لماذا تقدمت أوروبا وتأخر الشرق الإسلامي؟
كيف أجاب عبد الله النديم على هذا السؤال منذ 120 عامًا
في نوفمبر 1893م، وعلى صفحات مجلّة “الأستاذ”، طرحَ عبدالله النديم السؤالَ بهذه الصيغة: “بِمَ تقدَّم الأوربيين وتأخرنا والخلق واحد؟”. عكست إجابة النديم على السؤال المُلِحّ وقتها ليس فقط ما في ذهن الثائر الشهير والمفكر الكبير، ولكن رؤية رجالات عصره ووجهة نظرهم بدرجةٍ كبيرة أيضًا.
كان عبدالله النديم الذي برز ككاتبٍ وشاعرٍ متميّزٍ في الصحف المصرية الناشئة في عهد إسماعيل كالمحروسة والعصر الجديد قد وجد ضالّته والدور الذي يلائمه في الثورة العرابية، والتي سرعان ما أصبح خطيبها الأول، وألمع كتّابها المدافعين عنها. ولكن هزيمة الثورة ووقوع مصر تحت نير الاحتلال الإنجليزي اضطرّه للفرار، حتى ظلّ عشر سنوات كاملة مطارَدًا، وإن لم يمنعه ذلك من الكتابة والتأليف، إلى أن قُبِض عليه؛ فحبس، ثم نفي لفلسطين، حتى عفا عنه الخديوي عباس الثاني، فعاد إلى مصر 1892م وأصدر مجلة “الأستاذ” قصيرة العمر؛ حيث عاجَلَ الإنجليز بإغلاقها ونفيه مرةً أخرى، فارتحل إلى “الأستانة” عاصمة تركيا، فقضى بها ما تبقّى من حياته، وتُوفي ودفن بها عام 1896م.
كان سقوط مصر في براثن الاحتلال ضمن غيرها من بلاد الشرق، والهزيمة العسكرية التي عكست هزيمةً حضاريّة مكّنت الدول الأوروبيّة من التغلب على بلادِ الشرق واستعمارها، كان ذلك دافعًا للسؤال حول أسباب هذه الهزيمة والتردّي الحضاري الذي أصاب الشرق فجعله لقمةً سائغةً في يد الأوروبيين.
ولا يضيع عبدالله النديم وقته في الردِّ على القائلين بأن سبب تأخر الشرق هو تكاسل الشرقيين بسبب الطقس الحار، أو لأسبابٍ عنصرية، أو أن الدين الإسلامي هو المانع من التقدُّم، ويصفهم النديم بـ”الببغاوات” التي تردّد أوهامًا أوروبية بعيدة عن الواقع.
“وأصحاب هذا القول كالببغاوات يحاكون الصوت ولا يدركون المعنى؛ فقد قلّدوا في هذا الوهم أوربيا في قوله الذي طارت به الصحف في كل مكان، وفاتهم أن الشرقَ ممتلئٌ بأديانٍ تغايِرُ الدين الإسلامي، والآخذون بها أضعاف الآخذين بالإسلام، ومع ذلك فإن تقهقرهم في المدنية والقوى العلميّة أكثر من المسلمين، بل لا نسبة بينهم وبين المسلمين في المدنية والألفة بين الناس ومعاشرة المغايرين لهم جنسًا ودينًا، فلو كان الإسلامُ مانعًا لَرَأينا الهند والصين في تقدُّم أوروبا، وحالهم شاهدة بأنهم أحطّ من المسلمين بدرجات”.
ورتّب عبدالله النديم أسبابًا لتقدُّم الأوربيين؛ فجعل أوّلها توحيد اللغة في البلاد الأوروبية لتميت حِميَة الجنس، بينما أخطأ ملوك الشرق عندما تركوا المحكومين يتكلّمون بلغتِهم، فبقيت الجنسيات حيّة بحياة اللغة.
ورغم أن ذلك قد يُفهَم كتأييدٍ لسياسة التتريك التي قام بها العثمانيون، وزادت الهوة بينهم وبين الشعوب العربية، إلا أن مقصد النديم كان عكس ما قام به الأتراك؛ فكان يدعوا إلى نبذ التركية واعتماد العربية كلغةٍ رسميّة.
“بتعليم أبناء الترك والكرد والجركس اللغة العربية ليكونوا مؤهلين لولاية الأقضية والولايات العربية في الشام والعراق واليمن، فحياة اللغة العربية في بني الترك خصوصًا وفي بني العرب عمومًا حياة للدولة من طريقٍ معنوي، فإنّ العربية بالنسبة لأمتنا هي أكبر وأعظم من الجامع الجنسي والقومي؛ فالتهاون فيها ينسينا القرآن الذي لو تُرجِمَ بأفصح لغة أجنبية جاء عبارة عن حكاية يقدر على إنشائِها أيُّ كاتبٍ، وضاعت بلاغته العربية، فبقاء العربية الفصحى هو بقاء الدين والجنس معًا”.
والسبب الثاني هو أنَّ الأوربيين جعلوا الإدارة العليا في يد رجالٍ من جنسهم، فلا تجدُ روسيا قائدًا لجيشٍ إنجليزيّ، ولا إنجليزيّ وزير لمالية روسيا، وهكذا. بينما دول الشرق لفقت العمال من الأجناس المختلفة، فانحلَّت عرى قواها؛ ففسد النظام وأُهدِرَت الدماء، حتى كان الأمرُ للأمَّة التركية التي كان نزولها لبعض الأمر لأجناسٍ من غير جنسيتها سببًا في تدخُّل أوروبا في مملكتها.
ويلاحَظُ أنَّ ما يقصده النديم بالأجناس الأخرى هم غير حاملي الجنسية العثمانية، وليس غير الأتراك، وربما يكون النديم قد شهد في أواخر أيّامه بتركيا صعود الخطاب العنصري التركي الذي أقام سدًّا فاصِلًا بين الأتراك والعرب والكرد تحت راية القومية التركية على يد الاتحاديين وتركيا الفتاة.
والسبب الثالث هو توحيد الجامعة الدينية التي أرقت أوروبا غزير الدم في سبيل توحيدها، فلا يُترَك دينٌ يوجِب الفِتَن الداخلية داخل الدولة (وإن كان النديم يؤكِّد على عدم جواز ذلك في الشرع الإسلامي)، واعتنت أوروبا بالدين شديد الاعتناء، حتى لا تكاد تبصِر شيئًا من أوانٍ إلى مبانٍ إلى فرشٍ وملابس إلّا وعليه صورة الصليب، كما بثّوا الجمعيات الدينية، وأنفقوا الملايين على القساوسة داعين إلى دينهم، ومكّنتهم السعة المالية والاحترام المجتمعي من تكوين جمعيات علمية وخيرية نافعة.
وفي هذا الصدَد، يحضُّ النديم على ضمان استقلال الأزهر، فلا يكون تابعًا للحكومة، فيقول: “ولا يُنجي الأزهر من تلاعب الأفكار به إلا استقلاله تحت إدارة شيخ شيوخه، وأن ثقتنا بالقائمين بالأعمال الآن لا تمنع من تخوُّفِنا من المستقبل إذا استمرَّ الاحتلال لأَجَلٍ طويلٍ معاذ الله”.
والسبب الرابع هو اتّفاق الأمم الأوربية بالمعاهدات ضد الشرق، وعدم سماحهم بتدخُّل الدول الشرقية في شؤونِهم، بينما تنافرت الدول الشرقية، وانتهت العداوة بينهم إلى مساعدة دولة شرقية لدولةٍ أوروبية على أمةٍ شرقية مثلها.
وفي نظر عبدالله النديم هذه هي الأصول الأربعة التي بَنَت عليها أوروبا قواعِدَ ممالكها، وتفرّعت عنها أسبابٌ ثانويّة ستة: فأوّلها، إطلاق حرية الكُتَّاب في بثِّ أفكارهم، وثانيها هي الأسباب الاقتصادية من نظام الأسهم (الائتمان)، ومساعدة الدول بالحجر على مصنوع الغير وتجارته (الحماية الجمركية)، والسبب الثالث هو سن قانون الامتياز والمكافأة والشهادات العلمية ونياشين الشرف؛ لتبثّ في الناس غِيرةَ المجاراة والمبارزة في التفنُّن والاختراع، والرابع هو تعميم التعليم، وجعله جبرًا، وتوحيده؛ فعلمت الأمة الدين وتاريخ الجنس واللغة وأخلاقها وعاداتها والقانون المدني الجامع لوحدة الأمة وتاريخ المملكة، والسبب الفرعي الخامس هو مجالِس الشورى، والتي تقيّدت بها الممالك، فألقت أوزارها على عواتق أعيان الأهالي ومنتخبيهم؛ لتستمدَّ من أفكارهم ما به حسن النظام، وتُبقي المملكة حية بحياة قواها العاملة، وأخيرًا، فمجالس واجتماع أهل الأفكار والسمر والتجارة (النوادي الاجتماعية).
هذه كانت إجابة عبدالله النديم على السؤال، والتي نحتاج لفهم رؤيته السياسيّة التي كانت سائدةً في ذلك العصر لإدراكها. كان النديم كمعظم رجال عصره، يرى الانتماء الوطنيّ -بصفته مصريًا- جزء لا يتجزّأ من انتماءه العقائدي كمسلم، وأن هويته مركبة، دائرتها الصغرى المصرية والكبرى العثمانية؛ باعتبار الدولة العثمانية تجسيد لفكرة الجامعة الإسلامية، فكانت رؤيته ومعه محمد عبده ورشيد رضا والأفغاني وغيرهم من أعلام العصر قائمة على إصلاح الدولة العثمانية لا الانفصال عنها، باعتبار أنَّ السبيل الوحيد لمواجهة الطغيان الأوروبي هو التوحُّد أمامه، في ظلِّ العصبة الشرقية التي عِمادها الجامعة الإسلامية، فهو العامل الوحيد القادر على توحيد الشرق، بغضِّ النظر عن الجنسيات والأعراق. وقد استعمل مصطلح “الجامعة الشرقية” أحيانًا على لسان النديم ومن قبله الأفغاني للدلالة على أن المقصود ليس توحيد المسلمين فقط، بل إقامة وحدة حضارية لها سمات ثقافية مميزة يتشاركها المسلمون وغيرهم من الأديان، فعندما يتكلم النديم عن مصر يقول: “فمصر التي نحن فيها، بلاد إسلاميّة مختلطة بقليلٍ من الأقباط الذين تجذبهم الجنسية إلى كثيرٍ ممّن توالدوا ممّن أسلم من سابقيهم، وتدفعهم الوطنية إلى التلاصق بالمجموع بجاذبية الوطنية والألفة وأصول المعاشرة التي قامت مقام اتّحاد الجنسين، فهم أخوان الوطنية، فمصر مخصوصة بجامعة وطنية لم يسمع بمثلها في الأقطار والأمة الإسلاميّة مع الطائفة القِبطية كأهل بيت يتعاونون على المعاش، ويعاورون الأعمال، ويتقاسمون النظر في شؤون البلاد، ويتعاضدون على حفظ الوطن من طوارئ العدوان”.
ويعول عبدالله النديم على الشورى في التوصُّل لأفضل سبل التقدم فيقول: “فلئن قيل أن الشورى لا تنجح في الشرق كما يزعم محبو الأثرة والانفراد بالتسلُّط، قلنا أن اتحاد الشرقي مع الغربي في الخلق يرد هذه الدعوى الباطلة، وإنّما ثابَرَ الغربيُّون على العمل بالشورى، وأخذوا يصحّحون الأغاليط، ويراجعون الخطأ، حتى ترتّبت المَلَكات. وما أوصلهم لهذه الغاية إلا اعتمادهم على الفضلاء الأذكياء منهم، حتّى اضطرّ الأغنياء والوجهاء لدراسة العلوم والفنون السياسية التي بها ترشّحوا للدخول في أندية الشورى”.
وخلاصة رأي النديم، أن سِرّ تقدم أوروبا هو أخذها بالأسباب الموجِبة لذلك، وهي -بألفاظٍ عصرية- الديموقراطيّة، وحرية الرأي، والتجارة، وتكريس المشاعر الوطنية بتوحيد اللغة الرسمية، والتعليم الرسمي والاعتناء به، والاعتزاز بالدين والتمسُّك به، ووضع معايير للاعتبار والتفوّق في المجتمع خِلافًا لمعايير الثروة والأصل، فيؤدي المجتمع للمبدع والمخترع الاحترام الكافي الذي يجعلهما قدوةً يُحتذى بها.
ويعلن النديم نداءه للمصريين فيقول: “فيا بني مصر، لم تبقَ قطعةٌ في الأرض إلا والجرائد تنقل لكم أخبارها وتُريكم أعمالها، فإذا لم تكونوا أهلًا للاختراع كما قال لكم أحد الإنجليز، فقلِّدوا عقلاءَ أوروبا في أفعالهم، وكفاكم الاغترار بترهات المضلّين والعياذ بالأجنبيّ الذي سلبكم ثوبَ المجدِ، لم يبقَ إلّا أن يأكلَ لحمكم ويشرب دمّكم غيظًا على أمّةٍ تدفعها الطوارئ إلى وهدة المصائب وهي قادرة على دفعها، ولا تتحرك حتّى حركة مذبوحٍ. ليعد المسلم منكم إلى أخيه المسلم تأليفًا للعصبية الدينية، وليُرجع الاثنان إلى القبطي والإسرائيلي تأييدًا للجامعة الوطنية، وليكن المجموع رجلًا واحدًا يسعى خلف شيءٍ واحدٍ، وهو حفظ مصر للمصريين. لا تظنّوا أنكم عاجزون عن استرجاع مجدكم والقيام بأعمالكم، فإنما أنتم بشر مثل رجال أوروبا، ولكنّهم تجمّعوا وافترقنا، وعرفوا حقوقهم وجهلناها، ورفضوا نصائحَ الغيرِ وقبلناها، وحفظوا دينهم ولغتهم وجنسيتهم وتهاونّا في البعض وتركنا البعض. فإذا جاريناهم في طرقهم الوطنية ساويناهم في الخصائص والمزايا، ودُوِّن لنا تاريخٌ جليل”.
واليوم بعد مرور أكثر من 120 عامًا على كلمات النديم، تغيّر فيها وجه الأرض مرات عدة، ولم تزل لكلماتِ النديم وأقواله صدى، إن وُضعت في سياق الواقع المغاير وجهه، ولكن هل يجدُ آذانًا صاغية؟
المصدر:
بمَ تقدّم الأوربيون وتأخّرنا: عبد الله النديم.
تحقيق د. محمد عمارة
نرشح لك الدواء المر – لماذا تقدم الطب في الغرب وتخلف في الشرق الإسلامي