مرض الزعامة !

كان “ألفريد ملنر” (وزير المستعمرات البريطانى ورئيس لجنة التحقيق فى أحداث ثورة 1919) يتريض على النيل حين وجد نفسه على أطراف حقل زراعى وشاهد فلاحا يسقى زرعه فخطر له أن يتجاذب أطراف الحديث معه فإقترب منه وسأله :”هل ماترويه قمحا أم شعيرا؟” فأجاب الفلاح (وكانت مصر كلها تقاطع لجنة التحقيق لتجاهلها الوفد كمفاوض) :”إسأل سعد باشا”.
ربما لن يأتى على مصر (أو أى دولة عربية) زمن تشهد فيه قيام حزب سياسى كحزب الوفد القديم الذى تأسس عام 1918 مع نهايات الحرب العالمية الأولى من حيث ظروف نشأته وطريقة تكوينه كمعبر عن أحلام الشعب المصري فى الحرية والإستقلال وبناء دولة عصرية حديثة.
على أن أكثر ماتميز به حزب الوفد هو أنه كان حزب الطبقة الوسطى والمعبر عنها، صحيح أن كبار الملاك الزراعيين كانوا من الداعمين له ويمولون خزنته بإستمرار إلا أنهم ظلوا فى المقاعد الخلفية طول الوقت وتركوا القيادة لرجال وشباب مثقف كان التعليم – كما يجب أن يكون دوما – طريقهم للصعود الإجتماعى والسياسى.
ولعلنا نلاحظ أن بداية السقوط الجماهيرى والسياسى والتنظيمى لحزب الوفد القديم لم يأت إلا مع سيطرة كبار الملاك والإقطاعيين عليه أواسط الأربعينيات بتولى “فؤاد سراج” (باشا) السكرتارية العامة خلفا ل “مكرم عبيد” فهذا كان – كما يقول الأستاذ “هيكل” – فى فكر وأسلوب الحزب العريق أخذه من مكانه ومكانته فى الشارع بكل حيويته وصخبه إلى منطق التسويات السياسية الملتوية والصفقات المريبة…وربما أيضا المؤامرات الخفية! (وتلك قصة أخرى طويلة).
ثم كان العامل الأكبر والأخطر – عند قيام الحزب – هى زعامة “سعد زغلول” الأسطورية التى وصلت لحدود “عبادة الفرد”، فلم يحدث أن نال سياسى فى العصر الحديث هذه الشعبية الطاغية (إلا جمال عبدالناصر فيما بعد وهذه أيضا قصة أخرى مختلفة) التى جعلت الشعب المصرى يرفض أية محاولات يقوم بها سياسيون أخرون للتفاوض مع المحتل الإنجليزى على الإستقلال، بل وخرجت لتهتف أن ” الإحتلال على يد سعد (زغلول) أفضل من الإستقلال على يد عدلى (يكن)”!
إعلان
وكانت هذه الشعبية وتلك الثقة المطلقة هى التى دعت سعد باشا أن يكون قادرا على طرد كل من يخالفه الرأى من الوفد دون أن يتردد أو يخاف فالجميع كانوا – فى تصور سعد زغلول والشعب المصرى كله – مجرد “مساعدين” للزعيم ومنفذين لأوامره دون نقاش، وأما إذا حاول أحدهم طرح رؤى أو تصورات أخرى فإن مصيره الخروج من “رحمة الباشا” مستحقا غضبه ولعنته لنهاية عمره بغض النظر عن وجاهة ما يعرضه أو أهميته!
حدث ذلك مع “عدلى يكن” الذى كان متحمسا لثورة 1919 ودور الوفد فى الحياة السياسية، ومع “إسماعيل صدقى” الذى كان من أوائل المنضمين للوفد وضمن من تم نفيهم مع “سعد” فى المرة الأولى، وكذلك مع “على شعراوى” و”حمد الباسل” وهم من تشكلت منهم النواة الأولى لما عرف بعد ذلك بحزب الوفد وقادته المؤسسين.
يقول “سعد زغلول” فى مذكراته (وكما ينقل الأستاذ عمرو سمير طلعت عنه فى كتابه “سعديون أم عدليون”) أنه لديه ” ميل للإحتداد على من يخالفنى الرأى”، وهى جملة كاشفة ومعبرة عن طباع الرجل الذى يقر – بكل بساطة ! – أنه لايقبل الرأى الأخر مهما كان ومهما كان قائله، ولعل ذلك نوع من أنواع “أمراض الزعامة ” التى تصيب البعض عندما يرى جماهيريته وشعبيته بين الناس، وهو نموذج لا يتفرد به “سعد” (باشا) بمفرده لأنه نموذج متكرر بإستمرار، وقد تكون ” الزعامة ” مطلوبة فى فترة من فترات التاريخ فى حياة الشعوب لكن أضرارها تصبح كارثية لو أصبحت حالة مستمرة فى حياة تلك الشعوب !
في حالة أعجبك المقال، ربما ستعجبك مقالات أخرى، نرشح لك
نظرة في كتاب مذكرات حرب أكتوبر للفريق سعد الدين الشاذلي
إعلان