فيلم «Drive my car»: لا نولَد إلا من رحمِ الخيبات
يُنهي فيلم المخرج «رَيوسوكي هاماغوشي» -الذي نافس على سُعفة مهرجان كان السينمائي في دورته الأخيرة- مشاهدَهُ تزامنًا مع نهاية مسرحية أنطون تشيخوف العظيمة «الخال فانيا» بجملةٍ تنادي بها سونيا خالها: «يا خالي فانيا المسكين، أتبكي يا خالي؟ لم تعرف الفرح يومًا. لكن مهلًا، مهلًا يا خالي فانيا، سوف نرتاح؛ سنرتاح». لينتهي بذلك فيلم Drive My Car منطويًا على رسالته الأعظم؛ لا نولَد إلّا من رحم الخيبات!
في فيلمٍ هادئ وصبور وصامت كالحياة، ينطلق ممثلٌ مسرحيٌّ إلى مدينة «هيروشيما» -بكلّ ما تحمله من رموز وجودية وتاريخية- للاضطلاع بمهمة إخراج نسخةٍ معاصرة من مسرحية أنطون تشيخوف «الخال فانيا». في رحلة خلاصٍ وولادةٍ جديدة بعيدًا عن فاجعته في فقدانه زوجته الحبيبة.
“هاماغوشي” مخرجٌ متمّكن وواثق من رؤيته على الرغم من حداثة عهده وقلّة محصوله السينمائي. ففيلم «Drive my car» هو أوّل أفلامه التي تلقى ترحابًا عالميًّا -مُستحَقًّا بلا شك-. “هاماغوشي” من طينة معينة من المخرجين اليابانيين في ما يشبه توجّهًا حديث العهد بعض الشيء نحو البساطة والأصالة، أو ما نرغب بتسميته موجة الواقعية الجديدة اليابانية التي ابتدأها في منتصف التسعينات المخرج «هوريكازو كورييدا» امتنانًا وعرفانًا بالجميل للأب الروحي للسينما اليابانية «يازوشيرو أوزو». لكن، خلافًا لكثيرٍ من أفلام “كورييدا” و”أوزو”، يطوّع فيلم “هاماغوشي” رتابة الحياة اليومية ومفهوم الثبات الزماني في عرضه رحلة بطله “كافوكو” نحو اعتناق مأساته والتحرّر منها مرورًا بليالي الكآبة حالكة الزرقة. فسبيل “كافوكو” نحو فهم ذاته -أو بالأحرى صناعتها من جديد- شائكٌ ومجبول بصلصالِ الحزن والخيبة الإنسانية.
يرتدي الفيلم عدّة وجوهٍ لأنماط سينمائية متداخلة وتشكّل نسيج الحكاية. إذ تمتزج فيه النفحة التشاؤمية لسينما الفراغ الوجودي في تضاربٍ واضح مع التفاؤل الذي تقدمه عادةً سينما فيلم الطريق. وصولًا إلى سينما تطويع المكان واستخدامه ليشكّل متن الرواية وبنيانها الأساسي. ويمزج “هاماغوشي” هذه الأنماط بسلاسةٍ وليونة مستخدمًا محاكاةً مسرحية موازية ليمنحنا أحد أعذب التجارب السينمائية لهذا العقد على الإطلاق.
«فشكرًا لمن يحملون توابيت أمواتهم، وعفوًا من المبصرين!»:
يرسم “هاماغوشي” مشاهد فيلمه «Drive my car» -الطويل نسبيًّا؛ إذ امتد إلى ما يقرب الثلاث ساعات- بمزاجٍ رائق وهادئ ووتيرةٍ بطيئة ووحيدةِ النبرة كصدى صرخةٍ حزينة تأتي من بعيد مبهمة اللحن وتقول ما تقوله بصورةٍ أقرب إلى الهمس في توصيفٍ دقيق وعميق للخيبة وحزن رحيل الأحبّة. يتشابه فيلم Drive My Car في ثيمته تلك مع فيلم مواطنِهِ «هوريكازو كورييدا» من عام 1995 «Maborosi» في تشريحه للحزن النبيل لبطلتِهِ التي رحل عنها زوجها، ورسمِهِ لرحلتها نحو تقبّل الفقدان والخسارة من خلال اعتناق الخيبة والاحتفاء بها. لكن، وعلى عكس البساطة التي تتسم بها شخصية “مابروسي”، فكافوكو شخصيةٌ معقّدة وعصيّةٌ على الفهم، إذ نجده طيلة مدة الفيلم متباعدًا ومستغلقًا ومنعزًلا في روتينٍ يومي شبه ثابت لا يحيد عنه. ذلك الثبات الذي يقي الحزانى من الوقوع في هوّة سحيقةٍ من الضياع وانعدام المعنى. ولذلك طالت رحلته في نكرانٍ مستمر لمشاعر حزنه وكبته دموعه التي تجمدت في مقلتيه كأشبه ما يكون بتكلّسٍ قلبيّ. في رفض الحزن والتداعي له تعامٍ انتقائيٍّ عن كنه المشكلة، فما فائدة البصر إن كان عائقًا أمام البصيرة؟! لكن ومع وصول “كافوكو” إلى “هيروشيما” يأخذ منحى رحلته بالتحوّر ليبدأ عندها باكتساب نعمة الرؤية، في تحوّلٍ أنيق وبسيط دونما ضجيج كالتحول البطيء الذي حظيت به “مابوروسي” بعد حضورها لحفل تأبين أحد الموتى على شاطئ البحر عند المغيب.
الرحم/ «كم الضوءُ رحيل؛ كم العتمُ بقاء!»:
تخيّم على هذا الفيلم أجواءٌ ميلانخولية وكئيبة، فـ”الميلانخوليا” في طب النفس: هي كآبة ما بعد منتصف الليل بكلّ ما فيه من أحزان. لكن «في البدء كان الظلام ومنه خُلِقَ النور». فلا فجر إلّا بعد ليلٍ طويل، ومن هنا تأتي أهمية الليلة المظلمة للروح في تمهيدها النفس لاستقبال الضوء دونما خوف. وعليه، هي أقرب إلى فعل الولادة؛ ولادة النور من رحم الظلام. يتشابه الفيلم في استغلاله لمفهوم النور وفكرته مع فيلم المخرج التركي «نوري جيلان» -المعروف بمقاربته الفلسفية لأحداث الحياة واعتصار جوهرها المكنون- من عام 2011 «Once upon a time in Anatolia» في تطويعه لفعل الرؤية وانفتاح البصيرة بوصفها تجربةٍ ماسخةٍ للذات أو بالأحرى تجربةِ ولادةٍ ونحتٍ وتوضيح.
فكما في فيلم “هاماغوشي”، تدور معظم أحداث الفيلم بين مجموعة من المحققين والمجرمين وطبيب شرعي يجمعهم فضاء سيارة في ليلة ليلاء للبحث عن جثّةٍ مدفونة، في سعيٍ محمومٍ إلى الضوء والمعنى وجمال الحياة التي فقدت طهارتها ونقاءها. على شاكلتهم، يبحث “كافوكو” عن الضوء الضائع -كجنين يلتمس النورَ في رحمٍ مظلم-، الضوء الذي كان يستمده في ما مضى من عمله في المسرح أو من فانوس زوجته السحري. ومن هنا تأتي «السيّارة» التي ركّز عليها “هاماغوشي” في تسمية فيلمه بوصفها ضرورةٍ مكانية ودرامية ورمزية أيضًا. فمن جهة، كلُّ محصول حمل بحاجةٍ إلى رحمٍ يحتويه لتحضيره لمواجهة الحياة، كحاجة كلِّ ضائعٍ إلى مكانٍ يحتمي إليه. فالسيارة فضاءٌ حنون؛ رحمٌ مظلم ودافئ يقي طفلنا الداخليَّ اليتيم صقيع الضياع وقسوة خواء القلب. في كنف السيارة احتمى “كافوكو”، وكذلك “واتاري” رفيقة طريقه الصغيرة وسائقة سيارته التي شكّلت لها السيارة بديلًا رمزيًّا عن البيت وحنان الأم. السيارة مكانٌ ضيّق وناعم ويستقبل كلّ من يعاني رُهاب الحياة بوصفها ساحة مترامية الأطراف. ففي ثيمة السيارة نوعٌ من تكثيفٍ للوجود وحماية للروح من التبعثر.
ومن جهةٍ أخرى، فالسيارة كادرٌ متحرّك، متحركٌ لكن بثبات، إذ تضفي نوعًا من التجديد الخجول لسكونية حياته الرتيبة، وبأضوائها المواربة وحركتها المتهادية تعطي نوعًا من الثبات والاستقرار لحياةٍ مضطربة، وترخي طبيعةً حالمة وأثيرية على المشهد، وتمسح بسكينةٍ وسلام على عيون بطلنا المحزون.
وعلى عكس فيلم “جيلان” الذي حمّل الضوء لجميلة -ابنة المختار- في ترجمةٍ دوستويوفسكية لقدرةِ الجمال على إنقاذ العالم، كان الضوء في فيلم “هاماغوشي” مختبئًا خلف أبواب الماضي المواربة. ورحلة “كافوكو” في البحث عن ضوئه الخاص لهي رحلةٌ عصيبةٌ وتحتاج جَلدًا وصبرًا عظيمًا، وإيمانًا أنّ ما زال هناك قَبسٌ من نور حتى إن كان مُخاتلًا ويشيح بوجهه عنه لتعاميه عن رؤيته ردحًا من الزمن. فرحلة “كافوكو” هي رحلة حجٍّ إيمانية أكثر منها وجودية.
المشيمة/ «رابط تأنيب الضمير المشترك»:
تشترط الهيئة التوظيفية على “كافوكو” عند وصوله “هيروشيما” ألّا يقود سيارته جرّاء تاريخ من الحوادث وسوء الطالع يلفّ المدينة وسكّانها، وتوظِّف سائقةً صغيرة السن لتقوده في طرقات “هيروشيما”. وعلى شاكلة «أورفيوس» في الميثيولوجيا الإغريقية، الذي تشبّث بذراع محبوبته ليقطع بها أهوال الجحيم على ألّا ينظر إلى الوراء وإلّا ضاعت منه «يوريدَيس» إلى الأبد؛ تقوده صديقته الصغيرة الصبورة “واتاري” بأناة وسعة صدر. تسود بين “كافوكو” و “واتاري” علاقةٌ ليست صداقةً أو حبًّا أو حتى أبوّة -هي التي لم تعرف لها أبًا في يوم وربطتها علاقةٌ مريضة وعسيرة بوالدتها المتوفاة- وإنّما رابطةٌ من الألفة الأخوية أو رابطٌ خفي من تأنيب الضمير المشترك. فعقدة الذنب ترخي بظلال سوداء قاتمة تربط ما بين هذين الكائنين الرقيقين وتجعل التفاهم في ما بينهما سهلًا كتوأمان يتغذيان من مشيمة الحزن نفسه. فكلٌّ منهما يرى حزنه وتأنيب ضميره في مرآة الآخر حتى وإن اختلفت الظروف.
مفهوم الرفقة الذي فُرِض على “كافوكو” وتفاهمه الصامت الحزين مع تلك الفتاة المسكينة هو ما جعل من فضاء السيارة مكانًا ملائمًا لرحلة تحوّلٍ وتحرر. إذ لا ينجو محصول الحمل إلا بالاستعانة بمشيمة. فالمشيمة نسيجٌ ناعم وغضّ ودافئ بالمعنى الحرفي للكلمة لتوعيته الشديدة، يؤمّن للجنين الصغير احتياجاته الطاقية. ولن ينجو جنينٌ ما لم يتمتع بمشيمةٍ سليمة وقادرةٍ على مدّ جسور تواصلٍ متينة مع رحم الأم. وعليه لم يكن “كافوكو” لينجو لولا علاقات الرفقة الوقتية التي كوّنها مع من قابلهم ابتداءً بالفتاة وانتهاء بعشيق زوجته السابق. نعم كلّنا أجنةٌ بحاجة الرفقة لننعم بحياةٍ أكثر صحة، فالآخرون منجاتُنا لما فيهم من مرايا لأنفسنا. وهذا ما يصرّ عليه عشيق زوجته السابق بقوله:
«حتى إن اعتقدتَ أنّك تعرف شريكك حقّ المعرفة، ومهما كان حبّه متجذّرًا في أعماق قلبك، ليس بمقدورنا، نحن البشر، الاطّلاع على مكنونات قلوب الآخرين، فلن نحصد سوى المعاناة وحسب. لكن، إن سعينا جاهدين، فيمكننا أن نرى أنفسنا عن كثب. ففي نهاية المطاف، ما يتعيّن علينا فعله هو أن نكون صادقين مع أنفسنا وأن نتصالح مع حقيقتنا قدر المستطاع. إن أردت معرفة الآخرين، فعليك بمعرفة نفسك أولًا».
الحبل السريّ/ «في البِدء كانتِ الرحلة!»:
تجوب السيارة الدروب والسُبل قاطعةً محطة تلوَ الأخرى على أنغام موسيقى محايدة ولطيفة، ففي فيلمٍ يلعب على ثيمة الصمت، تغدو الموسيقى نوعًا من الترفيه والتخفيف من دوي الصمت وعذابه. كانت الرحلة أشبه ما تكون بحبلٍ سري، يربط ماضي البطل بحاضره ومستقبله. هو الحبل السري الذي ينبغي علينا قطعه حرفيًّا ومجازيًّا وأن نتحمل ألم قطعه راضين كقربانٍ لوجودنا على هذه الأرض. هنا يتشابه الفيلم مع أفلام الطريق التي أخرجها المخرج الألماني الكبير «فيم فيندرز»، خاصة في ثلاثية المدن التي درس فيها تأثير المكان على قاطنيه عن كَثَب، في تسخيرها لسايكولوجيا المكان ومفهوم الرحلة والغاية لتخفيف العبء الوجودي عن شخصياته المسكينة. تمنح الغاية/ المكان المنشود معنى ما لوجودنا، وتخفّف من وقع الرحلة وتحمل عنّا جزءًا من صخرة “سيزيف”. إذ أنّ مأساة «سيزيف»، ملعون الآلهة في الميثيولوجيا الإغريقية، لم تقتصر على حجم الصخرة وفشله في حملها وإنما في انعدام المعنى من حمله لصخرةٍ سخيفة صعودًا إلى قمّة جبل تافه.
تنتهي الرحلة بعيدًا عن “هيروشيما”/ الجحيم الذي قطعه “أورفيوس” راضيًا وأضاع فيه محبوبته وعليه الآن أن يقيم على روحها الحداد في مراسم بيضاء. إذ تقود “واتاري” كافوكو إلى مسقط رأسها في ضيعة جبلية لتريه منزلها الذي جرفته الثلوج. ومجددًا نكون أمام جانبين لسايكولوجيا المكان. ففي يد، يمثّل المكان الجديد انعتاقًا من ثقل “هيروشيما” بتاريخها ومآسيها، وخلاصًا أشبه بالولادة لحَملٍ مديد طال انتظاره، وقطعٌ لحبل الماضي السري في فضاءٍ أبيض شاسع أشبه بغرفة المخاض بملاءاتها البيضاء ونظافتها ونقائها؛ عالمٌ أبيض نظيف بلا ذاكرة أو هموم. وفي اليد الأخرى، يمثّل المكان في اتّشاحه بالبياض تأبينًا لأرواح الراحلين وإغلاقًا لأبواب الماضي بصورة مُبرَمةٍ ونهائية. إذ لطالما كان الأبيض هو لون الحداد والنهايات القاطعة.
نزوف الخلاص/ من الضوء جئنا وإلى الضوء نعود:
ينهي فيلم Drive My Car مشاهده ،كما ابتدأها، على خشبة مسرح. في سلامٍ وهدوء أقرب إلى سلام ما بعد نزوف الخلاص التي تتلو كل حملٍ عسير وولادة مؤلمة وصعبة.
في اقتباس “هاماغوشي” لمسرحية أنطون تشيخوف أحد أعمدة الأدب الروسي -مسرحًا ورواية- رمزيةٌ كبيرة. مسرحية “الخال فانيا” التي كتبها تشيخوف إبان العام 1897، وما تزال تُعرَض على مسارح روسيا إلى اليوم وهي أحد المسرحيات الأربعة الطويلة التي كتبها “تشيخوف”. تدور أحداث المسرحية في جو ريفي هادئ، تكشف فيه الشخصيات خلال حواراتها وبشكل تدريجي عن الخوف والقلق في جو تختلط فيه التراجيديا بالكوميديا. وتحتوي على حواراتٍ شيّقة مستقاة من الحياة اليومية وتتمحور فكرتها الأساسية حول قسوة الخيبة عندما يسترجع الإنسان فترات عمره ومحطات الفشل التي مر بها ويقف عاجزًا عن تغيير الحياة التي عاشها أو إصلاح ما أفسده الدهر. و “كافوكو” كما الخال فانيا، متعبٌ وخائب أمام سطوة الحياة في تماهٍ سينمائي مسرحي لربما هو الأجمل والأكثر إثارة للشجن.
لطالما شكّلت خشبة المسرح ملجأً لـ”كافوكو” وخلاصًا في أحلك ظروفه، ففي حضنه دفن حزنه على طفلته المتوفاة، وعارك الحياة بصناعة الفن والجمال كدرعٍ في مواجهة الجهل وفقر الروح والبشاعة العامة في كل مكان. لكن، حتى الضوء بإمكانه أن يغدو عبئًا، عبئًا معميًا للبصر لسطوعه ودوامه. ما دفع “كافوكو” إلى الانصراف عن المسرح لما فيه من نحتٍ وحتٍّ نفسيٍّ لا يقوَى عليه من عارك الحياة وسأم منها وتعب؛ مبررًا رفضه لتأدية دور “الخال فانيا” مجددًا بقوله:
«”تشيخوف” مروّع، إذ عندما تحفظ سطوره يسرق منك ذاتك الحقيقية. أنا ما عدت قادرًا على احتمال ذلك بعد الآن، ما يعني أني لا أقوَى على تسليم نفسي لهذا الدور!»
لكنه أدرك بعد رحلته المضنية -ككلّ الرحّالة والمغتربين- أنّ كنزه يكمن حيث يكمن قلبه. وقلبه كان متعلّقًا بخشبة المسرح بأضوائه الكاشفة الساطعة الباضعة لخطوط جلدة الروح. إذ يكمن الشفاء في أصل الداء، وشفاء “كافوكو” وتعافيه جاء على خشبة المسرح كمجروح ينزّ جرحه دمًا إلا أنه يفضّل أن يطلي به الجدران ليضفي بعض اللون والحياة لجدران روحه الكئيبة. غدا المسرح بالنسبة لكافوكو في الفصل الأخير من الفيلم حلبةً لمواجهة الذات، معركةٌ أخيرة مع الحزن تعلن نهايتها “سونيا” في مواساتها الوديعة لخالها “فانيا” المسكين:
«علينا أن نستمرّ في العيش؛ نعم على الحياة أن تستمر يا خالي “فانيا”. سنُجبَر على خوض أيام طويلة إلى ما لا نهاية، مرورًا بليالٍ سرمدية. سنصطبِر على المِحن التي سنُبتَلى بها. وحتّى لو لم نذُق طعم الراحة، سنستمرّ في الكدح والتضحية لأجل الآخرين سواءً الآن، أم حين نبلغ من العمر نهايته. وحين تدقّ ساعة الرحيل، ستهاجر أرواحنا بسكينة، وآنذاك سنخبره حين نلقاه كم كابدنا وعانينا، كم حزنّا وبكينا، وكم كانت حياتنا قاسية. حينئذ، سيحيطنا الرب برحمته. أنت وأنا، سنرى تلك الحياة المبهجة الخلّابة، حياة لا تخطر على بال بشر. حينها سنستبشر مبتهجين، ويعلو وجوهنا الانشراح والسرور، ناظرين إلى أحزاننا اليوم وهي ماضٍ منطوٍ. وبعد هذا كلّه، سنجد الراحة الأبدية. قلبي مؤمن تمام الإيمان أنه حينما يحين الرحيل سنعثر على خلاصنا الأبدي».