“بليغ حمدي وصديقة الوحدة” .. صور الذاكرة بالألوان الباهتة.
عَلى غَير عادتي، سأُهدي مقالي هذا إلى “سِتِّي”،
هَكذا كنا ننطقها نَحن أبناء الحَيِّ الشعبي، وهكذا أُحِبّ أيضًا.
إليكِ أنتِ يا نَبيِّة الله المُرسلة إليّ وَحدي.
رغم نسياني لون ثيابي المدرسيِّة، أتذكَّرُ جيِّدًا صباح الخميس، ثمة فرحة خفيَّة تسيطر عليِّ، وأعتقد أنَّها كانت تسيطر على كلِّ طلاب مرحلتي الابتدائية: بكرا الجمعة، الأجازة أخيرًا!. الخميس دومًا كان يوم مدرسيّ جميل بالنسبةِ لي، حِصَّة الألعاب الرياضيَّة، العدد أقل مِن المعتاد، يصرفونا مِن المدرسة مبكرًا؛ في الواحدة أو الواحدة والنِّصف لا أذكُر تحديدًا. والكثير مِن الأساتذة كان يغيب هذا اليوم، فالبتَّبعية يوجد الكَّثير مِن الحصص الفارغة التي سنمرح فيها، وهو اليوم الذي لا مذاكرة فيه ولا واجب فيه أيضًا. وبعد انتهاء اليوم الدراسي نتجَمَّع لنلعب الكرة في “حوش” المدرسة، أو في ملعب النَّادي المجاور.
أعتقد أنَّ كل هذا الشعور مُشترك بيني وبين كلِّ طلاب مرحلتي، لكن ما ليس مشتركًا بيننا هو ما يحدُث بعد خروجنا مِن المدرسة وبعد لعب الكرة.
مَنزل “سِتِّي” قريبًا جدًا مِن المدرسة، وكانت صديقةُ الوحدة، تعيش بمفردِها مُنذ أن تَوَفَّى جَدِّي رحمه الله، هي تِلك السَّيدة البسيطة التي تستيقظ صباحًا على إذاعة هنا القاهرة، وتغلي الشَّاي “الكشري” في برَّادٍ متآكِلٍ، وتجلسُ أمام نور الصَّباح تستمع بشغف للرَّاديو ورشفات الشَّاي، وتتشكَّل صورة الدنيا في مخيِّلتها المليئة بالورود.
أذهبُ إليها بعدما انقطع نَفَسي مِن الجري وراء الكرة البلاستيك. تستقبلني بالملابسِ النَّظيفة على الباب، تأخذ مِني حقيبة الكتب، أخلعُ أنا حذائي تأخذني في حضنها، تضمني بقوَّةِ المُتشَبِّث، أغمِضُ عَينيّ وأتلَمَّس الطَريق إلى خَيطِ قلبها، تُقبِّلني، فأقبِّلُ يَدها كَما عَوَّدتني أمي. آخُذ مِنها الملابس النظيفة وأذهب إلى الحَمَّام لاستحِم. كنت أغسل كل ما حَدث معي خلال الأسبوع، وانتشي كلِّ لحظة لمجرَّد تذكري أنَّ اليوم الخميس وأنَّي في منزل سِتِّي بالفعل.
أخرجُ لتصطدم بي رائحة الطَّعام، هذي الرائحة لا تفارقني كلَّما راودني الجوع، ثِمَّةُ حنان غير طبيعيّ فيها، وربَّما أنفاس هذه العجوز المُحَمَّلة بأيام الهزائم والانتصارات معًا.
تدعوني إلى إكمالِ طعامي، ومعدتي الصغيرة قد امتلأت عَن آخِرها، وبَعد إلحاحها وإصراري على شَبعي، تقول وقد تأكَّدت مِن ذلك: “بالهنا والشِفا“. وتحتضنني مِن جديد.
تُصَلِّي هي العصر، وأكون أنا غَفوت مكاني في صالةِ المَنزل، فلمَّا تفرغ مِن صلاتِها تأخذني على مَهلٍ إلى الفراشِ؛ لأنام ساعتين هم الأفضل في تاريخِ نومي
* * *
اسْتيقظُ وغياب الشَّمس .. الليل والشتاء ودِفءُ منزل سِتِّي.
– صَحِّي النّوم يا كسلان.
أجدها جالسة على كرسيها المُعتاد وقد أرتدت نظَّارتِها وتُتابع التلفزيون بتركيزٍ شَديد، أجلس على الكرسي المواجِه لها وأنتظر معها كالعادة حَفلة “عبد الحليم حافظ” في السَّابعة.
قَبل البداية بعِدَّة دقائق تقوم مِن جلستِها لتَعد لنا مَشروبها المُفَضَّل -بعد الشَّاي طبعًا- حِلبة حَصى مَغليَّة ونِقاط مِن اللَّبن بيضاء كقلبها تَغزل المَحبَّة بين حَبَّات الحِلْبَة. الحلبة بالحليب كان مشروبي المُفَضَّل آنذاك، تَغمرني فَرحة عميقة وسِتِّي تُناولني الكوب السَّاخن.
تبدأُ الحَفلة فتتحَول الشَّاشة إلى الأبيض والأسود، يَقفُ حَليم ببلدلةٍ فاتحة، شَعره الأسود الثَّقيل كان فاتنًا بالنسبةِ لي، حَتَّى كلامه العادي كان شَجيًّا، يَشكر الفرقة كالعادة، ويُنهي مقدمته القصيرة باسم الأغنية “حاول تفتكرني”.
يُلَوِّحُ بيدهِ فتنطلق الموسيقى ..
كانت المَرَّة الأولى التي أسمع فيها هَذه الأغنية، ورُبَّما هي المَرَّة الأولى التي أكتشف فيها هَذا الخَيط الواصل بَين عَيني وأذني وقَلبي، مبهورًا بهدوءِ الموسيقى، سألت:
– الموسيقى دي طالعة مِن أني صفَّارة بالظبط يا تيتا؟
ضَحِكَت، وكانت لَمَّا تَضحك مِن قَلبِها تَدمع عَيناها، وأفهمَتني أنَّ جميع مَن في الصّورة يتعاونون مَع بعضهم ليصدروا هَذا اللَّحن، واللَّحن في العموم أنتجه رَجُل يُدعى “بليغ حمدي”.
وفَهمِتُ مِن طَريقتها أنَّ هَذا البليغ حَمدي شَخص مُهِم وعَظيم.
نستمعُ إلى مقدمةِ الأغنية الشَّجيَّة، تقاسيم متناسقة فيها شيء مِن اللَّوم والعِتاب. لحنٌ مُحَمَّل بكلِّ ما هو إنساني. ليلُ الشتاء حاضر بقوَّة، دِفءُ الحِلبة يُنَظِّف صَدري ويُهدهدني، ولحنُ الأغنية يَسحرني..
أنا إلِّي طول عمري بصَدَّق كلام الصَّبر في المواويل..
وأنا إلِّي طول عمري بقول الحب عمره طويل..
مِن كتر ما كان الحب واخدنا،
وكل حلاوة الدنيا في إيدنا،
لا فكرنا زمان يعاندنا .. لا ..
ولا أيام تقدر تبعدنا .. لا ..
وعيشنا الحب والأيام،
وكل بكرا فيه أحلام..
وأتاري كل دا أوهام..
كانت سِتِّي تُدَندن الأغنية بصوتٍ خَفيض رَقيق، وكنت أنا مشدوهًا، أتابع، باندهاشٍ، صوت الموسيقى، وصوت حليم، والكلمات التي لا أفهم الكثير مِنها، وحِلْبة سِتِّي، ودندانتها.
* * *
كَبِرتُ يا سِتِّي وعَرفت “بليغ حمدي”، إنَّه الشَّخص الذي كان يحيا للموسيقى، وللموسيقى فَقط، المُلَحِّن الذي امتلاءت موسيقاه عبقريِّة، وانفجارات هادئة.
عَرِفْتَهُ جيدًا، كان قادرًا عَلى أن يَمسك مرارة الألم داخلي، أن يعتصرها، ويأخذها بين أحضانه ليرقصوا سَويًّا على نغماتٍ نبيلة.
كان شاعرًا، ليس مُلَحِّنًا فَقط، موسيقاه تَكتُب شِعرًا يَعْلَق بوجدانِ المُحِب والمَخزول، المُنتصر الفَرِح والمهزوم في حروب الدنيا والآخِرة..
عَرِفتُ يا سِتِّي أنَّ لَحن أغنية “حاول تفتكرني” الذي أخبرتيني في إحدى أيام الخميس أنَّه لـ “بليغ حمدي” كُتِب على مقام “البيات”، وهو مقام شَرقيّ أصيل، يعتمد على نغم المنطقة الوسطى التي تستقر على نغمة “دوكاه” ومَرْكزها الوَتر الثالث في العود. وهو مقام يَجمع بين الرِّقة والشَّجن والحُزن والفَرح -لَقد وَهبِك الله مقام بيات رَبَّاني في صَوتِك يا سِتِّي-.
لَحَّنه “محمد عبد الوهاب” أكثر مِن مَرة، أشهرهم في أغنية “كل دا كان ليه” التي غَنَّاها أيضًا، وأغنية ” هذه ليلتي ” لأم كلثوم.
وكتبه أيضًا المُلَحِّن “رياض السنباطي” في أغنيةِ “القلب يعشق كل جميل”.
والكثير مِن الأمثلة الأخرة، فقد كان مِن أكثر المقامات استعمالًا في هَذا العَصر.
* * *
عَودة إلى يوم الخميس المُبهِج.
مِن الليالي الليالي .. مِن بعدك وإلِّي جرالي..
سَهَّرني الشوق، دَوِّبني الشوق ..
في هذه السَّاعة الكاملة، فَقد الوجود مَعنى الزَّمان، الوَقت أصبح مجرَّد عَدَّاد لا يَعني تقدّمه أي شيء، فقط المَزيد مِن السِّحر، والشَّجن. تَلمعُ عيون سِتِّي دائمًا في هَذا الوَقت، استشِّفُ البريق مِن تَحت عَدستيِّ نظارتها الطبيّة.
ولسوءِ الحَظ ينتهي الحَفل، ولا يوجد شيء لا ينتهي إلَّا حُبِّي لَكِ يا سِتِّي.
بعد هذا التيهُ الذي أتعرَّض له بَعد حَفل حليم، أترك سِتِّي وأنزل إلى الحارة، ألعبُ البلي والكرة مَع الأولاد، وكان هناك بنات أيضًا مِن نَفسِ سِننا وأصغر، تركتْهُنَّ أمهاتهنَّ وجلسنَّ على مصاطِب البيوت يُثرثرن في أذن بعضهنّ البعض.
نلعبُ لعبة تُسَمَّى “أبو تريكة” فَعَلى كل لاعب نُطق اسم لاعب كرة حقيقي عِندما يلمس الكرة ويُمَرِّرها. وأثناء اللِّعب أخطأت وقُلت “بليغ حمدي” فتعَجَّب الأولاد وصرخوا في وجهي:
– مين عماد حمدي دا!
أجلستهم على الرَّصيف، وشَرحت لهم أنَّه بليغ حمدي. وأنَّه رجل مجهول، لا يظهر إلَّا قليل، وفي المناسبات المجيدة فقط، وأنَّه يمتلك ناس يمسكون بزمامير وصفافير ويلعبون عليها كما يوَجِّهم هو مِن مَنزله الخَفيّ.
حاولت قَدر الإمكان جَعله أسطورة كَي أبهرهم، وكنت لا أكذب؛ لأنَّه بدا لي كذلك وقتذاك.
ابتسموا، وابتسمت أنا في خبثِ الأطفال لأنِّي استطعت أن أخدعهم وأن أُنسيهم أنِّي أخطأت في اللعبة.
وبَعد لحظات، سَمِعتُ صَوت أكثرهم مَكرًا:
– طب أطلع بقا برا أنت وعماد حمدي بتاعك.
فامتزَج ضحكي مَع ضحك الأطفال، وضحك سَيِّدات المصاطب.
وبعد وقتٍ رَحب تكون إشارة سِتِّي بإنتهاءِ وَقت اللَّعِب، فتُناديني مِن الشرفة وتقول:
– كفاية كدا.