعي رحمه الله من تلاميذها، ولم ينقطع عنها حتى وفاتها، وكذلك تلميذة ابن تيمية فاطمة بنت عباس البغدادية.
كما نرى أن النبوغ لم يكن مقصوراً على نساء الشرق، بل تفوقت نساء الأندلس أيضاً، فهذا ابن حزم رحمه الله يروي عن النساء أنهن ربّينه وعلمنه القرآن، ورواية الشعر ودرّبنه على الخط، فبرزت حفصة بنت الحاج الركونية، وولادة بنت االمستكفي وغيرهن، وكُنَّ يُدرّسن الرجال والنساء، ثم ارتحلن كمعلماتٍ إلى المغرب العربي، ولا نغفل عن دور المرأة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والسيرة مليئة بنماذج يحتذى بها، حيث استعملهن النبي كل واحدة بحسب دورها في خدمة الدعوة والأمة.
“في حقيقة الأمر مشكلة النسوية ليست مع الفقهاء فحسب، بل ومع الثقافة بشكل عام، ومع المجتمع واللغة ومع الأديان كافة، مما حذا بأحد أطيافها لتشكيل دين خاص بهنَّ يدعى “الوثنية النسوية”؛ والتي تجعل من الأنثى إلهاً”، تحضرني الآن الكثير من النماذج التي تُظهر إنصاف الفقهاء للمرأة، لكنني لا أريد أن أطيل الحديث أكثر، وكثيرٌ من هذه النماذج العظيمة لن تنشرها كتابات الحداثة، بل ستسمر بتجاوز كتب التراث إلى ما يوافق أهواءها ودعواها، وحسبنا أنّ الإسلام كرّم المرأة ورفع شأنها وأعطاها ما لم تُعطَه في عصر من عصور الجاهلية، فبرعت المرأة ونبغت في عصور الإسلام، وكانت ذات مكانة وقدر؛ يتوقف صلاح أي أمة من الأمم على صلاح نسائها، فهن اللبنة الأساسية والبناء الأهم.
المصادر والمراجع: - كتاب "موقع المرأة المسلمة بين الإسلام ودعاوى التجديد"/ د. محمد أديب الصالح كتاب "المرأة في الإسلام"/ محمد الغزالي. - "الفقه بين المرأة والقانون السياسي"/ مصطفى السباعي. كتاب- كتاب "لا ذكورية في الفقه"/ أ.د. محمد التاويل.- كتاب "علو الهمة عند نساء الأمة"/ محمد الزغبي.- مقال بعنوان "ذكورية الفقهاء، هل ظلم التشريع الإسلامي المرأة؟"/ منة الله العلي. - مقال بعنوان "دور الفقيهات"/ منة التلاوي.- مقطع مرئي بعنوان "لا ذكورية في الفقه"/ د. محمد خير الشعال.
قد يعجبك أيضًا: المرأة و النهضة الأندلسية