سبل جديدة للرؤية

مقابلة أجرتها مايا جاغي مع خوسيه ساراماغو

هي لحظة الحقيقة حينما يطلق خوسيه ساراماغو، البرتغالي الحاصل على جائزة نوبل للآداب عنان الضحك لنفسه متحدثًا عن موته. يجلس في كرسيه، في منزله الصغير، المبني على طراز عمارة “ما بعد الحرب”، في لشبونة، هزيلًا، مستقيمًا محتميًا من رذاذ مطر المدينة الأطلنطيّ بالقرب من المدفأة.
يتذكر كيف هرعوا به إلى المستشفى الشتاء الفائت قائلًا:”كانوا مترددين في أخذي، ذلك لأن حالتي كانت حرجة جدًا”. ويضيف ضاحكًا:”لم يودّوا أن يكونوا المستشفى الّذي مات فيه ساراماغو”.

تنبع سعادته ربما من حس عابث بالتوقعات المحبطة، أو من بهجة استمرار نجاته من البلاء. يوضح -تأكيدًا على إلحاده- قائلًا:”على الرغم من أنّ حظوظي بالشفاء كانت ضئيلة للغاية، لكني لا أرى شفائي على أنّه معجزة”. قبل أن يشير ساخرًا إلى شهرته المتأخرة. عمل في البداية ميكانيكيًا، ثم انتقل للعمل في الحدادة قبل أن يكرّس حياته لكتابة الأدب في الخمسينيات من عمره. كان في الستين من العمر حين نشرت روايته الرابعة والشهيرة:”نصب الدير التذكاري” (1982). هي حكاية باروكية تحكي قصّة حب بين جندي جريح وعرّافة صغيرة، وحلم كاهن مرتّد بالهروب من محاكم التفتيش في القرن الثامن عشر في لشبونة. ثم إن ترجمة الراحل جيوفاني بونتييرو للرّواية عام 1988 بعنوان “بالتاسار وبوليميندا” انطلقت بساراماغو إلى العالم الناطق بالإنجليزية. كما تم أيضًا تحويلها إلى أوبرا عام 1990.

ضاعف نجاح الرواية إنتاجه إلى حوالي خمس عشرة رواية بالإضافة إلى القصص القصيرة والشعر والمسرحيات والمذكرات بالإضافة أيضًا إلى كتابه في أدب الرحلات “رحلة إلى البرتغال” (1990). أثنت لجنة نوبل عام 1998 على “رمزيته المصحوبة بالخيال والعاطفة والسخرية”. كما أثنت على “شكوكيته الحديثة” بالحقائق الرسميّة.

عاد ساراماغو إلى بيته في شهر شباط\فبراير بعد أن قضى عدة أشهر في المستشفى. وقد بلغ الأسبوع الماضي عامه السادس والثمانين، واستأنف مع ذلك جدول أعماله المحموم. حضر عرضًا مسبقًا لفيلم “العمى” المستوحى من روايته للمخرج البرازيلي “فيرناندو ميريلس” والذي ستكون افتتاحيته نهاية هذا الأسبوع في دور السينما البريطانية، وذلك في لشبونة حيث يملأ الفيل الزّهري على غلاف روايته الجديدة “مسيرة الفيل” واجهات المكتبات. كما أنه على وشك السفر إلى البرازيل، حيث يمتلك جمهورًا عريضًا من القراء وذلك من أجل افتتاح معرض يتناول حياته وأعماله في مدينة ساو باولو.

تستعد مؤسسة خوسيه ساراماغو الوليدة للانتقال إلى مقرّ جديد. يتحدث على لسان مترجم، يقول إن الهدف هو:”جلب ديناميكية جديدة إلى الحياة الثقافية البرتغالية”. تدير زوجة ساراماغو الصحفية “بيلار ديل ريو” المؤسسة منذ عشرين عامًا وهي الآن مترجمته الإسبانية. عاش الثنائي في الخمس عشرة سنة الفائتة بشكل أساسي في “لانزروت”، بعد أن انتقلا إلى منفاهما بسبب اعتراض الحكومة البرتغالية على ترشيح رواية ساراماغو “الإنجيل يرويه المسيح” (1991) لجائزة أدبية أوروبيّة بضغط من الفاتيكان. (طالب ونال لاحقًا اعتذارًا رسميًا). في إنجيل ساراماغو الإنساني المهرطق، يحظى يسوع ابن يوسف بعلاقة جنسية مع مريم المجدليّة، ويتحدى الرّب المتعطش للسلطة الذي طالبه بالتضحية بنفسه. حينما أثار ساراماغو ضجة عارمة في البرتغال السنة الماضية بقوله إن البلاد ستصبح لا محالة مقاطعة من إيبيريا الموحدة، اعتقد البعض أن كلامه لا ينمّ سوى عن غضب مستمر، إلّا أنّه يصرّ: “تركت البلاد كنوع من الاحتجاج على الحكومة في ذلك الوقت، وليس غضبًا من البرتغال، فأنا أسدد ضرائبي هناك، وهذه السّنة وحدها قضيت فيها ما يزيد على ستة أشهر.”

إعلان

كان انتقاله إلى “لانزروت” بمثابة نقلة مهمة في أدبه، فأحداث كتبه اللاحقة كلّها أصبحت تجري في مدن غير محددة، وصارت أقلّ تجذرًا في الحياة والتاريخ البرتغاليين، أو حتى في شوارع لشبونة، كما قفز العنصر التأمّلي فيها إلى الواجهة. تُثني الكاتبة في أدب الخيال التأملي “اورسولا ك لو غوين” فيها على “الصوت، والفكاهة الحلوة” وعلى بساطة “فنان عظيم يمسك بزمام أمور فنّه”. أمّا بالنسبة إلى الروائي “هيلدر ماسيدو”، أستاذ البرتغالية الفخري في جامعة الملك في لندن: طالما كان ساراماغو “أديب الرمزيّات المصحوبة بنظرة عالمية شاملة” نقطة بدايته ليست “في أحد الأيّام..” بل “ماذا لو؟”. أما ساراماغو نفسه فيقول: “تدور أعمالي حول إمكانية المستحيل. فأنا أسأل القارئ أن يعقد اتفاقيّة؛ ولو كانت الفكرة عبثية، فالذي يهمّ هو تطورها. نقطة الانطلاق هي الفكرة، بينما تطورها فعقلاني ومنطقي دائمًا.”

حازت رواية “العمى” ( أعيد نشرها الشهر الفائت بواسطة فينتاج) على اهتمام المخرج “ميريلس” من خلال رؤيتها حول “مدى هشاشة الحضارة الانسانية، وإمكانية انهيارها بسهولة”. أمّا ساراماغو فيقول: “أنا لا أرى قشور الحضارة، إنّما المجتمع بما هو عليه في الحقيقة”. نحن في الجحيم بالفعل، مع كل هذا الجوع والحرب والاستغلال، ومع الكارثة الجماعية المتمثلة في العمى التّام. كلّ شيء يظهر إيجابيًا وسلبيًا. يُعد كلّ ذلك صورة لما نحن عليه في الحقيقة. النقطة الأساسية هي في “من يحوز السلطة ومن لا يحوزها؛ من يتحكم في توزيع الطعام ويستغل الباقي منه.”

رواية “العمى” هي الرواية الثانية الّتي سمح ساراماغو بتحويلها إلى فيلم سينمائي بعد رواية “الطوف الحجري” (2002) من إخراج “جورج سلويزرس”. وقد رفض عروضًا عدة بسبب تردده خوفًا من أن يقع كتاب عنيف يتحدث عن التدهور الاجتماعي والاغتصاب في الأيدي الخطأ. ويجد فيلم ميريلس الذي تم تصويره في ساوباولو والأورغواي وكندا والذي افتتح مهرجان كان هذا العام، فيلمًا عظيمًا. نجاحه الباهر في أميركا اللاتينية بما فيها البرازيل يتعارض مع الاستجابة الخجولة له في الولايات المتّحدة.

“ماذا لو قرر الموت أن يأخذ إجازة؟” يقول ساراماغو إن روايته “انقطاعات الموت” الّتي تم نشرها في وقت سابق من هذا العام مستوحاة من هذه الفكرة؛ حيث يتوقف الناس عن الموت في إحدى الدول غير الساحلية، وتقوم مجموعة سريّة بالتعاون مع الحكومة المتأزمة بنقل المحتضرين إلى خارج الحدود من أجل دفنهم. أمّا الموت فيتجسد في امرأة تقيم علاقة غراميّة مع عازف تشيلو. يقول ساراماغو: “لا أرى أنها قصّة حب على الإطلاق، فَهِم البعض الرواية على أنها انتصار للحب على الموت، أمّا من وجهة نظري فذلك مجرد وهم”. برأي ساراماغو: “حاولت الكنيسة إيجاد تفسير لخلق العالم، ومنذ ذلك الحين وهم يدافعون عن هذه الفكرة بالعنف، ويعد ذلك تعصبًا شديدًا، كما كانت محاكم التفتيش تحرق الأشخاص الذين يبدون مختلفين، على سبيل المثال: يريد البابا الجديد احترام العقيدة الصارمة وعدم التشكيك بها. أنا لا يمكنني قبول ذلك، لا يمكننا قبول الحقائق الصادرة عن أشخاص آخرين، بل يجب أن نكون قادرين دائمًا على التشكيك بها.”

ولد ساراماغو عام 1922 لعائلة فقيرة في آزينهاجا، قرية صغيرة في ريباتيخو شمال شرق لشبونة. انتقلت عائلته إلى العاصمة بعد بلوغه الثانية، حيث عمل والده -جندي المدفعية في الحرب العالمية الأولى- كشرطي سير وعملت أمه في تنظيف المنازل. بعد إطاحة انقلاب عام 1926 بالجمهورية، صعد أنطونيو دي سالازار إلى السّلطة بميليشياته الفاشية وشرطة “بايد” السريّة.
تصف “ذكريات صغيرة”، مذكرات ساراماغو التي ستنشر العام المقبل في بريطانيا الظروف المعيشية القاسية لعائلته في لشبونة، وتلمح إلى الخضوع القهري داخل الأسرة للشعار الفاشي “الله – الوطن – العائلة”.

وعلى عكس ذلك كان جدّاه لوالدته، يقول ساراماغو عن جيرومينو وجوزيفا اللذين كان يقضي معهما عطلاته المدرسية في أزينهاجا: “كانا مزارعين فقيرين، إلّا أنهما كانا شخصين طيّبين جدًا، وقد تركا تأثيرهما على مدى الحياة، فأفضل ذكرياتي كانت هناك في القرية الّتي ولدت فيها ولم تكن في لشبونة”. توفيّ جدّه -مربي خنازير وحكواتي، كان يضبط إيقاع الكون بالأساطير وقصص الأشباح- عام 1948. ردّ ساراماغو الجميل بعد مرور خمسين عامًا في خطابه في حفل جائزة نوبل. وقد راوغ في ما يخص الأصول المغربية لوالد جدّته قائلًا: “حتى أضفي نفحة رومانسية على صورة جدّي قلت إنه كان من البربر، مع أن ذلك ليس مؤكّدًا”. وفقًا “لكارلوس ريس” رئيس الجامعة المفتوحة في البرتغال ومؤلف كتاب “حوارات مع خوسيه ساراماغو” (1998): “ما زال يستمد تفوقًا أخلاقيًا وحكمة من خلفيته المتواضعة.”

بعد فترة وجيزة من انتقال عائلته إلى لشبونة، توفي شقيقه فرانشيسكو البالغ من العمر أربعة أعوام، وقد غذت جهود ساراماغو لتعقب قبره بعد نحو سبعين عامًا جمعًا للمعلومات من أجل مذكراته، روايته “كلّ الأسماء”. انتقل إلى المدرسة المهنية عندما عجزت العائلة عن تكبد مصاريف المدرسة الثانوية، حيث أصبح ميكانيكيًا متدربًا هناك. على الرغم من ذلك، قرأ “عشوائيًا” في المكتبات العامّة، وعمل في إحدى دور النّشر في منتصف الخمسينيات، كما ترجم تولستوي وبودلير وهيغل وآخرين قبل أن يصبح صحفيًا. انضم إلى الحزب الشيوعي البرتغالي السّري -المعارض الرئيسي للديكتاتورية- عام 1969 معرضًا نفسه لخطر السجن والاعتداء. لكن بعد ثورة القرنفل الّتي أطاحت بمارسيل كايتانو خليفة سالازار عام 1974 أصبح ساراماغو نائب رئيس تحرير صحيفة “ذياريو ذي نوتيثياس” الثورية اليومية. كانت مرحلة دقيقة للغاية ومليئة بالاضطرابات الاجتماعية، حيث أصبح الحزب الشيوعي شرعيًا أخيرًا. ذاع صيته كستاليني في تلك الفترة، حيث قيل إنه قام بتطهير الصحيفة من غير الشيوعيين. يقول ريس:”لقد نمّا الكثير من الأعداء حينها”. لكن بعد إحباط الانقلاب اليساري المتطرف عام 1975، أُقيل ساراماغو. أصبحت البرتغال “طبيعية”؛ توقفت المشاركة السياسية وتقسيم الأراضي.

تزوج ساراماغو من ايلدا ريس، طابعة على الآلة الكاتبة والتي أصبحت نحاتة فيما بعد، عام 1944 (تطلقا عام 1970). نشرت أولى روايته في العام نفسه وولدت ابنته الوحيدة “فيولانتيه” عام 1947. بعد غياب طويل، عاد إلى كتابة الشعر والمسرحيات في الستينيات. أمضى بعض الوقت في ريف الينتيخو عاطلًا عن العمل عام 1976 حيث عاد إلى كتابة الأدب. يقول كارلوس ريس: “دليل الرسم والخط، سيرة ذاتية حقيقية له، يعتقد ساراماغو أن الثورة فشلت. وبفضل ذلك الفشل، كان عليه أن يكتب ليبقى على قيد الحياة بعدما طرد من عمله. كان ذلك خياره الوحيد.”

بدأ رواياته الرائعة الّتي تناولت أجيالًا ثلاثة من عائلة فقيرة في النتيخو في الثمانينيات، وابتدع أسلوبه المتميز والمتمثل “بالتدفق المستمر” والاستخدام الضئيل لعلامات الوقف. تقول مترجمته الإنجليزية مارغريت جول كوستا: “يبدو أسلوبه السرديّ السلس كالكلام”. ينسّق الأصوات والوقفات. كما تشبهه بالروائي الواقعي من القرن التاسع عشر “ايكا دي كيروس”، “في سخريته من البرتغال وإلقاء الدعابات حولها”. تعطي “سنة موت ريكاردو ريس” الرواية التي غالبًا ما نُظر إليها على أنها “تحفته الفنية” شكلًا بشريًا لأحد أسماء الشاعر فيرناندو بيسوا المستعارة، متخيلًا إياه عائدًا من البرازيل عام 1936 بعد وفاته.

ينظر ريس إلى أعمال ساراماغو ما بعد الحداثية في الثمانينات جنبًا إلى جنب مع أعمال جميع من كتبوا بعد ثورة 1974 على أنها تفكّر وتأمّل في أصول البرتغال ومصيرها، وعلاقتها الغامضة مع أوروبا. يعتقد ريس أن رواية “الطوف الحجري” طرحت السؤال التّالي: “هل نحن أوروبيون حقًَا؟ أم أننا لا نمتلك مسؤوليات أخرى خارج أوروبا؟ تحديدًا في أميركا الجنوبية”. يصرّ ماسيدو على أن ساراماغو ورغم تعليقاته الأخيرة على مستقبل البرتغال، ليس إيبيريًا بالمعنى التقليدي السائد للكلمة في القرن التاسع عشر، إلّا أنّه على عكس الكثير من البرتغاليين، يقدّر إسبانيا. فأحد كتّابه المفضلين هو “سيرفانتيس”. ويرى شبه الجزيرة على أنها خليط من الثقافات تحت السقف الأوروبيّ.
ما يزال ساراماغو عضوًا في الحزب الشيوعي، ويصف نفسه بـ “الشيوعي هرمونيًا، تمامًا كما يوجد هرمون يجعل لحيتي تنمو كلّ يوم. أنا لا أبرر للأنظمة الشيوعية ما فعلته، اقترفت  الكنيسة أيضًا الكثير من الأخطاء كإعدام الناس حرقًا. لكن لديّ الحق في البقاء على أفكاري. لأنني لم أجد شيئًا أفضل”. كتب عام 2003 بعد سنوات من الصداقة مع الرئيس الكوبيّ فيديل كاسترو: “لقد فقد ثقتي، حطّم أمالي، وخان أحلامي.” برأي ريس: “يعيش ساراماغو شيوعيته كحالة روحية، فلسفية وأخلاقية. ولا يقحمها في رواياته.” تظهر حكايته الخرافية حول الاستهلاكية والسيطرة في ثقافة معولمة “الكهف” (2001) تحول الحياة من الكاتدرائية إلى مراكز التسوق. أمّا بالنسبة إلى جول كوستا: “إذ تكمن قوته في كتابته بشكل إنساني عن الناس العاديين ومآزقهم.”

في رواية البصيرة (2004) التي تجري أحداثها في البلد نفسه الذي جرت فيه أحداث رواية “العمى” أدلت الأغلبية بأوراق بيضاء احتجاجًا، ما أدى إلى إعلان حالة الطوارئ.
بالنسبة إلى ساراماغو؛ كانت الديمقراطية في حاجة إلى التجديد، وذلك لأنّ القوة الاقتصادية أصبحت تحدد القوّة السّياسية. يقول: “أنا مرتاب من الديمقراطية. فالمشاركة في الحياة السياسية غير كافية. صحيح أن الشعب يدلي بصوته كلّ أربع سنوات، إلّا أن الحكومة في نهاية المطاف تفعل ما تريد. ولا ينطبق ذلك على البرتغال وحدها”. مع ذلك، فهو مسرور بانتخاب باراك أوباما. “ديمقراطية فعّالة. إنّها لحظة جميلة، أن يحتشد ملايين النّاس -من بينهم من لم يصوتوا من قبل- من أجل التصويت لمرشح جديد وأسود أيضًا. إنّه نوع من الثورة.”

تتبّع روايته الجديدة “مسيرة الفيل” الّتي يرى ميريلس أنها “كوميديا عبقرية تتناول سذاجة النّوع البشريّ” رحلة الفيل الهندي “سولومون” الذي أهداه الملك جون الثالث إلى ولي عهد النمسا الأرشيدوق مكسيميلياني الثاني. يقول ساراماغو: “تسع وتسعون في المائة من الرواية عبارة عن خيال محض. لقد كنت مفتونًا بفكرة أن رحلة الفيل هي كناية عن الحياة، كلنا يعرف أنّه سيموت، لكن لا أحد منّا يعرف ظروف موته”. كان قد كتب نحو أربعين صفحة عندما نقل إلى المستشفى في لانزروت، ولم يتوانَ عن استئناف الكتابة فور عودته منها. يقول:”ما أجده غريبًا ومستهجنًا هو وجود الكثير من الكوميديا في هذا الكتاب. إنّه يجعل القارئ يضحك. لا أحد سيصدق كيف كان شعوري أثناء الكتابة.”

بدأ الكاتب الثمانيني في شهر أيلول وبتشجيع من زوجته “ديل ريو” مدونة على الموقع الإلكتروني العائد لمؤسسته ب “رسالة حب” إلى لشبونة. اعتاد أن يكتب في الصحف. يقول: “أصبحت الآن أكتب كلّ يوم لملايين الزوار دون مقابل. ما أجده شيئًا مذهلًا.” تتأرجح مواضيعه بين الأزمات المالية وتوجيه النصائح إلى الأزواج المطلقين عن كيفيّة تقسيم المكتبة.

يقول ساراماغو: بيلار “بيتي”. هي أهم شيء في حياتي، ربما أكثر أهمية من عملي أيضًا. أرى أنّ قصّة حبّنا هي قصّة الحب الّتي لا تحتاج إلى أن تُكتب”. أقاما حفل زواج مدنيّ ثانٍ العام الماضي في مسقط رأسها في كاستريل في الأندلس، بعد أن أهملا تسجيل زواجهما الأوّل عام 1988.لا تحلّ البيروقراطية المستهجنة في غير محلها في أعماله.

بفستانها الجديد الذي اشترته بالأمس من أحد متاجر مركز المدينة، حضرت موت الكونشرتو. إنّها تجلس وحيدة، في شرفة الدرجة الأولى، وتنظر إلى عازف الفيولونسيل كما في المرّة الأولى. وأمعن هو النّظر إلى تلك المرأة قبل أن تخفت أنوار الصالة، بينما كان عازفو الأوركسترا ينتظرون دخول المايسترو. لم يكن الموسيقيّ الوحيد الّذي انتبه إلى وجودها. لأنّها الوحيدة الّتي تشغل الشرفة في المقام الأوّل، ومع أنّه لم يكن بالأمر الغريب، ألّا أنّه لم يكن كثير الحدوث أيضًا. وفي المقام الثّاني لأنّها كانت جميلة، ربما ليست الأجمل بين الحضور الأنثويّ، ولكنها جميلة بصورة غير محدّدة، بصورة خاصّة، لا يمكن شرحها بالكلمات، كبيت شعر يفلت معناه من المترجم، إذا كان ثمة وجود لهذا الشيء في بيت شعر. وأخيرًا لأن صورتها المعزولة -هناك في الشّرفة- محاطة بالفراغ والغياب من كلّ الجهات، كما لو أنها تسكن العدم، تبدو كأنها تعبير عن العزلة المطلقة.

يدل هذا المقطع على ما أعتقد أنه أحد خصائص أعمالي الرئيسية: قبول فكرة أن المستحيل ممكن، واستنباط كلّ النتائج الّتي قد تولّدها المخيّلة من هذه الفرضية الخطيرة نوعًا ما، وإن تعارضت مع المنطق الطبيعي. ربما رأى بروست الموت على هيئة امرأة سمينة متشحة بالسواد عند أسفل سريره، أو ربما اعتقد أنه فعل. لكن ليس للموت جوهر مادي ما لم ندفع بحدود الممكن إلى مستوى مختلف من الرؤية، إلى سيناريو داخليّ من التخيل حيث يكون كل شيء منطقيًا. يشتري الموت في هذه الرّواية فستانًا جديدًا لحضور حفل موسيقيّ. ستقول إن ذلك مستحيل. وسوف أردّ: نعم، ولكن ليس بعد الآن.

مصدر الترجمة 

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق علمي: ريهام عطية

ترجمة: أفراح مروّة

اترك تعليقا