لماذا يجب عليك أن تسعى إلى الجهل؟ (مترجم)
لطالما كان الجهل مصطلح مثقل بدلالات قاسية ولكن ماذا لو كان ذلك الجهل هو مفتاح الحكمة؟
إن وصفت شخصا بالجهل سيشعر بلا ريب بإهانة بالغة، حيث أن صفة الجهل تحمل في وجداننا الجمعي دلالات شديدة السلبية تجعلنا جميعا نرفض أن نوصف به، فنحن نفترض أن الجهل مرادف للغباء ونقص القدرات الشخصية ووصفنا به إهانة لقدراتنا المعرفية، ولكن العديد من عظماء المفكرين لا يرون الأمر كذلك.
ما هو الجهل؟
يعود أصل كلمة جهل إلى الكلمة اللاتينية (ignorantia) التي تشير ببساطة إلى حالة غياب المعرفة، ولكن حالة عدم المعرفة كانت محل إدانة ثقافية عبر العصور، حيث أن المعرفة مرادف للقوة ووسيلة للسيطرة وركيزة للاستقرار ونور الفهم، ولؤلؤة الحكمة، لذا فالنظرة السلبية إلى الجهل منطقية حيث أنه يعني حرماننا من كل هذه المزايا التي توفرها المعرفة، ولكن ربما خوفنا من فقدان المزايا التي تمنحها المعرفة لنا جعلنا نغفل عن المزايا التي يمنحنا الجهل إياها.
نعمة الوعاء الفارغ
في كتابه “تعلّم كيف تتعلّم” يروي لنا الكاتب الأفغاني إدريس شاه على لسان الشاعر الفارسي الحكيم سعدی شیرازی، قصة رجل ذهب لمعلم طالبًا أن يتتلمذ على يديه، ولكن المعلم لدهشته رفض أن يعلمه أي شيء قائلاً: «أنت تظن نفسك حكيمًا ولا يمكن وضع شيء في إناء ممتلىء!». وهنا تضع القصة أيدينا على مكمن المفارقة في العلاقة بين المعرفة والجهل، فما يعيق السعي نحو المعرفة هي المعرفة، وعندما نطرق باب المعرفة بالاستفسار، لا نستطيع الدخول دون التخلّي عن افتراضاتنا المسبقة أي نعترف بجهلنا ونتقبله، فنكون في حالة عدم المعرفة كالوعاء الفارغ مهيأ لأن يمتلىء بالمعرفة الجديدة فلا يمكننا اكتساب المعرفة إلّا عندما نكون في حالة من الجهل، ولكن إن تمسكنا بما نعرفه فلن نُحَصِّل معرفة جديدة وإنما سنعيد إنتاج ما نعرفه مسبقاَ.
بين المعرفة والجهل
رغم أن العلاقة بين الجهل والقدرة على تحصيل المعرفة الجديدة تبدو بديهية، فلا يمكنك اكتساب معرفة إلا فيما تجهله، إلا أننا كثيرا ما نغفل عن هذه الحقيقة الواضحة، حيث أننا نميل إلى إنكار جهلنا، ليس فقط لأننا نعتبر الجهل نقصًا شخصيًا، بل لأننا نعتبر الجهل نقطة ضعف.
فعندما نعتقد أننا نمتلك المعرفة يمنحنا ذلك الثقة في أنفسنا ويشعرنا بالأمان، ولكن على الجانب الآخر الاعتراف بالجهل يستلزم شجاعة لمواجهة الخوف المتجذر في نفوسنا من المجهول، فعندما نعترف بجهلنا فاننا نقفز إلى منطقة غامضة نواجه فيها ظلام الجهل حتى نصل إلى نور المعرفة، فالجهل هو ثمن المعرفة، لكن دفع هذا الثمن يتطلب شجاعة كبيرة.
كيف ندفع الثمن؟
في تعليقه على كتاب ”دي أنيما“ لأرسطو، كتب يوجين جيندلين أن التحدي الأكبر في فهم نص ما هو أن أفكارنا منظمة وموجّهة بالفعل من خلال العديد من الافتراضات المسبقة التي قد لا ندرك تأثيرها ولكنها تمثل عدسات نرى من خلالها الواقع، فتجعلنا نرى أفكار حتى الفلاسفة العظماء مثل أرسطو خاطئة أو غير منطقية لأننا نراها من خلال منظور انحيازنا.
ولهذا نعجز عن فهم العديد من الأعمال العظيمة حتى نتخلى عن افتراضتنا المعرفية المسبقة فتفتح لنا أبواب الفهم وتصبح النصوص التي استعصت على فهمنا واضحة بسيطة ومباشرة، لهذا فإذا أردنا الوصول إلى أي معرفة، يجب أن نكون على استعداد للتخلي عن كل ما نعتقد أننا نعرفه، ولا يعني هذا بالطبع أن نفقد ذاكرتنا وننسى هذه الافتراضات وإنما أن نتخلّى عن تعلّقنا بها كحقائق ثابتة.
الجهل هو علاج الجمود العقلي الذي يعيق سعينا وراء اكتساب المعرفة، أن نكون جاهلين هو أن نكون في حالة من الانفتاح والتقبل تسمح لنا بالمرونة العقلية اللازمة للتعلم، ومن المفارقات أن العيش من دون معرفة هو الموقف الصحيح الذي يجب أن نحافظ عليه كباحثين عن المعرفة، وهكذا نفهم الحكمة في مقولة سقراط الشهيرة: ”كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئًا“.