دورات الموت والحياة
عندما تُطرح مسألةُ تأثّرِ نجيب محفوظ بمدرسة التحليل النفسي وأستاذها الأول “فرويد”، نجدُ النقدَ منصبًّا علي رواية “السراب ” دون غيرها، وكأنها تجربةٌ شاردة للكاتب لا تتوازى مع أفكارِهِ في تلك المرحلة (ما قبل الثلاثية). ومن أجل تحليلٍ أكثرَ ترابط، قررنا تركيزَ العملِ علي قضيةٍ من القضايا الوجودية التي تأثر محفوظ برؤية فرويد لها، قضية تحمل دلالاتٍ ثرية استخدمها محفوظ لتعميقِ جذورِ أفكاره الفلسفية والتقدم خلال مراحل إبداعه الروائي.
أسبقية الموت
“في ظلمةِ الفجرِ العاشقة، في الممرِ العابرِ بين الموت والحياة، على مرأى من النجومِ الساهرة، على مسمعٍ من الأناشيد البهيجة، طُرحت مناجاةٌ متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا”.
في افتتاحية “الحرافيش” يوحي نجيب محفوظ بأسبقية الموت على الحياة في فلسفته الأدبية، فالرغبة في الحياة ما هي إلا حركة تنافي الحالة الأولية الساكنة: “لا تبدأ بالولادة بقدر ما تتخلق بيقين الموت”. (1)
وهو ما يتطابق مع رؤية فرويد للموت كـ”غايةٍ” تنزع إليها دوافع تدمير الذات عن طريق عمليةٍ تلقائية تهدف إلي إحياء حالةٍ قديمة، حالةٍ مبدئية تركها الكائنُ الحيُّ وراءه في زمنٍ ما. هي الحالة اللاعضوية [أي: حالة المادة الجامدة قبل التطور العضوي وظهور الحياة مع الخلية البدائية]؛ وهي نقطةُ اختزالٍ كاملٍ للتوتر ينحو إليها الإنسان كهدفٍ قديم ترسخ في أعماقه اللاشعورية، وهجره تحت ضغط الظروف الخارجية، فالكائن الحيُّ لم يكن لديه من مبدأِ وجوده ميل إلى التغيّر أو الحركة، وإنما للحفاظ علي حالة السكون والثبات. “إن الموتَ غايةُ كل حي، وإذا ألقينا بنظرةٍ إلى الوراء قلنا: إنّ الميتَ قد وُجد قبل الحي”.(2)
إنكار الموت
“ما أقبح الضحايا. دعاة الهزيمة. الهاتفون بأن الموتَ نهاية كل حي. وبأنه الحق. إنه من صنع ضعفهم وأوهامهم. نحن خالدون ولا نموت إلا بالخيانة والضعف”.(3)
بعد الصدمة التي تلقاها جلال بموت أمه، لحقتْ به المأساة مرةً أخرى بموت حبيبته “قمر”. هام بالمستحيل، وأنكر الموت فاعتبره مصير العاجزين فقط. وشرع في بناء مئذنة أسطورية يتحدى بناؤها الموتَ والعدم.
يفترض فرويد أن الانسان يعلم بأن الموتَ شيءٌ طبيعي لا يمكن إنكارُه ولا سبيل إلى الإفلات منه، لكن سلوكه يُظهر خلاف ذلك، فهو يستبعد الموت ويخرسه. وعندما يفكر الإنسان في الموت، لا يستطيع تصور موتَه هو، بل يتخيله بوصفه متفرج يشاهد موت الآخرين”؛ لذلك فإننا قلنا من خلال التحليل النفسي أننا في أعماقنا لا نعترف بأننا سنموت، وأننا بمعنى آخر نعتقد في لاشعورنا أننا خالدون”.(4)
“اللاشعور لا يصدّق أن الموت سيجري عليه، وهو يتصرف لذلك كما لو كان من الخالدين”(5)
يُعرّف فرويد اللاشعور بأنه الطبقات الأعمق من العقل التي تتألف من الدوافع الغريزية، وهو لا يعرف السلبيات أبدًا، لذلك لا يعرف أنه سيموت -لأن الموت معنى سالب- ومن ثم كانت كلُّ غرائزنا لا تعرف الموت، ولا تخشاه تبعًا لذلك.
“شيخ الزاوية : كلنا أموات ولاد أموات
جلال : لا أحد يموت”.(6)
اقتنع جلال بأن الإنسان حين يتكيف مع فكرة الموت يمنحها قداسةً ما، ويشجعها كي تصير حقيقةً خالدةً لا يرقى إليها الشك. فاستهزأ بالحارة وسكانِها؛ حيث رأى رضاهم عن الموت، عبادةً له. وبعدما ناشد الخلود عند “شاور” وآمن بأنّ الموت قد مات؛ ازدراه الموتُ بأن جاءه في حوضٍ للدواب ، فغاص في الماء العكِر ومن حوله العلف والروث.
وتلك الرؤية قد تشربت بها رواياتٌ عديدة لمحفوظ لا الحرافيش فقط. فهو يقول في أصداء سيرته الذاتية:
“كان الموتُ ما زال جديدًا، لا عهد لي به إلا عابرًا في الطريق، وكنتُ أعلم بالمأثور من الكلام أنه حتمٌ لا مفر منه؛ أما عن شعوري الحقيقيّ، فكان يراه بعيدًا بُعدَ السماء عن الأرض”.
صراع الغرائز
تستندُ بنيةُ الصراع النفسي عند فرويد على التعارض بين نوعين من الغرائز، التي تمثل القوى المنبعثة من التركيب الفسيولوجي والكيميائي للإنسان. فغرائز الأنا والغرائز الجنسية قد دمجها فرويد ضمنَ غرائز الحياة التي تهدف إلى استمراريتها وحشدِ المزيد من المادة الحيّةِ لتأليف وحداتٍ أكبر وأوسع عن طريق الربط والدمج والبناء.
بينما غرائزُ الموت ذات النزعةِ العدوانية التي تتمثل في إيذاء النفس وإيذاء الآخر، تهدف إلى معارضةِ دافعِ الحياة وتفكيك تلك الوحدات للعودة إلى نقطةِ اختزالٍ كامل للتوتر تكمن في الحالة اللاعضوية والمادة غير الحية.
دورات الموت والحياة
سنتوقف الآن أمام نظرتين معارضتان للموت، عبر عنهما محفوظ بجلاء في رواياته -الحرافيش خاصة -، وأسس لهما فرويد في كتابه -الحب والحرب والحضارة والموت- كما أوضح في أيِّ حال يلتقيان.
1- الموت كبداية:
أوضحنا في النقطةِ الأولى الرؤية التي تُقر بأسبقية الموت على الحياة، بوصفه نقطة الارتكازِ الثابتة التي تتخلق منها دوافع الحياة والحركة.
2- الموت كنهاية:
ثم أشرنا إلى عدم تقبّل اللاشعور الإنساني لفكرةِ الموت بوصفِه سلبًا للحياة، وإنكار الفناء الإنساني من خلال التعلق بالخلود والسعي وراءه.
في رواية ( قشتمر) يقول أحد الصغار: “نينة قالت لي إننا كلنا سنموت” ويعقب الراوي قائلًا: “لا يتصور أن تموت أمه أو يموت أبوه. وليس في قوله جديد فيما يبدو ولكن شعورهم آمنٌ بأن الموت حتمٌ مؤجل إلى أجلٍ غير مسمى. كلنا نسلم بالموت بألسنتنا، أما قلوبنا فترمي به إلى موضعٍ في الزمان قصي. “
– يشير فرويد إلى أن الحالة التي التقت فيها النظرتان المتعارضتان للموت، كانت حالة البدائي في العصور القديمة حين يموت أحد أحبابه. فهو لا يعي الموت إلا بوصفِهِ انتهاءً للحياة، ولكنه أمام الحزن والأسى الذي يولده موت أحبائه، رفض الاعتراف بالموت بشكل كامل. فهو يتقبل الموت كحقيقة، ولكنه سيرفض بعد الآن أن يعترف بأن الموت نهاية الحياة، فذكرى الميت لن تفارقه، وسيعتمد على تلك الذكرى ليتصور نمط لحياة أخري بعد الموت” حيث أوحت إليه التغييرات التي يحدثها الموت بتقسيم الفرد إلى جسدٍ وروح، بل إلى أرواحٍ عديدة.. وأصبح تذكّر الميت لفترةٍ طويلة هو الأساس لافتراض أنماطٍ أخرى للوجود، وأعطاه تصور الحياة التي تستمر بعد الموت الظاهري”(6)
إذن فقد كان الموت دافعًا لنشأة تصورات الإنسان القديم عن الحياة الآخرة، والروح، والخلود، والأخلاق.
– ها أنت تتحدث عما وراء الموت!
– من أين أتيت؟ ألا يشبه الظلام الذي أتيت منه الظلام الذي ستذهب إليه بعد عمر طويل؟ وقد أمكن أن خرج من الظلام الأول حياة فما يمنع من أن تستمر الحياة في الظلام الثاني؟
خمارة القط الأسود.
– أما في العصر الحديث فإن الموت يعد دافعًا إلى التفكير في الحياة والخوض في تجربتها كما يصرّح محفوظ، ومن جانبٍ آخر يرصده فرويد، فإن مقاومة الميول العدوانية التي تدفعنا إليها غرائز الموت هي سبب تقدم الحضارة وارتقاء الثقافة.
مصادر :
1- قراءات في نجيب محفوظ- أ.د يحيى الرخاوى– الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992.
2- ما فوق مبدأ اللذة- سيجموند فرويد- ت: د/ إسحاق رمزي- الطبعة الخامسة- ص71.
3- ملحمة الحرافيش- نجيب محفوظ.
4- الحب والحرب والحضارة والموت- سيجموند فرويد- ت: عبد المنعم الحفني- الطبعة الأولى 1997- ص28.
5- الحب والحرب والحضارة والموت- سيجموند فرويد- ت: عبد المنعم الحفني- الطبعة الأولى 1997- ص33.
6- ملحمة الحرافيش- نجيب محفوظ.