حالة بليغ حمدي المثيرة للفضول!
لم يكن أول عهدي بألحان بليغ حمدي ممَّا يشجِّع على تقصِّي إبداعاته، أو حتى الاستماع إلى أغنيةٍ أخرى بلحنه؛ فقد كانت تجربتي الأولى مثبِّطة؛ وأظن أن هذا ما ستتفق عليه معي إن علمتَ أن أولَ لحنٍ سمعته لبليغ حمدي هو لحن أغنية: (فات المعاد)، الذي يبتدئ على وتيرةٍ مُقبِضةٍ. وكنتُ حينئذٍ في التاسعة من عمري، فكانت الافتتاحية كفيلةً بأن تنفِّرني من استكمال الأغنية في كل مرةٍ تُذاع فيها، برغم أنني علمتُ لاحقًا أن في لحن الأغنية جُمَلًا موسيقيَّة مَرِحَة، لا بدَّ للوصول إليها من العبور على أشواك الافتتاحية الكئيبة!
بالطبع ليس رأيي الانطباعي (قديم المنشأ) هذا موضوعيًّا على الإطلاق، ولقد تراجعتُ عنه بعد ذلك، برغم أن الانطباع الأول (الذي نعرف أنه يدوم)، دام عندي نحو عشر سنوات، كنت خلالها أَنفِر من بليغ حمدي، ومن كلِّ ذِكْرٍ عن حياته، ومن ألحانه، ومن بعض المغنِّين الذين نهلوا من إبداعاته!
ولا بد هنا من أنْ أذكر أنَّ وردة الجزائرية (التي تزوَّجها بليغ حينًا)، كانت سببًا آخرَ لنفوري الأوَّل منه! ربما للارتباط الشرطي الذي تولَّد عندي بينها وبينه، بسبب قِصَّة الحب العجيبة التي جمعتهما، وكثرة الألحان التي استأثر بليغ بها وردة.
أما عن سبب ضجري (القديم، غير الموضوعي) بوردة، فلا مجال لذكره هنا، وإن كان متعلِّقًا أيضًا بالانطباعات الأولى التي كوَّنتُها عنها بطفولتي (في منتصف التسعينيات)، والتي خيَّلَتْ إليَّ وردة امرأةً عجوزًا خشنة الصوت، فاتها (قطار) الفن والشباب معًا، لكنها أبت إلا أن تواصل الغناء على (حمار) غرورِها، فأتحفَتنا بأغنيةٍ رديئةٍ مثل (حرمت احبك)، وغيرها، محاولةً استعادةَ شبابها الذي كانت فيه امرأة مُطَمِّعة يسيل عليها لعاب الفنانين والملحِّنين، وعلى رأسهم بليغ حمدي! كان هذا هو رأيي القديم! ولستُ في حاجةٍ إلى تذكيركم بأنني اليومَ تراجعتُ عن كل هذه الآراء الطفولية الانطباعية (السَّطحية)، وبالطبع أصبحت الآن من المشغوفين بالفنانة العظيمة وردة، مثلما أصبحتُ من دراويش بليغ حمدي!
لا أزال حتى اليوم نادمًا على الأيام التي ضيَّعتُ فيها هذا الكنز الفريد، الذي تكشَّف لي مؤخَّرًا في ألحانٍ مدهشةٍ، لا أظنُّ أن أثرها (الطربي) قلَّ في عصرنا، عن الأعوام التي تخلَّقت خلالَها داخلَ مُخَيِّلةِ هذا العبقري؛ وأذكر على سبيل المثال لا الحصر: أغنية (حب إيه)، و(ظلمنا الحب)، و(ألف ليلة وليلة)، و(بعيد عنك)، و(على حسب وداد قلبي)، و(حبيبتي من تكون)، و(اسمعوني)، و(أنا بعشقك)، إلى آخر تحفه الخالدة.
ولا يجب أن أنسى (فات المعاد)، التي وَضَعَتْ حاجزًا هائلًا بيني وبين إبداعات بليغ حمدي وقتًا طويلًا، وذلك بسبب جرعة الكآبة والحزن والشجن والإحباط المكثَّفة التي بثَّتها افتتاحيتها في صدري، حين كنتُ صبيًّا.
وما لم أكن أعلمه في تلك اللحظة، أنَّ ما أحدثه فيَّ لحنُ بليغ حمدي، هو بالضبط ما نِيطَ بالموسيقى فعله منذ اكتشفها الإنسان: إحداث شعور مبهَم غامض غير واضح المعالم في نفس المتلقي، لكي تصل به إلى ذروة التجريد في الفن.
ولا أزال أذكر قول القائل:
إن غاية كل الفنون هي أن تتحوَّل إلى موسيقى!
مفاتيح ظاهرة بليغ حمدي
أولًا: النبوغ المبكر:
مِمَّا يُروى عن بليغ، أنه حَذِقَ العزفَ على العود في التاسعة من عمره، وحاول الالتحاق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى وهو في الثانية عشرة، لكنه رُفض بسبب صغر سنه. وهذا النبوغ المبكر يُذكِّرنا بـ (موتسارت)، الطفل المعجزة، الذي بدأ نبوغه الموسيقي في طفولته.
ولا يمكن للنبوغ المبكر أن يُزهر وينضَج إلا إذا صاحبه اهتمام وتنمية للموهبة ودراسة متعمقة، وهذا ما حرص عليه بليغ حمدي، وأساتذته المبكرون.
ثانيًا: إتاحة الفرصة لصاحب الموهبة:
في ذلك العصر الذهبي، لم يكن يدعو للاستعجاب أن يصلَ صاحبُ موهبةٍ، بإبداعه وحده، إلى المكانة التي يستحقها، دون اعتبارات الواسطة والشللية التي نعاني منها في هذه الأيام. فاستطاع الموسيقار (محمد حسن الشجاعي) ببساطة أن يوصل موهبة بليغ إلى الإذاعة المصرية، ليبدأ انطلاقه، مغنيًا في البداية، وملحنًا بعد ذلك.
ثالثًا: الشعرُ سابقًا للتلحين:
نعاني في هذا العصر من آفة في مجال الغناء، هي الألحان الجاهزة! أصبحت مهمة المغني هي اختيار اللحن الذي يروق له، ثم يبحث بعد ذلك عن شاعرٍ يؤلِّف كلماتٍ على هذا اللحن! ولم يكن هذا شائعًا في زمن بليغ حمدي؛ فقد كانت الكتابة غالبًا تسبق التلحين.
وحين نسمع هذه العبارة الذائعة: “إن السنباطي هو أفضل من لحَّن القصيدة“، نفهم منها هذا التوجُّه… الشعر قبل اللحن.
هل الشعر ضروري لفهم الموسيقى أم إن الموسيقى هي التي تشرح الشعر؟
اتفقنا في هذا المقال على أن الموسيقى تهدف إلى توليد أثر مُبهَم غامض، تنطوي عليه دائرةٌ ما من دوائر المشاعر الإنسانية، كالغضب أو الحزن أو البهجة أو الحماسة. لكن الدائرة الشعورية (الموسيقية) يزداد محيطها اتضاحًا باستنادها إلى كلمات الشعر.
حين يسبق الشعرُ التلحينَ، يستضيء المؤلفُ الموسيقيُّ بصور الشعر ومعانيه وأفكاره وموسيقاه والحالة التي يقصِد إلى خلقِها الشاعرُ، فيُنتج لحنًا متوائمًا مع الشعر، فتصبح الأغنية نسيجًا متماسكًا مبنيًّا بشكل منطقي؛ على خلاف أغاني هذا العصر المربِكة التي تجد ألحانها تقول شيئًا، وكلماتها تقول شيئا آخر مناقضًا، فترى الناس في حفلات الزفاف يرقصون مبتهجين مثلًا على أغنية، تَرِدُ فيها هذه العبارة: “اللي منِّي مزعَّلينِّي”!
هذه المفاتيح الثلاثة تمكِّننا من فهم حالة بليغ حمدي، والتجاوب مع عبقريته، والنفاذ إلى إبداعه الذي يزيدكَ حسنًا إذا ما زدتَه نظرًا، مثلما قال أبو نواس.