الأسس الابستمولوجية لمنهج ابن تيمية اللغوي 3
انكاره للمجاز (3-3).
في البداية يمكنك قراءة الجزئين الأول من هنا والثاني من هنا.
بعيدًا عن أكثر النظرات السطحية لخصومه والتي تدَّعي أنَّ في إنكار ابن تيمية للمجاز غرضًا تحكميًا، فإنه يظهر للمتأمِّل في إنكاره لوقوع المجاز في القرآن واللغة تطبيقًا صريحًا وعميقًا لمنهجه الابستمولوجي واللساني.
يرى ابن تيمية أنَّ المجاز ليس استعمالًا بالإجازة المؤقتة التي تسوغها القرينة كما يراها الجمهور، بل هو استعمال مشروع متأصِّل مثله في ذلك مثل الحقيقة، وليست تسمية اللفظ بالحقيقي بأوْلى في الاستعمال، بل هما متساويان في أحقيَّة اللفظ الدال عليهما، كما أنَّ جناح الطائر وجناح الذل تنوعان مختلفان للجناح (المطلق) الذي له وجود ذهني وليس له وجود فعلي؛ أي أنه مثلما يدل اللفظ المشكك أبيض – في السياق المناسب – على بياض الثلج وبياض اللبن، ويشير اللفظ المتواطئ الرجل إلى زيد وعمر بالتساوي، وكذلك الجناح لفظ عام يشمل جناح الطائر وجناح الإنسان وجناح الذل ونحو ذلك؛ وذلك لأنَّ الألفاظ لم توضع بمعزلٍ عن المقامات التخاطبية حتى يقال إنَّ كلمة الجناح تعني جناح الطائر على سبيل الحقيقة مثلا وقد أوضح ابن تيمية ذلك بقوله: “لا ريب أنَّ الذل ليس له جناح مثل جناح الطائر كما أنَّه ليس للطائر جناح مثل أجنحة الملائكة، ولا جناح الذل مثل جناح السفر لكنَّ جناح الإنسان جانبه كما أنَّ جناح الطير جانبه، والولد مأمور بأنْ يخفض جانبه لأبويه ويكون ذلك على وجه الذل لهما لا على وجه الخفض الذي لا ذل معه” (1).
تحدى ابن تيمية خصومه أنصار نظرية المجاز بأن يقدِّموا أيَّ دليل نميز به بين ما يسمونه الحقيقة والمجاز وهذه ردوده على تعريفاتهم (2):
1- يقولون: إنَّ الحقيقة تفيد معناها دون الحاجة إلى القرائن، وأمّا المجاز فيحتاج إلى القرائن. وقد كان رده على هذا المعيار واضحًا انطلاقًا من نظريَّته في الاستعمال التي تقضي بأنَّ اللفظ لا يستعمل إلّا مقيدًا إمّا بقرائن لفظية أو حالية، ومنها كلمة الرأس التي يرى أنصار المجاز أنَّها حقيقة في رأس الإنسان ومجاز في غيره، وجوابه عن هذا الادِّعاء أنَّ لفظ الرأس لا يأتي في أيِّ مقامٍ تخاطبي مجردًا عن القيود، لأنَّ المتكلِّمين إمّا أن يتحدثوا عن رأس الإنسان أو يتحدثوا عن رأس الدرب لأوله أو رأس القوم لسيِّدهم.
يقول أ.أ.ريتشاردز في كتابه فلسفة البلاغة: “السبب الرئيس في سوء الفهم كما سنرى هو خرافة المعنى الخاص Proper Meaning ،Superstition أي ذلك الاعتقاد الشائع -الذي تغذِّيه الكتب المدرسيَّة المتخلفة- بأنَّ للكلمة معنى ثابتًا محدَّدًا (هو مثاليًا معنى واحد) مستقلًا عن شروط استعماله، بل إنَّه يتحكَّم في الاستعمال وفي السبب الذي يجب أن يقال من أجله، وهذه الخرافة إنَّما هي إقرار بنوعٍ من الثبات في معاني بعض الكلمات ولا تكون خرافة إلا حين تنسی (وهذا ما تفعله دائمًا). إنَّ ثبات معنى الكلمة ينشأ عن استقرار السياقات التي تضفي عليها معناها فالثبات في معنی الكلمات ليس شيئًا يجب افتراضه بل شيئًا يجب تفسيره دائمًا، وحين نجرِّب تفسيرًا معيَّنًا فإنَّنا نكتشف بالطبع أنَّ هناك أصنافٌ عديدة من الثبات طالما أنَّ هناك أصنافٌ متعدِّدة من السياقات المستقرة” (3).
٢- يقولون: إنّ المعنى الحقيقي متبادرٌ إلى الذهن في حين أنّ المعنى المجازي غير متبادر،
فعندما يطلق لفظ الجناح فإنّ المتبادر هو جناح الطائر وليس جناح الذل مثلًا، والجواب أنّ التبادر ليس مقصورًا على الحقيقة إزاء المجاز لأنَّ بعض الحقائق تتفاوت في تبادرها أيضًا، فعندما تقول أكلتُ بيضتين مثلًا؛ فالمتبادر هو أنَّ المقصود بيضتا دجاج مع أنَّ لفظ البيض يطلق حقيقة على بيض النمل والنعام والبط ونحوها، وهي معانٍ غير متبادرة وإنَّما بادر لأنَّ ذكره أكثر في هذا والسِّياق عليه أدل.
3- يقولون: إنّ المجاز يصح نفيه دون الوقوع في تناقضٍ خلافًا للمعنى الحقيقي، كأن يقال في نحو رأيتُ أسدًا يخطب على المنبر والأسد لا يخطب على المنبر، في حين لا يجوز هذا النفي في الإنسان، والجواب عنده أنَّ جواز النفي من عدمه مرتبطٌ بمعرفتنا السابقة بأنَّ اللفظ من قبيل الحقيقة أو المجاز، فإنْ كنَّا نعتقد أنَّ اللفظ حقيقة فلا نقبل نفيه وإن كنَّا نعتقد أنَّه مجاز قبلنا وهذا دور.
4- يقولون: إنَّ الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له والمجاز هو المستعمل في غير ما وضع له، وجواب ابن تيمية على ذلك أنَّ هذا يحتاج إلى إثبات الوضع السابق على الاستعمال وهذا يتعذَّر، ومقصوده بذلك أنَّه من المتعذر تاريخيًّا في غياب المصادر أنْ نثبت هذا الوضع. وفي هذا يقول د.إبراهيم أنيس في كتابه دلالة الألفاظ: “وأبرز نواحي الضَّعف في علاج القدماء للحقيقة والمجاز أنَّهم وجهوا كل عنايتهم إلى نقطة البدء في الدلالة، وركَّزوا نظرتهم نحو نشأتها، فتصوروا ما سموه بالوضع الأول، وتحدَّثوا عن الوضع الأصلي كأنَّما قد تمَّ هذا الوضع في زمنٍ متعيِّنٍ وفي عصرٍ خاصٍّ من عصور التاريخ، ولم يدركوا أنَّ حديثهم عن نشأة الدلالات ليس في الحقيقة إلّا خوضًا في النشأة اللغوية للإنسان؛ تلك التي أصبحت من مباحث ما وراء الطبيعة، والتي هجرها اللغويون المحدثون بعد أن يئسوا من إمكان الوصول في شأنها إلى رأي علی مرجع، وأصبحوا الآن يقنعون ببحث اللغة وتطورها في العصور التاريخيَّة التي خلَّفت لنا آثار لغوية مدونة أو منقوشة” (4).
بل ادَّعى غيرهم أسبقيَّة المعاني المجازية، ولعل رأيهم أقرب للصواب. يقول د.لطفي بديع في كتابه التركيب اللغوي للأدب: “واللغة في أصل الوضع لا تنفصل عن اعتقاد الإنسان في الأشياء، وهو اعتقادٌ أسطوري الغلبة فيه للمجاز لا للحقيقة، ومن ثم كان المجاز أسبق من الحقيقة والصفة الأسطوريَّة للتراكيب اللغوية والمفردات اللفظية من المسلمات التي يعوِّل عليها العلم الحديث في أصل اللغة، وفي ذلك يقول هردر: “ولم يكن عجبًا والطبيعة تدوي أن تكون في نظر الإنسان الحسَّاس حية تتكلم وتعمل فالإنسان المتوحش ينظر إلى شجرةٍ عظيمةٍ لها تاج كبير ثم يتعجب قائلًا: التاج يزمجر! الآلهة غاضبة، ويجثو على ركبتيه ويصلي! وهذا تاريخ الإنسان الحسَّاس” (5).
سلم اللغويون والفلاسفة عامةً منذ أرسطو حتى الآن بالتفريق التقليدي بين المعنى الحرفي والمعنى المجازي، بيد أنَّه في الحقبة الأخيرة هناك نزعة نامية عند البراغماتيين وفلاسفة اللغة والباحثين في الذكاء الاصطناعي نحو التشكيك إمّا كليًّا أو جزئيًّا، في هذا التفريق فسبيربر Sperber وویلسون Wilson مثلًا يصرِّحان: بأنَّه “من الممكن أنَّه قد قدر لفكرة الاستخدام المجازي tropes بأكملها، وكذلك تصنيفها أن تذهب بالطريقة نفسها التي سلكتها فكرة السوائل الفاعلة humors في الطِّب … وهي الاعتقاد بوجود أربعة أنواع من السوائل الأساسيَّة تحدِّد حالة الشخص العضوية والنفسية … وبقطع النظر عن وجود التجاهل ثمة أُسس قوية لرفض فكرة المعنى المجازي” (6).
المراجع: (1) مجموع الفتاوي، ابن تيمية، ج20 ص465. (2) علم التخاطب الاسلامى دراسة لسانية لمناهج علماء الأصول فى فهم النص، د.محمد محمد يونس على، ص151 وبعدها. (3) كتاب فلسفة البلاغة، تأليف أ.أ.ريتشاردز ص20، ترجمة سعيد الغانمى و د.ناصر حلاوي، دار افريقيا الشرق. (4) كتاب دلالة الألفاظ، د.ابراهيم أنيس، ص128، مكتبة الأنجلوالمصرية. (5) كتاب التركيب اللغوي للأدب (بحث فى فلسفة اللغة والاستطيقا)، د.لطفي عبدالبديع، ص37 و38، دار المريخ للنشر. (6) علم التخاطب الإسلامي دراسة لسانية لمناهج علماء الأصول فى فهم النص، د.محمد محمد يونس على، ص147 وبعدها.