نهاية فيلسوف البدايات
فيتجنشتاين والموت
كلما اقترب المرء من نهاية كتاب “عن اليقين”، _ الكتاب الأخير للفيلسوف النمساوي فيتجنشتاين _ لا يملك منع نفسه من الشعور بالحزن. الحزن على هذا العقل الذي يجاهد لحظات الموت، محاولًا التشبث بفكرته الفلسفية الأخيرة حتى يصيغها لغويًا في أوراقه الخاصة. فنحن نعلم أن فيتجنتشاين كتب كتابه الأخير هذا على دفعتين، فكتب نصفه الأول قبل وفاته بعام، لكن عندما بدأ في تناول العلاج الهرموني حين علم بإصابته بالسرطان، توقف عقله عن التفكير تمامًا، حتى أنه يقول في أحد رسائله قبل وفاته بثلاثة أشهر
“لقد مات عقلي تمامًا. هذه ليست شكوى، لأني أعلم أن الحياة يجب أن تنتهي في لحظة ما، وأن الحياة العقلية يمكن أن تتوقف قبل أن يتوقف الباقي”.
إلا أن هذه الحالة لم تكن كلمة النهاية بالنسبة له، فقد توقف عن تناول العلاج في لحظة علمه بأن حالته ميؤوس منها. وهنا استعاد نشاطه العقلي مرة أخرى، فعاد إلى استكمال كتابه قبل وفاته بشهر ونصف، وظل يكتب حتى قبل وفاته بثلاثة أيام، حيث سقط بعدها مباشرة في غيبوبة عميقة لمدة يومين، والتي استفاق منها لمدة بسيطة قبل أن يرقد للأبد.
لقد كان فيتجنشتاين يدرك جيدًا في النصف الثاني من الكتاب أنه لا أمل في إكماله، وهو ما يظهر جليًا في تعليقاته بين شذرات الكتاب، فيقول في إحداها “هنا لا تزال هناك ثغرة كبيرة في تفكيري. وأشك فيما إذا كان سيتم ملؤها الآن”. في نص هذا الكتاب، يشعر المرء بأنه في حضرة رجل يفكر لنفسه حقًا، رجل مستغرق تمامًا في بحث فلسفي حر، رجل في صراع فكري مع نفسه. فيكتب معلقًا على شذرة آخرى “إنّي أمارس الفلسفة الآن مثل امرأة عجوز، دائمًا ما تضيّع شيئًا ما وتضطرّ للبحث عنه مجددًا: حينًا نظاراتها، وحينًا آخر مفاتيحها”. لكن الروح التي عاش بها طوال حياته كانت تجعله “يفضل أن يسقط ميتًا من المجهود على أن يموت متذمرًا متألمًا”.
الحقيقة كألم معرفي
يمكن القول إن دافع فيتجنشتاين الفلسفي لطالما كان هو “ألمه أنه لا يعرف” بتعبير راسل. وهو ما وصفه كارناب أيضًا بقوله: “كنا نشعر دائمًا بالصراع الداخلي لديه عندما يبدأ في صياغة رأيه حول بعض المشاكل المحددة. صراع يحاول من خلاله اختراق الظلام للوصول إلى النور تحت ضغط شديد ومؤلم، وهو ما كان يبدو مرئيًا بوضوح على وجهه، وعندما تأتي الإجابة منه، أخيرًا وبعد جهد شاق لفترات طويلة، كانت تأتي وكأننا نقف أمام قطعة فنية تم إنشاؤها حديثًا أو وحي إلهي”. فما يتوق إليه الفيلسوف، كما يقول فيتجنشتاين، هو “أن تسكن أفكاره في سلام” . فقد كان يدرك جيدًا أن المرء “لن يستطيع أن يفكر بحق إذا لم يكن مستعدًا لأن يؤذى نفسه في سبيل الحقيقة”. لكن الحقيقة باهظة الثمن، “فإذا أمكننا أن نضع لكل فكرة سعرًا، سنجد أن بعضها رخيص، وبعضها باهظ الثمن.
لكن كيف ندفع ثمن الأفكار؟ أعتقد: بالتحلي بالشجاعة” ، فطريق الفيلسوف يفرض عليه “أن يهبط إلى مستقر الفوضى القديمة، وأن يشعر بأنه في منزله” . وبالنسبة له لم يكن هناك حل آخر، فيقول “أدعو الله أن أصير أكثر ذكاء وأن يصير كل شيء أكثر وضوحًا بالنسبة لي أو أن أموت” . لهذا كتبت جامعة كامبريدج على اللوح الحجري التذكاري المخصص له “كانت هناك نزاهة فريدة النوع في تفانيه في السعي وراء الحقيقة”. حتى أنه في أوقات كثيرة كان يظن أنه سيصاب بالجنون، “وكأن [عقله] لوح زجاجي يحمل ثقلًا عظيمًا، فيوشك أن ينكسر في أي لحظة”.
نرشح لك: العقلانية والدين عند كانط
ولأن كل معرفة لابد وأن تبدأ بمقدمة أولى لا يمكن تبريرها معرفيًا حتى لا تستمر سلسلة التبرير إلى ما لا نهاية، فقد ترك عدم تبرير البدايات فيتجنشتاين في حالة دهشة، سواء أكانت البدايات أنطولوجية أو إبستمولوجية، فيقول “بالنسبة للإنسان، فإن ما هو سرمدي، وما هو مهم، غالبًا ما يختفي وراء حجاب لا يمكن اختراقه. فرغم أن المرء يعلم أنه يوجد شيء ما هناك، إلا أنه لا يستطيع رؤيته؛ فذلك الحجاب يعكس ضوء النهار” .
ولما كان الدين هو سردية للبدايات قبل كل شيء، فكان فيتجنشتاين يقول “أنا لست رجلًا متدينًا، لكن لا يمكنني منع نفسي من رؤية كل مشكلة من وجهة نظر دينية” ، بمعنى أن “المرء ينسى دائمًا أن ينزل إلى الأسس. فلا يضع علامة الاستفهام بالعمق الكافي” . فنجده في أحد شذرات كتابه الأخيرة يعبر عن رحلته الفلسفية بأكملها، فيقول “من الصعب للغاية أن تجد البداية. أو من الأفضل القول: إنه من الصعب أن تبدأ من البداية. وألا تحاول المضي أبعد من ذلك إلى الوراء” . فرغم أن دراسته الجامعية كانت في مجال هندسة الطيران، إلا أنه لم يكن مهتمًا بالأسئلة العلمية، فيقول: “بالنسبة لي، إن الوضوح هو الغاية في حد ذاتها. فأنا لست مهتمًا بتشييد مبنى معين، ولكني مهتم بأن تكون أسس المباني الممكنة واضحة أمامي. لذلك فإن هدفي مختلف عن أهداف العلماء، كما أن حركة أفكاري تختلف عنهم أيضًا”.
منطق البدايات
ولقد كان المنطق دائمًا هو نقطة البداية بالنسبة له التي ظل يعود بها دومًا. فنجده في مذكراته الخاصة، يقول “إن مجرد القدرة على أن أكون وحدي مع المنطق يعطيني شعورًا بالسعادة. فهو وحده لديه القدرة على إيوائي، وكأنني في منزلي، وهذا ما يتوق إليه قلبي” . وهو ما يظهر في أولى أطروحاته والمتعلقة بإجابة سؤال عدم القدرة على تبرير ضرورة المنطق المطلقة وكأن كل قضاياه هي في الأساس قضية واحدة تحصيل حاصل، صحيحة دائمًا، ولقد كانت هذه الإجابة أول جملة فلسفية خطها في مفكرته الخاصة عام 1914 “إن المنطق كفيل بنفسه” ، قبل أن تظهر أطروحته في صورتها الكاملة في كتابه الأول “رسالة منطقية فلسفية”، بأن ما يجعل المنطق بديهيًا هو استحالة التفكير غير المنطقي.
وبالتالي، لا يمكن أن تكون هناك مفاجآت في المنطق. مرورًا بمنطق الألعاب اللغوية في مرحلته المتأخرة، وأخيرًا في كتاب “عن اليقين”، حيث يقول في إحدى شذراته الأخيرة عام 1951: “يبدو أن كل شيء يذكرنا بالرسالة المنطقية الفلسفية … ألا أقترب أكثر فأكثر من القول إنه في نهاية المطاف لا يمكن للمنطق أن يوصف؟ يتعين عليك أن تنظر إلى ممارسة اللغة، ومن ثم سترى ذلك”.
قد يعجبك أيضًا: الحقيقة والمعنى-نظرة على أهم ثنائي في تاريخ الفلسفة التحليلية
فقضايا المنطق حاكمة للعقل وللعالم باعتبارها ضرورة، لأنه لا ضرورة سوى الضرورة المنطقية. فكل القضايا التي يمكن صياغتها هي قضايا تصف وقائع العالم، ومن ثم فهي واقعة بين حدي الضرورة المنطقية والتناقض المنطقي. ومن ثم فإن حدود العالم هي أيضًا حدود المنطق. وبما أن المعنى والقيمة لا يظهران في وقائع العالم الحادثة، فإن الأخلاق والجماليات والدين لا يمكن صياغتهم في صورة قضايا. ولهذا فهي تقع جميعها خارج العالم، وما يجعلها غير حادثة، أي الله، لا ينتمي إلى داخل العالم، وإلا فإنه سيكون حادثًا بدوره. هنا نشعر أنه حتى لو تمت الإجابة عن جميع الأسئلة العلمية الممكنة، فإن أسئلة الحياة الجوهرية ستظل بدون مساس. لكن بالطبع حينها لن تتبقى أي أسئلة، وهذا الأمر هو الإجابة في حد ذاتها.
إن اللغز لا يكمن في حال العالم، وإنما في وجوده من الأساس. فالشعور بالعالم ككل محدود هو الشعور الصوفي. الحقيقة أنه هناك أشياء لا يمكن التعبير عنها بكلمات، وهي تتجلى بوضوح. لكن ما يمكن إظهاره، لا يمكن الحديث عنه. وأي حديث عنه هو مجرد هراء. ومن ثم فإن ما لا يمكننا الحديث عنه، يجب أن نمر عليه في صمت. وهذا هو المغزي الصوفي لكتابه الأول “الرسالة”، وهو ما أوضحه لأحد أصدقائه قائلًا: “إن عملي في ذلك الكتاب ينقسم لقسمين، ما ذكرته في كتابي وما لم أذكره. ولكن الجزء المهم في عملي لم يكن ما ذكرته، وإنما ما لم أذكره”.
الصمت المندهش
ولقد كان الصمت الذي يعقب الدهشة هو جوهر الدين بالنسبة له، فيقول “إن التعبير الصحيح في اللغة لمعجزة وجود العالم ليس قضية لغوية على الإطلاق، وإنما هو وجود اللغة نفسها… وإن كون كل ما يمكننا قوله عن هذه المعجزة هراءً لهو جوهرها ذاته”. وفي إحدى محادثاته مع وضعيّي فيينا، شرح هذا القول باستفاضة: “يمكنني أن أفهم جيدًا ما عناه هايدجر عن الوجود والقلق. فالمرء يميل بطبيعته للاصطدام بحدود اللغة. فكّر، على سبيل المثال، في دهشة الإنسان أمام الوجود. لا يمكن التعبير عن هذه الدهشة في شكل سؤال [طبيعاني]، ولا توجد إجابة عليه أيضًا. فكل ما قد نقوله بخصوصه سيكون هراء بشكل حتمي. ومع ذلك فإننا نظل مصرين على الاصطدام بحدود اللغة.
كيركيجارد أيضًا رأى هذا الاصطدام، وأشار له بالمثل (الاصطدام بالتناقض). لكن الميل إلى الاصطدام يظهر شيئًا ما… فما يعنيه الناس عندما يقولون (هناك عالم) هو شيء محفوظ في صميم قلبي” . وبما أن الله هو مصدر المعنى والقيمة والوجود، فهو لا ينتمي لعالم الوقائع الطبيعية، ولهذا فإنه مصدر الدهشة، ولو لم يكن كذلك، يقول فيتجنشتاين، “إذا اعتبرت أن الله مجرد كيان آخر مثلي، خارج نفسي، لكن قوته بلا حدود فقط، فسأعتبر أن من واجبي أن أرفضه”. ولقد تحول هذا الصمت الواقع خارج حدود المنطق، إلى لعبة لغوية بلا قواعد في فلسفته المتأخرة، فيقول: “هناك طريقة ميتافيزيقية للرسم، حيث ترى اللوحات مع الأبدية كخلفيتها، إذا جاز القول. لكن حينها تكون ضربات الفرشاة بمثابة لغة كاملة، لغة بدون قواعد”.
الواجب الأخلاقي
لكن بالإضافة إلى ألمه المعرفي، كان هناك ألم روحي شديد نابع من محاسبته المتواصلة لنفسه على خطاياها. ففي أحد الملاحظات الأخيرة التي سجلها قبل وفاته بعدة أيام، يقول: “قد يقول الله لي: (أنا أحكم عليك من فمك. لقد ارتجفت مشمئزًا من أفعالك عندما رأيت الآخرين يفعلونها)” . ولهذا دائمًا ما اعتبر أن “الجحيم ليس هو الأخرين، وإنما هو نفسك”. ولقد كانت الخطيئة الأعظم بالنسبة له هي خطيئة الغرور، فقد كان يعتبرها “مصدر أعظم الشرور”، والتي كان يشعر بأنها تمنعه من أن يكون إنسانًا بحق، وكثيرًا ما كان هذا الألم يمنعه من استكمال عمله في الفلسفة والمنطق ويجبره على الانعزال، حتى أنه أرسل إلى راسل يقول له: “ربما تظن أن ما أفعله إضاعة للوقت، لكن كيف أكون فيلسوفًا ومنطقيًا قبل أن أكون إنسانًا؟”.
وقد ساعده في تلك الفترة كتاب “تنويعات التجربة الدينية” لويليام جيمس، لأنه وجد ضالته فيه، وتحديدًا في فقرة تقول: “بغض النظر عن أوجه الضعف التي قد يعاني منها المرء، إذا كان على استعداد للمخاطرة بالموت في سبيل الخدمة التي اختارها، ويصبح التأثير أشد إذا عانى منه بشكل بطولي، فإن هذه الواقعة تُعَظِّمه إلى الأبد… إن الغموض الميتافيزيقي الذي يعترف به الحس الجمعي السليم، والمتعلق بأن من يتغذى على الموت الذي يتغذى على البشر يمتلك حياة سامية جيدة، ويلبي أفضل المطالب السرية للكون، هو الحقيقة التي كان الزهد بطلها المُخْلِص… أعتقد أنه يجب الاعتراف بأن الزهد يستقيم مع الطريقة الأعمق للتعامل مع هِبَة الوجود”.
قد يعجبك: فتغنشتاين والحرب: تأثير الحرب على أفكار “الرسالة”
وهو ما دفعه للتطوع كجندي في الجيش النمساوي في الحرب العالمية الأولى، رغم أنه كان غير لائق صحيًا، وعلاوة على ذلك كان يتطوع لخوض المهام الخطيرة، حتى أنه قد تم تكريمه بعد الحرب بوسام السيوف للخدمة العسكرية. في مذكراته التي احتفظ بها فيتجنشتاين خلال الحرب، يقول عن أول مواجهة مع العدو: “الآن لدي الفرصة لأن أكون إنسانًا لائقًا، لأنني سأقف وجهًا لوجه مع الموت”.
لقد كان يمقت الغرور الفكري، سواء في نفسه أو في الآخرين. فقد قال ذات مرة لأحد أصدقائه: “إذا أخبرني أحدهم أنه ذهب إلى أسوأ الأماكن، فلا يحق لي أن أحكم عليه، لكن إذا أخبرني أن حكمته العظيمة هي التي مكنته من الذهاب إلى هناك، فأنا أعلم أنه مخادع… إن دوري هو إيقاف الفلاسفة السيئين” . حتى أنه هو نفسه لم يسلم من سيف نقده، فيقول في “التحقيقات” إن “كاتب الرسالة المنطقية الفلسفية مخطئ”، كما يكرر بصورة أوضح “لقد أُجبرت على الاعتراف بالأخطاء الجسيمة في ما كتبته في الكتاب الأول”. ولهذا لم يستطع أبدًا احتمال أولئك الذين لم يفكروا فلسفيًا بشكل مستمر مثله. وكان يحترم فقط الأشخاص أنقياءَ السريرة، وكان يعبر عن رأيه الصادق في من حوله بمنتهى النزاهة، وبعيدًا عن أي مجاملات اجتماعية. لكن شخصيته المعقدة وحِدَّتَه النارية الناقدة جعلته مكروهًا اجتماعيًا. فكان يعلم في قرارة نفسه دائمًا أن معظم من حوله هم من المعجبين به، والذي يحترمونه أكثر مما يحبونه.
المنهجية الفلسفية
وقد اجتمع هذا القيد الفلسفي الأخلاقي مع الدافع الفلسفي المعرفي، لتكوين المنهجية الفلسفية المميزة التي هي إرثه الحقيقي، أو الفلسفة باعتبارها نشاطًا علاجيًا. فقد كان يرى أن مشاكل الفكر نابعة من إغراء اللغة لغرورنا بأن ندعي وجود أطروحات كلية، ولهذا كان لزامًا على الفلسفة علاجنا من هذه الفتنة، من خلال أن يكون دورها أن نرى الواقع بكل حالاته الجزئية كما هي، فالهدف من الفلسفة هو “أن تُظهِر للذبابة طريق الخروج من مصيدة الذباب”، أي أن تحررها من قيود الأطروحة الكلية التي تختزل الإنسان والظواهر الإنسانية، متعددة الأوجه والجوانب، في نظرية واحدة أو مفهوم واحد.
فالاختزال إلى نموذج مبسَّط لا يؤدي إلا إلى وضوح وهمي خادع على صورة سجن مفاهيمي، “صورة تحتجزنا باعتبارنا أسرى”، أي سيؤدي إلى إغفال التفاصيل، والتشويه في نهاية المطاف، حيث سنُسقط من المشهد “عائلة معقدة للغاية من الحالات”، فنعمي أنفسنا عن الفروق الدقيقة والتعقيد باسم الدقة الزائفة والتعميم الشامل. فعلى سبيل المثال، إذا أحرقنا شخصًا حتى أصبح رمادًا، ثم وصفنا الرماد بأنه “كل حقيقته”، فإن “قول هذا قد يكون له سحر معين، ولكن سيكون مضللًا تمامًا”، لكن الحقيقة هي “يتطلب الأمر الكثير من الأنماط المختلفة لصنع العالَم”. وبهذا تكون مهمة الفلسفة هي “حل عقد تفكيرنا. وبالتالي يجب أن تكون نتيجتها في النهاية بسيطة، ولكن يجب أن تكون عملية الحل نفسها، أي الفلسفة، معقدة بقدر تعقد العقد”. ولهذا كان فيتجنشتاين يكرر دائمًا “كم هو صعب بالنسبة لي أن أرى ما هو ماثل أمام عيني”. فبالنسبة له، كانت الفلسفة تعيد بناء الإنسان؛ حيث “تعمل في المرء، وفي تصوراته، وفي كيفية رؤيته للأشياء”.
نرشح لك: فتغنشتاين: موقف من الإلحاد والإيمان
ولكن لأن هذه الرؤية التحليلية الجديدة للعالم لا يمكن تعليمها بشكل مباشر، كان كل ما يمكنه أن يقدمه هو طريقته الفلسفية التي تطورت من حواراته المستمرة مع نفسه. كانت محاضراته بمثابة دعوة لتلاميذه لمشاركته في عملية التفكير. وقد انعكست طريقته في التفكير على أسلوبه الكتابي، فيقول في مقدمة “الرسالة المنطقية الفلسفية”: “أظن أنه لن يفهم هذا الكتاب إلا من سبق وأن طرأت له نفس الأفكار الواردة فيه أو على الأقل أفكار شبيهة بها. ولذا فهو ليس كتابًا مدرسيًا”. أما بالنسبة إلى الكتاب الثاني “التحقيقات”، والذي خرجت من بين صفحاته معظم اتجاهات الفلسفة التحليلية في النصف الثاني من القرن العشرين وربما حتى الآن، فلم ينشر إلا بعد وفاته وفق رغبته في ألا يُنشر وهو حي، فقد اكتفى عند كتابته بأن يجمع أفكار مرحلته المتأخرة، ويشرح أفكاره لتلاميذه وأصدقائه بغرض النقاش فقط. ويرى المرء بوضوح عبر صفحاته أن فيتجنشتاين يتحدث إلى نفسه؛ أو أن هناك حوارًا دائرًا بينه وبين محاورٍ مثالي.
لهذا يقول “أتمنى ألا توفر كتاباتي على الآخرين عناء التفكير. ولكن أود، إن أمكن ذلك، أن تثير في الآخرين أفكارهم الخاصة”. وتظهر تلك النزعة في أوضح تجلياتها في كتاب “عن اليقين”، حيث يقول في تعليق له على أحد الشذرات: “أعتقد أن ما قد يثير اهتمام الفيلسوف، من باستطاعته التفكير بنفسه، لقراءة ملاحظاتي، أنه حتى وإن كنت لم أتمكن من إصابة الهدف إلا نادرًا، فإنه سيدرك ما هي الأهداف التي كنت أحاول إصابتها بلا هوادة” . فهو لم يكن ينتظر أبدًا أن يقنع قُرَّاءه بنتائجه باعتبارها نهاية لعملية التفكير، لكن كان يتوقع أن يقنعهم بطريقته التحليلية في التفكير الفلسفي.
الحياة الرائعة
في بعض اللحظات النادرة التي يهدأ فيها عقله، كان يظهر جانبًا شعريًا في رؤيته للعالم، فعلى سبيل المثال، قال لأحد أصدقائه في ليلة لا يضيئها سوى القمر، “إذا تُرِك لي تخطيط العالم، لم أكن لأخلق الشمس أبدًا” . وفي ليلة أخرى، عندما بزغ الفجر، صمت طويلًا ثم قال، “أتمنى أن يظل النور هكذا للأبد” . لقد كان يعشق صمت العالم من حوله، لأنه لم يصمت جوانيًا أبدًا، “ففي حين يحب الآخرون سماع أنفسهم وهم يتحدثون، كان هو يحب سماع نفسه وهو يكتب”. ويمكننا القول أن لا أحد عرفه على حقيقته، وربما ولا حتى هو نفسه، فقد كتب في مذكراته الخاصة ” هذه هي حالة معرفتي بالذات: عندما تخفى الأحجبة ذاتي، فإني أرى تلك الأحجبة بوضوح. ولكن إذا خلعتها كلها بحيث أتكمن من رؤية ذاتي، فإن صورتي تصبح ضبابية وغير واضحة على الإطلاق”.
لقد كان فيتجنشتاين شخصية شديدة التعقيد، حتى أن أصدقائه المقربين لم يفهموا مغزى جملته الأخيرة عندما قال لزوجة الطبيب التي كانت تعتني به في لحظاته الأخيرة “أخبريهم أني قد عشت حياة رائعة”، لأنهم لطالما اعتقدوا أن حياته كانت حزينة بائسة. لكن ربما يكون ألم فيتجنشتاين الذي اعتبروه حزنًا، لم يكن سوى مبرر رؤيته لحياته على أنها رائعة. لكننا، في ضوء ما سبق، قد نفهم تلك العبارة. لقد كانت حياته رائعة لأنه أمضاها في مطاردة البدايات التي أثارت دهشته بشكل مطلق، وبما أن “الفلسفة هي الشيء الوحيد الذي يشعره بالإشباع بحق”، فإن حياته هي خير حياة يمكن أن يمتلكها فيلسوفٌ مثله. وبما أن “خوف المرء وهو يقف في مواجهة الموت هو أوضح علامة على أن حياته سيئة وزائفة” ، فإن حياته التي كانت على العكس من ذلك، جعلته يلاقي الموت كما يلاقي المرء صديقًا طال انتظاره، الصديق الذي قد يحمل وحدَهُ الإجابة اليقينية.
المراجع: Ludwig Wittgenstein - A Memoir, Norman Malcolm, (Clarendon Press, Oxford, 2001), p. 131 On Certainty, Ludwig Wittgenstein, #470 On Certainty, Ludwig Wittgenstein, #532 Ludwig Wittgenstein - Public and Private Occasions, (Rowman & Littlefield Publishers, 2003), p. 129 Bertrand Russell, Ronald Clark, (Penguin, London, 1975), p. 211. Culture and Value, Ludwig Wittgenstein, (Blackwell, Oxford, 1998), p. 50 Culture and Value, Ludwig Wittgenstein, p. 60 Culture and Value, Ludwig Wittgenstein, p. 74 Wittgenstein in Cambridge: Letters and Documents 1911 – 1951, Brian McGuinness, (Blackwell, 2012), p. 61 Ludwig Wittgenstein - Public and Private Occasions, p. 151 Culture and Value, Ludwig Wittgenstein, p. 92 Recollections of Wittgenstein, Rush Rhees, (Oxford University Press, Oxford, 1984), p. 79 Culture and Value, Ludwig Wittgenstein, p. 71 On Certainty, Ludwig Wittgenstein, #471 Culture and Value, Ludwig Wittgenstein, p. 9 Ludwig Wittgenstein - Public and Private Occasions, p. 59 Wittgenstein, Notebooks 1914-1916, (Blackwell, Oxford, 1998), p. 2 Ludwig Wittgenstein, Tractatus Logico-Philosophicus, 6.41 - 7 Ludwig Wittgenstein, Lecture on Ethics Wittgenstein and the Vienna Circle: Conversations, Friedrich Waismann, (Harper and Row, 1979), p.68, 118. Recollections of Wittgenstein, Rush Rhees, p. 108 Culture and Value, Ludwig Wittgenstein, p. 85 Culture and Value, Ludwig Wittgenstein, p. 99 Recollections of Wittgenstein, Rush Rhees, p. 77 Recollections of Wittgenstein, Rush Rhees, p. 112 "تنويعات التجربة الدينية" - ترجمة تصدر قريبًا عن مركز نهوض للدراسات والنشر. Recollections of Wittgenstein, Rush Rhees, p. 194 Ludwig Wittgenstein, Philosophical Investigations, #309 Ludwig Wittgenstein, Zettel, #452 Culture and Value, Ludwig Wittgenstein, p. 24 On Certainty, Ludwig Wittgenstein, #387 Wittgenstein: Conversations 1949-1951, O. K. Bouwsma, (Hackett, 1986), p. 12 Recollections of Wittgenstein, Rush Rhees, p. 131 Ludwig Wittgenstein - Public and Private Occasions, p. 99 Wittgenstein, Notebooks 1914-1916, p. 75