فيلم جراد البحر The Lobster: ما الذي تفعله بنا الغربة؟
The Lobster أو جراد البحر، عنوانٌ فيلم تم انتاجه سنة 2015 للمخرج اليوناني “لانثيموس” (Yórgos Lánthimos) ومن تأليفه أيضًا بالإشتراك مع “إيفثايميس فيليبو” (Efthimis Filippou) وبطولة “كولن فاريل” (Colin Farrell) و”ريتشل وايز” (Rachel Weisz) وآخرين.
إنَّ موضوع هذا العمل عبارة عن ديستوبيا تماثل رواية “عالم جديد شجاع” لألدوس هكسلي، ورواية “1984” لجورج أورويل، كما تتشابه شكلًا مع رواية “المسخ” لكافكا في تحول الإنسان لحيوان، ومضمونًا في الإقصاء الذي يعانيه المختلف مع المجتمع، مع اختلاف المعالجة بين الفيلم والرواية.
تبدأ أحداث الفيلم بانفصال البطل عن زوجته، ليكتشف المشاهد بعد ذلك أحداث سريالية عندما يتم نقل البطل لفندق خاص بالعزاب لكي يؤهِّلهم للزواج مرة أخرى من بعضهم البعض خلال فترة معينة يتم تحديدها لهم، ومن لم ينجح في الارتباط خلال هذه الفترة يتم تحويله لحيوان من اختياره، وبالرغم من محاولة المخرج التخفيف من حدة الفيلم ببعض مواقف الكوميديا إلا أنها ظهرت في صورة كوميديا سوداء.
يقدّم الفيلم فكرة الاغتراب، وقد أجاد الممثّل الذي يؤدي دور البطولة تقديم هذه الفكرة بأدائه الذي تميز أثناء إقامته في الفندق بعدم اللامبالاة التي ذكرتني ببطل رواية الغريب لألبير كامو، فالبطل يتعامل مع القوانين في الفندق ومع قوانين المجموعة الهاربة في الغابة بعبثية، ونجد ذلك مثلًا في اجابته للسؤال العبثي الذي لا معنى له من مديرة الفندق “ما الحيوان الذي تريد أن تتحول إليه إذا فشلت في الارتباط بأحد نزلاء الفندق؟” فيجيب بإجابة عبثية ويقول السلطعون (وهو عنوان الفيلم). فتسأله مرة أخرى “لماذا؟”. فيجيب “لأنه يعيش طويلًا ودمه أزرق مثل النبلاء وقدرته الجنسية تظل طوال حياته كما هي”، وكأنَّ نوع الحيوان له أهمية بعد التحوّل.
ونجد الفيلم يعالج نوع من أنواع السُلطة وهي سُلطة المجتمع الاستبدادية، لذلك اختار المخرج الزواج الذي يرمز لضرورة ارتباط الإنسان بآخر والتخلّي عن فرديته، حتى لو كان هذا الارتباط لا يقوم على المشاعر وإنَّما يستند لأسباب مادية، ونرى ذلك في مشهد الندوة التثقيفية للعزاب عن فوائد الزواج والتي لم يكن فيها إشارة للحب والمشاعر بين الطرفين، ولكن كانت عبارة عن فوائد مادية مثل أن الزوج يحصل على المساعدة عندما يصاب بأذى أثناء الطعام، والزوجة تحصل على الحماية من المتحرشين.
الاغتراب والوجودية
يعرف الاغتراب بأنه حالة نفسية تسيطر على الفرد، وتشعره بأنه شخص غريب عن المجتمع الذي يعيش فيه بعاداته وتقاليده وقوانينه. يقول إريك فروم عن الاغتراب
هي تلك الحالة التي لا يشعر بها الفرد بأنه المالك الفعلي لطاقته وثروته، بل يشعر بأنه كائن ضعيف يستند كيانه الوجودي على توفر قوى خارجية أخرى لا تمت بأي صله لذاته.
وهي الحالة التي حاول المخرج تقديمها من خلال الأحداث التي نشعر من خلالها دوما أنَّ البطل غير متوافق مع قوانين المجتمع سواء في الفندق أو الغابة؛ ولذلك هو يرفضها ويحاول دومًا كسرها كما حدث في الغابة عندما أحب فتاة وهو ضد قوانين المجموعة الهاربة في الغابة، أو فشله عند محاولة الإلتزام بهذه القوانين مثلما حدث عندما اكتشفت الفتاة التي تزوجها في الفندق أنّه يملك المشاعر فبكى بعدما قتلت أخوه (الذي تحول لكلب عندما فشل في الإرتباط وكان يرافق البطل دائمًا).
كما نجد في بعض المشاهد تشيئ الإنسان الذي هاجمه فروم، ونجده عندما كان يتم حمل النزلاء المصابين في الصيد في عربة الحقائب الفندقية ومعاملتهم على أساس أنهم أغراض مادية .
يقدِّم لنا المخرج النظرة الوجودية للحياة من خلال مواقف البطل ليحاول التغلب على الاغتراب. فكما يقول سارتر أن الوجود يسبق الماهية عكس ما كان متعارفًا عليه من أيام أفلاطون بأن الماهية تسبق الوجود، ولذلك نجد مواقف البطل تعبِّر عن إحساسه بذاته، وبأنه فرد يجب أن يقرّر ما يريد لا أن يُفرَض عليه ذلك من الخارج، فنجد البطل بالرغم من عدميته أثناء وجوده في الفندق والغابة؛ ينتهز أيّ فرصة للهروب ويبحث عن هويته التي يريدها .
مشاهد حداثية من ” فيلم The Lobster “
من القوانين الغريبة في الفندق هي رحلة الصيد التي تتم عندما ينتقل العزاب للغابة ومع كل شخص بندقية به طلقات مخدرة، وبعد ساعة تنتهي رحلة الصيد ويتم إضافة يوم للشخص الذي يصطاد شخصا آخر، وهو ما يمثّٓل ذروة الصراع الذي يتم في المدنية الحديثة بنظامها الرأسمالي من أجل البقاء والذي يفرض على البشر كل أساليب التنافس الشريفة وغير الشريفة.
ونرى في أحد المشاهد شخص أعرج يتمنى في أثناء حديثه مع البطل أن يكون سليمًا ليصطاد أكبر عدد حتى يأخذ أيامًا أكثر، فيرد عليه البطل بأنَّ عليه الاعتماد على عنصر المفاجأة والحيلة أكثر من السرعة، وهو ما يذكِّرنا بنظرة نيتشه للإنسان السوبرمان والتي استخدمها هتلر للقضاء على العجائز وكبار السن، ويذكِّرنا أيضا بتحليل زيجمونت باومان في كتابه الحداثة والهولوكوست الذي يصف الحداثة فيه بالبستاني الذي يقوم بالتخلص من الحشائش التي يراها ضارة. كما نجد جانب آخر طرحه باومان في نفس الكتاب؛ وهو عملية تنفيذ الأوامر المطلق الذي يقوم به البعض حتى لو وصل الأمر للإضرار الشديد بالآخرين كما رأيناه في موظفي الفندق في التعامل مع النزلاء وخصوصا أثناء تعذيب النزيل الذي تم ضبطه يمارس العادة السرية، حيث نشاهد المخرج وقد ركَّز على وجه موظفي الفندق لنجد أنهم منهمكون كأنهم يؤدون عملا روتينيًا، وهذا الجانب ذكره باومان مدلِّلا على سلوك بشري غير متوقَّع، وجده عالم النفس ميليجرام في تجربته على مجموعة من المتطوعين، أثبتت أنَّ الإنسان لا يجد حرجًا ولا لومًا إذا قام بايذاء شخص آخر، أو تعذيبه أو حتى قتله، طالما أنَّ قوة أعلى سواء دينية أو اجتماعية أو سياسية تأمره بفعل ذلك.
مشاهد مابعد حداثية من ” فيلم The Lobster “
نجد المشاهَد ما بعد الحداثية في الأحداث بالغابة، وفي قوانين المجموعة الهاربة التي تتشابه مع الفلسفات المابعد حداثية كالعبثية والعدمية والوجودية والتفكيكية والبنيوية التي نشأت أساسا لمحاولة تقويض العقلانية الحداثية بدون تقديم حلول حقيقية، فنشاهد جماعة الغابة تحاول ترسيخ مبدأ فردانية الشخص برفض الحب والزواج عكس نظام الفندق الذي يحاول إجبار الجميع على التماهي مع المجتمع.
كما نرى مشهدا آخرًا يقدِّم فكرة الإنتحار كحلٍّ غير عقلاني قامت به إحدى النزيلات في يومها الأخير لمقاومة الشكل العقلاني لقوانين الفندق، وفي محاولة من المخرج على تقديم الإنتحار كرغبة ذاتية أنهت بها حياتها ضد رفضها للخيارات المتاحة لها كما أشار لذلك اميل سيوران في تحليله للإنتحار.
الجوانب الفنية
إنَّ الإعلان الدعائي (بوستر) لفيلم The Lobster يدل على الفكرة الأساسية للمخرج، وهي أنَّ الإنسان بدون مشاعر أو حب يُعتَبر إنسانا ناقصًا، فلا يمكن إقامة علاقة حقيقية بين طرفين غير مبنية على المشاعر، حتى أنَّه قدم مشهدًا جنسيًا بين البطل والفتاة التي تزوجها في الفندق بطريقة آلية بحتة، وركَّز على وجه البطلة الذي يوضّح أنها تؤدي واجبًا ليس إلا، ثم سلّط الضوء على وجه البطل الذي أراد تقبيلها ولكنه تراجع حتى لا تتهمه بأنه يملك المشاعر.
وأجاد الممثلون تأدية أدوارهم، وخصوصا بطل الفيلم الذي اكتسب كيلوجرامات زائدة ليتقن الدور وهو المعروف بأداء أدوار الأكشن، وبالنسبة للملابس نجد تقريبا جميع الملابس ألوانها غامقة، كما أن نزلاء الفندق يرتدون نفس الملابس في إشارة لمحاولة التنميط التي يفرضها الفندق على النزلاء.
وتكون الإضاءة في معظم مشاهد الفيلم ضعيفة، كما نجد الديكور ملائم للفكرة، فنرى الفندق من الخارج أشبه بسجن، ومن الداخل ديكورات حداثية من شكل الغرف وحمامات السباحة والجاكوزي واليخوت، أما الموسيقى التصويرية فتتصاعد وتهبط مع الأحداث سواء كانت رومانسية أو لشد الانتباه، وتُستخدَم الموسيقى الألكترونية لتعبِّر أيضا عن محاولة التنميط. ولجأ الكاتب لتقنية الصوت الخارجي الذي يحكى الأحداث ربما ليسهل شرح القوانين الغريبة على المشاهد ويصف الحالة النفسية للأبطال.
وفي نهاية الفيلم، نشاهد البطلة وهي تنتظر البطل الموجود في الحمام؛ ليفقأ عينه بسكين حتى يصبح أعمى مثلها حتى يستطيعان العيش في المدينة.
ولا تشكّ الشرطة فيهما لأنه من القوانين الغريبة أنّ البطل والبطل يجب أن يكون بينهما شئ مشترك، وهذه النهاية تجعل المشاهد في حيرة من أمره، فهل يفرح للبطل والبطلة لأنهما سيعيشان معا أخيرا بعد عذاب أم يحزن للمصير المأساوي للبطل والبطلة بعد العمى؟.