ليونورا كارنجتون وثورتها السوريالية (مترجم)
لطالما وُصفت رواية “المسماع البوقي” لكاتبتها: “ليونورا كارنجتون” على أنها من الأدب السريالي، ولا يخفى على متبصر وضوح العلّة. فالرواية تسردُ قصة امرأة عجوز جاوزت التسعين بعامين؛ تدعى “ماريان”، والتي نفاها أهلها إلى مؤسسة مشئومة لرعاية النساء العجائز. وعليه، تبدو الرواية وكأنها امتدادٌ معكوسٌ لمغامرات أليس في بلاد العجائب، بما تحمله من ثيمات عجائبية؛ مثل البيوت المصممة على شكل كعكات عيد الميلاد، وحلوى البراونيز المسمومة، والقيامة المتخيلة، والكأس المقدس. والرواية تهدف فيما تهدف إلى تفكيك الصور المجازية الرجعية للنساء في الخطاب السريالي، ومنها مقولاتهم حول طفلنة المرأة: “femme enfant/المرأة-الطفلة”. وعلى عكس المنحى النسوي التقليدي، الذي يتصور سيادة مطلقة للمرأة في يوتوبيا نسوية، فإن الرواية تخلق عالمًا محايدًا جنسانيًا؛ مجسدةً بذلك أنموذجًا سرياليًا غير معهود.
النيوما”Pneuma:
النيوما: كلمةٌ محايدةٌ في اليونانية تعني الروح. ونجد أن التصوراتِ الخيميائية قد استخدمتْ المفهوم في شرح عمليات تحويل المعادن إلى ذهب، وكذلك التصور الخاص بطبيعة كلية لإلهٍ؛ تشمل المذكر والمؤنث. وعن امتثال الرسم السريالي لذلك المفهوم؛ تخبرنا “هيلين بيات” في تقديمها لرواية “المسماع البوقي” أنه: “أعذب وسيلة للمزاوجة بين المتضادات، واجتلاء مكامن الدهشة”. دائمًا ما أظهر رجالات الفن السوريالي في لوحاتهم تصورًا مجازيًا عن المرأة؛ يحدها في إطار الفتنة والجمال الشرس الأخّاذ، كأنهن ربّات الإلهام. وعلى الرغم من تبعيّتهن وقصورهن، فإن المرأة/الطفلة، وحدها القادرة على سبر أغوار الغرائبيّ، بما تحصلت عليه من قوىً حيوانية شفيفة. ولفترة من الزمن نجد أن “ليونورا كارنجتون” نفسها قد جسدت موضوعة الإلهام تلك في العديد من لوحات خليلها السابق “ماكس إرنست”. نستشف مما سبق، أن واقع اختيار “كارنجتون” لبطلة قصتها يعدّ تقويضًا لتلك المجازية. فـ”ماريان” امرأة هرمة تآكل بنيان جسدها. فمُها خالٍ من الأسنان؛ كانت تنعت جسدها بالجثّة الهرمة. وقُبيل نفيِها إلى دار العجائز، أطلق عليها حفيدُها لقب “مسخ قلعة جلاميس” وقال:
“الجدة تُصنّف بالكاد ضمن الكائنات البشرية، وهي لا تعدو كونَها كيسًا متهدلًا من اللحم المتفسخ”
في منشأة “سانتا بريجيدا” تنكشف من الوهلة الأولى، السّماتُ المشتركة التي تتقاسمها النسوة القاطنات بالمنشأة، والتي تعدّ النموذج الأصيل لثيمة “المرأة المتوحشة” في الأدب النسوي الحديث. وتتكرر صورٌ مختلفة لتشبيههن بالحيوانات؛ كما نجدها على وجه الخصوص في صورٍ كـ”القطة الماكرة” و”الأفعى التوراتية”. ومن زاوية إلى أخرى، نجد غالبيتهن متهكّماتٍ ذوات طبيعة مارقة، وحشياتٍ في تصرفهن، وتتربع على عرش الوحشية: جورجينا وهي من أبرز شخوص الرواية، إذ تلقّب أحيانًا بـ” الأفعى” و “مهووسة بالجنس”، إثر إخبارها الدائم عن حدوث مضايقاتٍ جنسيةٍ في الدار. ولا يمكن اختزالُ نهج كارنجتون؛ في كونه انتفاضةً نمطيّةً جامحةً. فحتى مع تزويد بطلاتها بقدراتٍ خاصّةٍ وغرائزَ حيوانيةٍ احتذاءً بثيمات الأدب النسوي، قد منحتهم في المقابل هويةً خنثوية لافتة للنظر. فـ”ماريان” تنبتُ لها لحيه رمادية، والتي تمنحها مظهرًا أنيقًا، أما صديقتها المقربة “كارميلا” فهي صلعاء، وزميلة السكن “آن ويرتز” تعتاد ارتداء سترةٍ رجاليةٍ رسميةٍ، وكذلك ” كلود لا شيريل” التي قصّت شعرها مثلما يفعل الرجال.
يتضح مما سبق، أن الأندروجينية سمةٌ سائدةٌ. وعليه، فإن الخصم في هذه القصة لا يقتصر على موضوعة الذكورة، بل يمتدّ ليشمل الثنائية الجنسية. ونتبيّن توجُّهَ هذا المنظور النسوي هنا؛ في تصويره لنمطين من الأشرار، وهما السيدة جامبت وزوجها الطبييب النفساني. ونرى في وصف الطبيب جامبت؛ أنه أقربُ إلى نموذج الرجل المتسلط، يدير منشأة “سانتا بريجيدا” وكأنه يدير طائفةً دينيةً ناشئةً، لا يني جهدًا في إحكام سيطرته على دواخل النساء لضبطِ أفكارهنّ ومحْقِ هوياتِهنّ في سبيل استبطانهنّ الخالص للمسيحية. (كما قد أخبر ماريان: إن ظهورات الشخصية كمصاص دماء يواري الذات الحقيقة، والتي لن تتمرأى إلا بانمحاء تلك الظواهر).
أما السيدة “جامبت” فتجسّد النموذجَ الأصيل للأنثى المستظلّة بالعرش الأبوي، بعزمِها الدائم على تدبير المكائد، وتكلُّفِها في التبسم، ومعاودةِ الصداع الذي يطيل رقادَها، كما “تطبق سيطرتها على مداخل المطبخ ومخارجه”. مما يعدّ إيعازًا عن تورّطها في قتل إحدى المقيمات بحلوى البراونيز المسمومة. حتى إن “جورجينا” تلقبها بـ”أنثى جامبيت البغيضة”. ويتّضح إذًا، ما قام به الزوجان جامبيت من ممارسة لأدوار الهيمنة التي ضمّنها لهما سياقهما.
من حين لآخر؛ كانت تعاود “ماريان” خيالاتٌ ترى فيها نفسها وقد اكتست أنوثةً وجمالًا، كأيّ امرأةٍ نمطيّةٍ. لكنها سرعانَ ما تنحّيها جانبًا، في سبيل مواصلةِ اشتغالِها العقلي بقصة ” هانس كريستيان أندرسن” عن “ملكة الثلج”: وهي من القصص الخرافي، حين تقوم ملكة الثلج بخطف صبيٍّ صغيرٍ يدعى “كاي” من ثم تجبره على حلّ لغزٍ معضلٍ، لا يقرّ له قرار. تناجي “ماريان” نفسها وتقول: “الآن تنبهت إلى تلك المعضلة الرياضية التي اعترضت طريقي أنا الأخرى، ولقد ظللتُ أبحث طيلة هذا العمر عن حلها لكن دون جدوى.. حدسي ينذرني بوقوع كارثةٍ محقّقةٍ إنْ لم أسارع بإيجاد الحل، فكلّ ما تعلق به قلبي مهددٌ بالانمحاء والتحلُّل إن لم أعثرْ على إجابة لمعضلة ملكة الثلج. ويوضح المقطع السابق، كيف أن أندروجينيةَ ماريان وتفرّدَها يؤهّلانها لقيادة ثورةٍ نسويةٍ، فاستشعارُها وقوعَ كارثةٍ محققةٍ، وأنها وحدَها القادرةُ على التصدي لها؛ يضعها موضعَ الشخص المخلص والمنجي.إذ تفتدي الجميع بحلّها لتلك المعضلة. وعلى النقيض، قد أحسّتْ ماريان التقارب الذي يجمعها مع ملكة الثلج، والتي تنوب بدورها عن مجمع الإلاهات الوثنيات، واللاتي تردّد ذكرُهن إما صراحةً أو مواربةً على طول الرواية. مما يعَدّ قطيعةً فكريةً مع ما ينتهجه آلُ جاميت من قيمٍ أبويةٍ. وقرب نهاية خيالاتها الفنتازية، رأت رجلًا محقرًا للنساء يقتحم عليها خيالها؛ ويعقد مقارنةً بين نسختها المحبّبة عن نفسها وبين الساحرات الخنثويات:” أنصحك يا عزيزتي بترك النشاط الفلسفي، فهو لايلائمك بتاتًا، ويجعل أنفك أحمر اللون.
-بما أني أوقن أني جميلةٌ على أي حال، فلستُ أعبأ باحمرار أنفي، كما أجدُ شكلَه هو الآخرُ جميلًا.
-إنكِ خبلاءُ، مكئِبةٌ، ولو لم تكوني على قدرٍ عالٍ من الجمال لكنتُ تحجّرتُ مللًا من مجالستكِ.. يقولون: إن الساحراتِ يستعنَّ ببذور السرخس في شعوذاتهن.. وهن خَنثاوات.
–تقصد الساحرات؟
-لا بل السراخس”.
ونلاحظ هنا، أن النسخةَ النسويةَ المعتدلة من شخصية ماريان، قد لقيت قبولًا من الآخرين، لكن في داخلها كانت تعاني من التشوُّشِ والفراغِ وعدمِ التحقّق. على عكس نسخة ماريان الأندروجينية، التي نجدها أكثرَ وضوحًا وثورية، بما استبطنته من أنموذج سريالي وهو النيوما. وعلى مدار الرواية، نلحظ تماهي ماريان مع شخصيتين نسائيتين تقاسمتا الأندروجينية وهما:” رئيسة الدير ذات العيون الغامزة” و”ملكة النحل”. أما الأولى فليست إلا رسمًا في لوحة تحتفظ بها منشأة “سانتا بريجيدا” -تعَدّ إحالة على الرسم السريالي- والتي لُقبتْ بـ”العجوز الفاجرة” لتكتشف ماريان فيما بعد، أن سيدة الدير تلك كانت ساحرةً اعتادت التخفي في هيئة سيدٍ ملتحٍ وجمعتها علاقةٌ بأميرٍ مثلي.
أما “ملكة النحل” فهي شخصيةٌ أنثويةٌ كليةُ القدرة وثيقةُ الشبه بـرئيسة الدير ذات العيون الغامزة. والتي ترى النساء طيفها في هلوسة معممة أثناء ثورتهن. وكملكة النحل في عالم الحيوان، فإن ملكة النحل البشرية، تمثّل احتمالية قيام مجتمع أمومي تربطه أواصر إنتاجية وتعاونية. والنسوة الثلاث تنصهر هوياتُهن في عملية تحوّلٍ خيميائي، فعندما تحلّ نهاية العالم كما هي في الرواية؛ تتبدى لمريان صورة امراة بثلاثة أوجه، وتقول:”أحد الوجوه أسود، أما الثاني فأحمر، وآخرهم أبيض، ويرجعون بالتتابع لرئيسة الدير ذات العيون الغامزة، فملكة النحل، أما الأخير فوجهي”. وفي المعجم الصوري للخيمياء، فإن اللون الأسود يمثل المعدن في حالته الأصلية، أما الأبيض فيمثل المرحلةَ الوسيطة في تحوله إلى فضة، والأحمر هو الذي يعكس تحوله إلى الذهب الخالص. وبحسب تقسيمة “كارنجتون” فإن رئيسة الدير الآتيةَ من زمنٍ موغلٍ في القدم، هي الشرارة الأولى في تلك الصيرورة الخيميائية، وتخلُفها ماريان في مرحلة وسيطة، وآخرهم ملكة النحل التي تقف على برزخ بين الوجود والعدم. وحين تبلغ أحداث الرواية ذروتها، في اجتماع مريان والنسوة الأخريات على ما كلفْنَ به؛ وهو إيصال الكأسِ المقدسِ إلى الربة المختصة.
تتضح الرابطة بين الدين وبين الأندروجينية والثورة الطوباوية. إذا نجحن فإنهن بذلك يُطحن بمساعي العابدين “للإله الأبوي المنتقم”، مؤسسين بذلك لنظام مغاير “يجعل من العالم مكانًا تسوده المودّة والمحبّة”. وعندما قبلْنَ المهمّة؛ قالت لهن إحدى كاهنات الربة: “عسى ملكة النحل أن تملأ هذا الكأس بالنيوما”. ومسعى النسوة -كما الرواية نفسها- يشوب نهايتَه الغموض. إلا أن المعنى الكلّي جليّ الوضوح. فرواية” المسماع البوقي” تزعم بأن قيام العالم المثالي -سواءٌ أمْكن ذلك أم لا- لن يتحقق إلا بانتفاء الثنائية الجنسية كمعيار للمفاضلة.