فيلم Arrival: دلالة اللغة لمفهوم الزمن
قد يصنِّف البعض فيلم Arrival ضمن أفلام الخيال العلمي لما يتضمنه من قصة وصول كائنات فضائية إلى الأرض، في الواقع لا يمكننا الإجحاف بالفيلم وتصنيفه ضمن قالب واحد فقط، فموضوع العمل به أكثر من رسالةٍ صيغت جميعًا تحت عباءة الخيال العلمي.
تتضمَّن الأحداث وصول اثني عشر مجسمًا فضائيًا في أرجاء الكرة الأرضية، بعضها في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا. تتخذ تلك المجسَّمات العملاقة شكلًا بيضاويًا طوليًا ضخمًا، واتضح فيما بعد أنها تحتوي كائناتٍ عاقلةً عملاقةً تصدر طنينًا وتصدر رموزًا مبهمةً عن طريق حبرٍ يخرج من مجسَّاتها التي تشبه مجسَّات الأخطبوط.
تجمع الحكومة الأمريكية فريقًا بحثيًا من علماءٍ في أقسام عدة، تختص جميعًا بعلوم الفضاء، والعالمة لويز التي قامت بدورها “إيمي آدمز”، عالمة لغويات. ويتم إرسال فريق العلماء داخل إحدى المجسمات في محاولاتٍ للتوصل إلى طريقٍ للتفاهم مع هذه الكائنات. على صعيدٍ آخر، يشترك العالم أجمع في محاولة الوصول لأي نتيجةٍ بخصوص هذه الكائنات، رغم وجود اختلافاتٍ توشك على حدوث حربٍ عالمية.
فيما بعد يتوصل الفريق، وخاصة الدكتورة لويز، لطريقةٍ ما لفهم لغتهم ومعرفة ما يريدونه من البشرية، وبطريقةٍ ما ستنتهي الخلافات بين الدول، ويتراجع القادة عن قرار الحرب العالمية التي كانت وشيكة للغاية، ثم يرحل الفضائيون في سلام، تاركين هبةً كبيرةً للبشرية سنعرفها فيما يلي.
يمكننا القول أن هذه هي القصة بكل بساطة لمن يعتبر فيلم Arrival مجرد خيالٍ علمي يحكي هبوط فضائين على الأرض، ولكن للقصه وجهٌ آخر بل وجوهٌ أخرى؛ حيث قد ناقش العمل أكثر من فكرةٍ فلسفية في غاية الأهمية.
أولًا: اللغة ومفهومها، وعلاقتها بمفهوم الزمن، ورؤية الإنسان للعالم من خلالها.
إنَّ اللغة من أكثر الأمور تعقيدًا في تاريخ البشرية، رغم آلاف المؤلفات في شرح وتفسير فلسفة اللغة والتعبير، وارتباطها البيولوجي بالإنسان. غير أنَّ أقصى ما بلَغه العلم أن اللغة لا يمكن وصفها ولا تفسيرها، واعتبارها وسيلة الإنسان لفهم العالم من حوله وتصور الأشياء، وبالتالي خلق توصيفٍ لما يدركه الفرد عن ماهية الأشياء. وكدلالة على استحالة الإلمام بها ككل، بعض الفلاسفة وصفوا اللغة بالعجز؛ لأنَّها لا تعبِّر عما نريد إلَّا من خلال التشبيهات والاستعارات، لكن المعنى الحقيقي للكلمات يقع في بعد آخر لا نستطيع التعبير عنه، في مكان ما في عقولنا.
في فيلم Arrival سُلِّط الضوء على هذه الفكرة، اللغة هنا هي الإنسان نفسه، حضارته، تاريخه، علومه، أفكاره، وطريقة رؤيته للعالم، وليس اقتصار اللغة على المنطوق به، لذا إدراك المعنى ليس حسيًا، والنطق بالكلمات عاجزٌ عن إيصال المعنى الحقيقي للغة. لذلك ففي هذا العمل نجد أن الكائنات لا تتكلم لغتها؛ إنما تكتبها كدليل على عجز المنطوق به، وكتابتهم ليست كلمات؛ لأنَّ الكلمة نفسها محدَّدة عاجزة مقيَّدة، لكنها رموز، والرمزية هنا للامحدودية الإطلاق، للوصول لما وراء الكلمات، وهو مدلول اللغة.
إذن، ما هي تلك الرموز وما دلالتها؟
سنجد أن رموز الفضائيين تشكِّل دوائر مغلقة أو منقطعة، وهنا استخدام شكل الدائرة له مدلول، لماذا الدائرة تحديدًا؟ فالدائرة هي الشكل المقدَّس عند الفلاسفة والحكماء القدامى، لأنَّها المبدأ الأول قبل ظهور الموجودات، وهي الأصل الثابت لكل المتغيرات؛ فهي رمز للصيرورة والتبادل الأزلي وفكرة الزمن، وهذا بالفعل ما نجده في الحضارة الصينية القديمة، ورمزيتهم للوجود برمز “الين واليانج” علامة الكونغ فو المتعارف عليها، دائرة نصفها أبيض وأسود، والخطّ الفاصل بينهم منحنًى يمثل الحيز الذي أظهر المتناقضات للوجود، الحد الفاصل الذي يميز المتناقضات، وانحناؤه معناه تعاقب الأحداث في شكل متتابع في دائرة الزمن، إذن الصيرورة هي الحقيقة الثابتة في حيز الزمن، وأفضل تمثيلٍ لمفهوم الزمن هو الدائرة؛ حيث لا بداية له ولا نهاية.
إذن، لغة الكائنات ليست خطيةً مكونةً من ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل، لغتهم تدل على مفهومهم للزمن بصورته الكونية المجردة. ولتقريب المعني، لنفترض تواجد شخص ما في مكانٍ أعلى حيث بوسه رؤية جميع الأحداث منذ خلق الوجود إلى نهايته، مفهوم الزمن بالنسبة إليه سيكون مختلفًا تمامًا، كذلك تعبيره ووصفه ولغته ستختلف عن الإطار الخطي المعهود لدينا، فبالنسبة إليه جميع الأحداث تقع في نفس الزمن.
تمامًا كما لو تخيَّلنا شخصًا يجلس في نقطة المركز لدائرة، وكل الأحداث الحاصلة تمر في محيط الدائرة، إذن هو يرى جميع الوقائع في نفس التوقيت، وبالتالي سيعبر عن الزمن والأحداث بلغةٍ على شكلٍ دائري.
وهنا بدأت عالمة اللغويات تفهم، من خلال دراسة الرموز وتحليلها، هذه الفكرة السابقة، وأدركت بالفعل أنهم لا ينظرون للزمن والوجود كما نراه نحن. وبالفعل تحول مفهومها هي الأخرى عن الزمن، وأصبح كدائرةٍ من الأحداث الخالية من التسلسل؛ فلا ماضٍ ولا حاضرٍ ولا مستقبل، وبدأت بطريقةٍ ما ترى أحداثًا مستقبليةً عن ما سيحدث لها، ستتزوج وتنجب ابنةً مريضةً بمرضٍ نادر، وتموت طفلتها في سن مبكر، كما تتمكن من معرفة الطريقة التي ستمنع بها حدوث حربٍ عالمية كانت وشيكة.
وبمعنًى آخر، هذه اللغة كشفت عن البعد الرابع للأحداث كما تخيلتها نسبية أينشتاين؛ الأبعاد الثلاثة مضافًا إليهم الزمن كبعدٍ رابع.
ثانيًا: يقدم فيلم Arrival عرضًا لفكرة تقبل القدر والإرادة الحرة.
لقد رأت الدكتورة لويز مستقبلها، كما وضحنا سابقا، وما سيحدث لابنتها من إصابتها بمرضٍ خطير، ويكون سبب وفاتها. وهنا يستوجب علينا السؤال: ماذا سنقرِّر إذا علمنا بشأن مستقبلنا؟ ما الذي سنود تغييره؟ بالطبع سيود أي أحدٍ أن يتجنب ما يعتبره بلاءً أو شرًا، كالفقد أو المرض.
لكن ما حدث أن لويز اختارت أن تعيش الحياة كما قُدِّر لها أن تكون؛ لأنها أدركت حتمية الموت، وأنَّه النهاية المحتمة لجميع الطرق، فاختارت أن تعيش الحياة وتتقبل القدر بخيره وشره. فالقضية هنا قضية تقبل مساوئ الحياة التي يجب معانقتها وتقبلها على أنها طبيعة الوضع الإنساني، وقد يعترض البعض ويختار تجنُّب الزواج، لعدم إنجاب ابنة تعاني مرارة المرض وتعاني آلام مرارة الفقد.
لكن هذا ما يود صنَّاع الفيلم إيصاله، علينا تقبل الحياة بما فيها، فكما منحتنا الحياة أوقاتًا سعيدة وهباتٍ عدة، ستأخذ منا أيضًا، فهذه قوانين الوجود. وكما يقول نيتشه “لا أهتم إن كانت الأحداث التي أمر بها سعيدةً أم بائسة، فإن ما أدركه تماما أن علي معانقتها جميعًا”.
ثالثًا: تميز هذا العمل عن غيره من الأعمال التي تضع أمريكا محور العالم
وقدرة هذا البلد دون غيره على التصدي لغزوٍ ما وإنقاذ العالم.. لكن هذا المنظور في فيلم Arrival قد تغيَّر، حيث تجد الدول جميعًا تتعاون وتتبادل النتائج، مما ألغى فكرة أمريكا منقذة العالم التي عهدناها فيما سبق، مما يعطي طابعًا مميزًا للعمل. فتُظهر بعض الدول خوفها تجاه الكائنات، وتعلن أنها ستلجأ لاستخدام القوة لتدمير المجسمات، وهذا نابع من الخوف، وهو المحرك الأساسي للحماقات الناتجة عن سوء الفهم الذي ولده سوء فهم الفضائيين، أسفر عن انقطاع التواصل بين مختلف الحكومات ثانية، رغم أن غرض الفضائيين من وراء الانتشار في اثني عشر موقعًا في أنحاء الكرة الأرضية، كان إجبار الدول على التعاون فيما بينهم، فتنتهي دواعي الحرب العالمية التي كانت علي مشارفها. وهذه الهبة التي فسرتها دكتورة لويز في بادئ الأمر حينما أشار الفضائيون أنهم أتوا ليعطوا الأرضيين “هبة”، ولكن أخطأت لويز أولًا في الترجمة، ففسرتها إلى سلاح، مما أثار خوف بعض الدول نتيجة الفهم الخاطئ.
“فيلم Arrival ونظرة فنية”
لقد أبدع المخرج “دينيس فلينوف” من خلال اختيار تقنية التصوير، فبداية الفيلم كانت مشهد “لويز” مع ابنتها “هانا”، ثم تنقلنا الكاميرا لدكتورة وقد استدعتها قوات الأمن الخاص، وفي مشهد متقدِّم، عندما اتحدت لويز مع الكائن الفضائي، تري فلينوف يقدم لنا المشهد مدمجًا الحاضر بالماضي بالمستقبل، كأنَّما يريد جعلنا ندرك أننا لا نري لقطات ذاكرةٍ للويز أو فلاش باك، إنما هي الأحداث جميعًا تحدث متزامنة.
كما ستبرهن إيمي آدامز في أدائها، فهي قد أدَّت شخصية عالمة اللغويات بحرفية، كذلك طريقة التوصُّل لتحليل لغة تلك الكائنات، فقد اهتم المخرج بلغة الفضائيين بحيث يعكس جدية طرحه وعمقه، ويحملنا على أخذ العمل بالتمعُّن المطلوب. فالمخرج وجه جهود الباحثين نحو اللغة المكتوبة بواقعية ممتازة، فاللغة الصوتية لم تكن غير مفهومة فحسب، بل غير قابلةٍ للفهم، ولقد تخلت لويز عن محاولة البحث فيها منذ نهاية الزيارة الأولى، لتبدأ بالتواصل البصري مثلما يفعل خبراء الأنثروبولوجيا.
وقد خلق فيلنوف من أجل الفيلم لغة بصرية حقيقية هي الـ”هيباتود بي” بالاستعانة بفريقٍ من الخبراء صنٌَفوا كتابًا صغيرًا يضم أكثر من مائة رسمٍ لفظيٍ دائري الشكل، لكنهم لم يستعملوا منه للفيلم أكثر من سبعةٍ وعشرين رسمًا. كما أن تلك البرامج التي استخدمها الخبراء في الفيلم، ومنهم لويز، لتشكيل المعاني بلغة ” الهيبتابود بي”، وتلك الأكواد التي تظهر على شاشات المحللين للغة، هي فعلًا أكوادٌ وبرامج حقيقية صنعها ستيفن وولفرام خصيصا لهذا الفيلم.