قراءة في المجموعة الشعريّة “لست وحيدًا ” للشّاعر السوريّ عارف حمزة
” لست وحيدًا ” هي المجموعة الشّعريّة الثَّامنة للشّاعر السوريّ عارف حمزة ،الصَّادرة عن دار سيسسيون بسويسرا 2018م، سريانٌ كالهذيانِ لذاكرةٍ تطلبُ النّسيان ولا تدركه، قصائد نثريّة “بولوفونيّة” متعدّدة الأصوات ،تُطِلّ بقوّة من سوريّا وتركيا وألمانيا ،تُطِلّ بوجوهٍ شبه مبقورة وأصوات معطوبة وصور كثيرة متنوّعة ،كواحدة ليست إلاّ محمولة على احتفاليّةٍ جنائزيّةٍ لم يحضر فيها إلاّ الشّاعر و ” أم عبدو” وألف داء في نداء من بعيد.
“لست وحيدًا” مجموعةٌ شعريّةٌ صدرت في اللّغتين العربيّة والألمانيّة ،من الحجم ِالمتوسّطِ، وتضمّنت أربعًا وسبعين قصيدةً متفاوتةَ الطُّولِ، وتخلّلت المجموعة عتباتٌ يحلو الوقوفُ عندها، في العتبات:
الغلاف: غلافٌ أخضرُ ناعمٌ كنباتِ البحرِ، واللَّون الأخضرُ باعثُ سعادةٍ وحياةٍ ،لذلك هو اللَّونُ المفضّلُ في غرفِ العمليّاتِ، ومنَ الطَّريفِ أن نذكرَ أنّ جسرَ الانتحاِر “بلاك فرايار” الرماديّ بلندن تمّ تغييرُ لونِهِ الأغبرِ إلى الأخضرِ ،فانخفضَ عددُ المنتحرين ،فلعلّ الأخضرَ استدعاءٌ للآخرِ للحياةِ فليس وحده فعلًا.
العنوان: “لست وحيدًا” جملةٌ اسميّةٌ منفيّةٌ ،الخبرُ فيها صفةٌ مشبّهةٌ تدلُّ على الثُّبوتِ من وَحُدَ ، و”فعيلًا” جرسٌ صوتيّ ثقيلٌ كانّه ينفي النَّفيّ ،كأنّنا لا نقرأُ إذْ نقرأ إلاّ “وحيدًا”.
التأريخ: كُتِبَت قصائدُ هذا الكتابِ في سوريا وتركيا وألمانيا بين 2013م و2017م، إحالة مرجعيّة على الزَّمان والمكان، وما توثيقُ المكانِ والزَّمان بالكتاب الشّعريّ إلاّ لتحقيقِ الوظيفةِ المرجعيّةِ والتَّوثيقيّةِ للخطابِ الشّعريّ.
التَّصدير: كنت أحبّ /أن تكونَ الحياةُ طويلةً/ مثل التِفَاتتك إليَّ ! مقطعٌ من صميمِ المجموعةِ ارتأه الشَّاعر تصديرًا، والعادةُ أنّ يُصدِّرَ الشُّعراء والكتّابُ عمومًا كُتبَهم بأقوالِ غيرهم، وذاك التَّصديرُ مفتاح الكونِ الدَّلاليّ للمتنِ إلاّ أنّ الشَّاعر “عارف حمزة” عَدَلَ عن هذهِ السُّنَّةِ؛ فهو عارفٌ بما يريدُ ،يصوغُ ما أرادَ في فرادةِ الواقِفِ على الغيابِ، يستدعي ما لم يكنْ، لعلّ ما كانَ بالفعلِ يمحوهُ زمانٌ ،فهل يأتي ذاك الزَّمانُ؟
القصائدُ: للقصائدِ عناوينٌ تؤمّها ،تقودُها إلى صوتِها وصورتِها ،وتشدُّها لوحدتِها وتجمعُ أحزانَها فتبكي خُلاَّنها وأقرانَها المفقودين من البشر والحجر والبحر والشَّجرِ ،والحركاتِ والصِّفاتِ ،والأحوالِ والأفعالِ وما عَلَقَ منها بالإنسان والحيوان وحقائقِ الكونِ وما عزّ عن العينِ والقلبِ واللِّسانِ! فتجدُ عناوينَ من قبيل “الحرس التركيّ” و” مرآة في الباص” و سلحفاة ضخمة” و”فردة حياة” و إذا ماتَ البحر” و”سكاكين” و “الرّقَّة” … وتتمايزُ هذهِ القصائدُ من حيثُ الطُّولِ ،ومن حيثُ الكتابة البصريّة .
فكلُّ القصائِد اعتمدَت السَّطرَ الشّعريّ تقسيمًا داخليًّا للقصيدةِ ،باستثناءِ قصيدتين في آخرِ الكتابِ الشّعريّ فقد نهلَ من مَعين الجُملِ الشِّعريّة السَّرديّة “في سنة غرق المهاجرين السوريين” و”رأيتُ عشرة عيون جميلة وقد انكسَرت”. التَّركيز الشّعريّ: عارف حمزة منحازٌ في فهم الشَّعر؛ يَستحضِرُ أدواتِه التَّي اختارتْهُ ليقولَ المعنى الذَّي شبّ في هشيمِ الخيالِ صُورًا واستعاراتٍ وكناياتٍ وكلامًا عاريًا من المجازِ، فليست اللّغةُ وسيلةً لنقلِ المعنى ،وليسَ المعنى سابقًا لبُنيةِ القصيدةِ، الشَّاعر مُؤلّفٌ لعلاقاتٍ جديدةٍ بين الكلماتِ ومعناها ،محمولة على مغناها ومُضناها، شاعرٌ يستدعي سياقَهُ المرجعيّ ويحافِظُ على نفسه الإنسانيّ .يَجتَرِحُ لغته الشّعريّة ويَضبطُ أسلوبَه ويبني جملته من صميمِ تجربةٍ وجوديّةٍ جماليّةٍ ،ألقَت بهِ في أكثر من مكانٍ ليتحدّث عن الإنسانِ شقيقِ الحُريّةِ، فيقول :
مرارةُ انتظارِكِ أيّتها الحريّة/ لا تفْقِدُ حلاوتها”. قصائد عاليّة التَّركيزِ في طرائقِها التَّعبيريّةِ ،فحجمُها يحدّدُ بنيتها ومُحتواها ،فالقصيدةُ معنىً مُلتقط في برهةٍ استدعت كثافةَ نظيره شكلًا وإشارةً برقيًّة وهندسةَ التَّكرارِ الصّرفيّ واللَّفظيّ ومنها هذه الومضة: “كلّما عثروا / على جثّة مجهولة الهويّة / يقول قلبي :إنّه أنت ! إنّه أنت!.
ومضاتٌ ظلالُها خلفَ الكلماتِ ،حياتُها في المَعمعَانِ ،معناها في مبناها مبتورٌ من قهرٍ ومنْ فَقْدٍ ومن جُوعٍ ومن تَشييعٍ للحياةِ إلى مكانٍ آخرَ لم يطئْهُ ذِهنُ الشَّاعرِ قبلَ قدمَيهِ، ” الحياةُ التَّي في الخارج / ما عادت تخصّني في شيءٍ “، قصائدُ غنائيّتُها في جنائزيّتِها ،طوّعَت إيقاعَها الدَّاخليّ بما يُوافِقُ حالَها ومقامَها من مقاماتِ الهَولِ وأحوالِهِ ،فابتدَعت شَجنَها وحسَمَت موقفًا جماليًّا شعريًّا وسياسيًّا ووجوديًّا ولم يبقَ إلاّ الدّمُ المُتخثّرُ وإليكَ وجَهُهُ ” غيّرتُ أراضٍ كثيرةً / وقطعا ضخمةً من السَّماواتِ / عبرت مُدنًا ربَّت إحداها سبعَة طوابق تحت الأرضِ / كي تركض فيها ديدان المترو / وهناك صادفت كميَّاتِ الدّمِ المُتخثِّرِ منذ مئاتِ السّنين / على امتدادِ آلافِ الكيلومتراتِ / وقد طَردتْ الأملَ أخيرًا / من هذهِ الأرضِ” .
قصائدُ نثريّةٌ غنائيّةٌ صوتُها النَّاطِقُ في جُلّ القصائدِ، الشَّاعرُ ضميرُ المُتكلِّمِ المُفردِ ،يَنسجُ صلاتٍ حواريّةً لشِخُوص قصائد مرويّة من حنينٍ لهدوءٍ لنْ يكونَ ،ولبشرٍ لن تَنفُخَ فيهم الرُّوحُ ولنْ يَطمئنَّ القلبُ ولن يئنَّ، ومن أبهى المُحاوراتِ في المجموعةِ محاورة عيد المرأةِ العالميّ فانظرْ ما نسجَ: ” في يوم المرأةِ العالميّ / كنتِ تتمنينَ لو أنّ هناك / رجلًا واحدًا / ممّن أحببتهم /بقي على قيدِ الحياةِ / حتّى القُساة منهم كنت تتمنّينَ / حتّى القُساةَ ” . مُتوسِّلٌ عارف حمزة بقيَمٍ وجدانيّةٍ وشعوريَّةٍ وعقليَّةٍ باتَت إيقاعًا داخليًّا لكلِّ القصائدِ ومعنًى ناظمًا لكلِّ الصُّورِ، فالشّعرُ موسيقى أذهانٍ وليسَ موسيقى أبدانٍ، يهزُّ الكيانَ كما لو أنَّ الأرضَ إذْ حدّثت بأمواتِها انسحبَ غُزاتُها ..وإليك تَدْمرُ في صورتِها الموؤدة:” لو انَّهم قلبوا باطِنَ هذه الأرضِ / لوجدوا شعبًا كاملًا / تحتَ الأرضِ”.
أصواتُ القصائدِ أصواتٌ ضمنيّةٌ ومعانٍ مرسلة على السُّخريّةِ كالسَّكاكين ،كالبحرِ المتوسّطِ ،كالشَّامةِ بين العينين، كسيرومٍ مُعلَّقٍ في يدها، كنصفِ قَمْرٍ ،كأُمنيةٍ، كعدالةٍ، كالرَّقّةِ ،ككتبٍ، عناوينٌ بمثابةِ قصائدَ ومُعلّقاتٍ ،روافدٌ لنهرِ الموتِ يَجرِفُ المكانَ ويُشرِّدُ صاحبَ المكانِ وأصحابَ المكانِ ، “فيبدو أنَّ الحياةَ/ لديها أعمالٌ أكثر أهميّةً / من حياتِنا”، فتزُجّ بالشَّاعرِ إلى أرضِ الحِرمَانِ ،لا صديق ،لا أمّ ، لا قتيل ، أيتّها الأحزانُ فاتحة الوحيدِ على شاطِئ مرسين بتركيا أو مدينةِ بوخهولتس بشمالِ ألمانيا . سيرةٌ شعريَّةٌ بِسِيَرِ من أصابَتهم الحربُ و شرَّدَتهم وأضنَتهُم وأدمَتْهُم، فأهملُوا حالَهم وثَجَّت عليهم أشواقُهُم ،ولا خلاص إلاّ بالكلماتِ .الشَّاعرُ رسولُ الكلماتِ العاريةِ من المجازاتِ ،فالواقِعُ أشدُّ تَخيُّلًا وإيقاعُ الوجعِ أشدُّ توقيعًا من “فاعلن أو فعولن”، واحتفاليّةٌ جنائزيّةٌ أكبرُ من العُروضِ ،تَضرِبُ في ضُروبِ الوجعِ سوريا وحمص وتدمر والباص والبحر إذا ماتَ والمنفى إذا امتدَّ، كومضاتِ “فردة حياة ” و”أكياس نفايات” ولم يبقَ غير “غوغل إرث” يتقصّدُ سرو الحنينِ للأمّ وللقتلى وللذَّين سيقتَلُون ،هناك عبرَ غوغل إرثٌ يُداوي الوجعَ بوجعٍ، فقسمةٌ ضَيزى أنْ لا يرضى بركوةِ خيولٍ عربيَّةٍ من صلصالٍ.
عارف حمزة في “لست وحيدًا” يُعِيدُ ضبطَ إيقاعِ الحربِ على جسدِ اللُّغةِ التَّي أردته مرايًا ونوايًا، فبُتِرَت إذْ بُتِرَت أيادٍ و أذرعة وسَمَلَ عيونًا وأفئدةً ،وباتَ “حُزنًا خفيفًا ” و”هكذا فَقَدَ الأملَ”، أسماء ما تعلّم وعلّم في هذا الكتابِ الشّعريّ، أطلَّ على الرُّعبِ ،على الفاجعَةِ وزخَّاتِ الرَّصاص ترتّب الفاجعة ولا حلّ فقد “قالوا له اذهب بلّطِ البحرَ” ! هكذا تعلّمَ السُّخريّةَ منهم ومنَ التَّاريخِ ! وعليهِ حمايةُ المكانِ والإنسانِ ونَسْجَ قَدْرَ الإمكانِ أسطورةَ أطفالِ سوريا ،فوحدهم يذهبونَ للحربِ ليلعبوا! إنّها قصّته الشَّخصيّة ! اقتلعوا الأشجارَ والأحلامَ وحتّى الأوهامَ .ربّما ليس وحيدًا ،يعيُد بالذّكرياتِ ترتيبَ عُزلَتِهِ وتنضيدَ غُربَتِهِ وحمايةِ واقعِهِ، فكانَ صريحًا لعينًا – أبكانا ياويلتي كم أبكانا – فكتبَ نثرًا “في سنة غرقِ المُهاجرين السُّوريين” وعليك أن تتخيّل الصُّورَ ،أفليسَ الشّعر نسجَ صُورٍ؟ .
كتبَ نثرًا واستدعى “أم عبدو” في عشر عيون جميلةٍ وقد انكسرت، امرأةٌ مُسنَّة بعينين لا بياضَ فيهما تروي بلهجةِ الحلبّيين الهَوْلَ ،حتَّى أنّ الدَّورةَ الشَّهريّة صارت يوميّة ..يستمعُ الشَّاعر لأمّ عبدو وأسمعَنا صديدَ الرُّوحِ من رمضاءِ اللُّغةِ …فهناكَ الكهرباءُ تنقطعُ حتّى لا تنتبِهَ للبيوتِ طائراتُ القصفِ ومع الوجعِ والجوع الكافرِ، “أم عبدو” تطلَّعُ للسَّطحِ والبناتِ ” نيمين” وتأخُذُ القدَّاحةَ التَّي بها ضوءُ ليزر وتظلّ تُشعِلُها وتُطفئها ،لعلّ الطَّيار “يقصفنا و نرتاح”، هذه قصّةٌ وحيدةُ الحدثِ ،سردٌ نثريّ لحدثٍ واحدٍ غريبٍ كالواقعِ ،تُحوِّلُُ فجائيٌّ من الموتِ ،منَ القتلِ إلى الانتحارِ ..صوتًا على صوتٍ ،يسرّدُ الشَّاعرُ الألمَ والحربَ والنَّفي بموسيقى الأذهانِ ؛الشّعر .لم يكن الشّاعر وحيدًا في رغبَتِهِ في الانتحارِ ،”أمّ عبدو” أيضًا رغبَت في الانتحارِ ،كونٌ بلاغيّ بغيرِ بديعٍ غير انكساراتِ اللُّغةِ وعنفِها واللَّعنةِ وقدرِها ،بلاغة معانٍ أُقيمت على تصويرٍ “اتوبيوغرافي” يجسّدُّ قلقَ الكتابةِ في البحثِ الأصيلِ عن كيفيَّاتِ القَوْلِ شعرًا ونثرًا.
“لست وحيدًا” كتابٌ شعريٌّ مرآويٌّ (المرآة) ذاتيٌّ تسربلَ بِعنفِ الصُّورةِ الشّعريّةِ ، وبما تَختزِنُ من وجعٍ وجدانيّ وجوديّ يقاومُ الحربَ ،بات الوجهُ الظَّاهر للحقِّ على البقاءِ على قيدِ الحياةِ، فلم يكن وحيدًا في الوجعِ وفي المنفى، كانت سوريا المُهجّرةُ وكنّا معه. عارف حمزة دارسٌ للقانونِ ،يكتب شِعرًا بقانونِ البساطةِ ؛تلك البساطة التَّي استدعت أدواتِها ،ولعلّ أشدّها نجاعةُ الحياةِ كما هي عارية من التَّشبيهِ والمجازِ، مثقلة بسطوةِ المُفاجأةِ تلك التَّي غيّرت المصيرَ والتَّفكِيرَ والقُدرةَ على التَّغييرِ ،فهو راصدُ محطّاتِ التَّعبِ ،ولا عتب إلاّ على البشرِ وعلى البحرِ الأبيضِ المُتوسّطِ ،فقد كان نحرًا وحاصله فوق المتوسّط! ترجمت أشعار عارف حمزة إلى أكثر من لغة ،وحصل على أكثر من جائزة، وأطلّ بتجربته الحياتيّة والشعريّة على النُّقصانِ والخُذلانِ، فلم يتدرّب إلاّ على “حياةٍ مكشوفةٍ للقنصِ”! فلْيسلَمْ وتسلمْ العَبّارةُ والعِبَارةُ.