بلاد تبنيها النساء، فما الفرق؟
ماذا لو حكمت النساءُ بلادَنا؟ وماذا لو منحنا النساء مكانهنّ الطبيعيّ ليثبتن جدارتهن؟ هذه أسئلة نجد إجاباتها كل يوم في عالمنا المتّجه نحو صوابه أخيرًا. ولكن، الرواية تطرح مسألةً أخرى هنا، فماذا لو اكتشفنا على حين غرة بلادًا تعيش فيها النساء فقط منذ ألفَي عام؟ كيف ستبدو لنا؟ وما هي القيم التي يمكن أن تنشأ عند مجتمع نسائيّ؟
يخوض “تيري” و”فانديك” و”جيف” رحلةً استكشافيةً في إحدى الأماكن النائية، ليعثروا على بلادٍ تسكنها النساء فقط منذ ألفي عام، فيقرّروا الدخولَ إليها غير واثقين من طبيعة المكان وعواقب التوغل فيه، وفي محاولتهم لاستمالة بعض الفتيات، يجدون أنفسهم قد سُجِنوا في قلعةٍ حتى يُبَتّ في أمرِهِم.
وبين شخصية “تيري” الذكوريّة، وشخصية “جيف” المتحيّزة للنساء، يتّخذ “فانديك” موقفًا نقديًّا، ويحاول فهم إمكانية وجود هذه البلاد واستمرارها، بل وازدهارها وتفوقها على بلادهم أمريكا في العديد من المجالات. ووسط مغامراتهم في بلاد النساء، ومحاولتهم للتأقلم فيها، تثير الكاتبةُ الكثيرَ من المواضيع المجتمعيّة، والاقتصاديّة، والسياسية، والتي نجحت النساءُ في تمثيلِها أفضل تمثيل، مقارنةً بالعالم الذكوريّ خارج بلادهن. فمن أبسط التفاصيل، إلى أعظم الأنظمة الاجتماعية، استطاعت النّساء تكييف عقولهنّ لتناسبَ احتياجاتهنّ المستمرّة في تحسين المجتمع، فمثلًا، غدت الملابس لديهنّ بأقمشةٍ متينة موحّدة، ذات خياطة متينة قوية، توفر الراحة لهنّ في العمل والحياة اليومية، بعيدًا عن أي موضات، أو أي أقمشة، أو ملابس الغرض منها الزينة فقط، أو إظهار أي مفاتن.
أما اللغة فكانت لغتهن سلسلة سهلة؛ وذلك لكي تتعلمها طفلاتهنّ بسهولةٍ، تمهيدًا لخوضهنّ في القراءة والممارسة. وهذا ما تعجّب منه الشبان الثلاثة، فقد استطاعوا تعلُّم اللغة سريعًا، وفي وقتٍ قياسيّ، قبل أن يعمدوا إلى المكتبة لقراءة مؤلفاتهنّ.
أما النظام التعليميّ فكان على أرفعِ مستوى، ملبيًا حاجات الطفلات في التعلّم عبر الممارسة والبحث والاكتشاف، خاصةً في عنايتهنّ بالطفلات عند تعلمهنّ المشي والاستكشاف من حولهنّ، الأمر الذي يعكس أن نهضة أيّ مجتمعٍ تقوم بشكلٍ أساسيّ على عنايته بالأطفال والمراحل التعليمية المختلفة المُقدَّمة له.
وقد عاشت النساءُ في بلادٍ استطعن تسخيرها لأهمّ حاجاتهن، فمن تكييفهن الطبيعة حولهن، إلى عنايتهن بأنواع الحيوانات الواجب تربيتها، وتلك الواجب استبعادها. استطعن أن يكفين مجتمعهنّ غذائيًا واقتصاديًا، دون الحاجة لأيّ علاقة مع أي بلدٍ أخرى؛ الأمر الذي نفى مفهوم الملكيّة، وجعل النساءَ تعِشنَ هناك كأخوات، بدون الحاجة لأيّ تملُّكٍ خاص.
نشأ عن هذا النظام الاقتصادي نظامًا اجتماعيًا أخلاقيًا قائمًا على مبادئ الأمومة في الاحتواء والتنظيم والبناء والتحسين المستمر، تحوّل إلى عقيدةٍ دينية آمنت بها النساء، وعملت بموجبها؛ لتبني بلادًا مُبهِرَة في مبانيها المُتقَنَة، وشوارعها المُعنى بها، ومنازلها المبهجة، وحدائقها الطبيعية الناتجة عن خبرة نسائية في التعامل مع النبات والأشجار المثمرة.
ومن هنا فإن الرواية، بجزأيها، هي نافذة تطل على سوء الأوضاع في عالمنا، مشيرةً إلى أهم نقاط الضعف التي تنخر أجسادنا المجتمعيّة، وتجعل من بلادنا أمثلة متواضعة للغاية مقارنة بعالم يمكن أن تبنيه النساء على قيم الأمومة والتعاون والتكافل المجتمعي.
وبعد محاولاتهم المستمرة التأقلم في هذه البلاد الجديدة، تقرر إيلادور العودة مع فان إلى بلاده أمريكا، في رحلة بحثيّة تخدم بها وطنها وتجمع فيها المعلومات عن العالم الخارجي، ولكنها تعود في بداية الحرب العالمية، فتصدم بالأهوال التي يمكن أن يخلقها البشر باستمرار، وبالعادات المجتمعيّة التي تأسر الروح الإنسانية وتقيّدها بآلاف القيود غير الضرورية، وتلف العالم مع فان محاولة في كل مرة استجماع رباطة جأشها ومحاولة فهم طبيعة هذا العالم الجديد والابتعاد عن الحكم عليه بسطحية، ومن هنا تبدأ محاوراتها مع فان في تحليل الأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ورصد مكامن الضعف فيها، خاصة فكرة الحرب المسلم بها في عالمنا بأنها “طبيعة بشرية”.
وقد رأت إيلادور الكثير من العادات المجتمعية القاهرة للمرأة، وتناولت منها عادة الصين القديمة في ربط أقدام الفتيات الصغيرات. نقتبس لكم منها:
في تلك الأيام، وبينما كنّا ننتظر في إحدى القرى، نستمتع بسماع ذلك الثريّ المحليّ الذي كانت له علاقاته التجارية مع أحد مرشدينا، كانت إيلادور في شقة النساء، وقد سمعت ذلك، معاناة طفلة قيدت أقدامها، وسرعان ما تم إسكاتها وضربها وتوبيخها للحفاظ على الهدوء في المحيط، ولكن إيلادور كانت قد سمعت أنينها، وقد استمعت إلى تفاصيل العملية من امرأة مُبشرة، ورأت بعينها أقدام تلك الصغيرة المتقلصة.
في تلك الليلة لم تدعني ألمسها أو أقترب منها، بقيت صامتة، تحدّق بعيون ثابتة، ترتعش طويلًا من فترة للثانية، عندما يتعلق الأمر بالحديث، فقد أمكنها الحديث عن الأمر بصوت ضعيف بعد عدة أيام، قائلةً ببطء:
“لا أصدق أن هناك رجالاً على وجه الأرض يمكنهم فعل شيء من هذا القبيل للنساء، للطفلات العاجزات الصغيرات!”
قلتُ: “ولكن ليس الرجال من يفعلوا ذلك يا عزيزتي، بل النساء، أمهاتهن، هنّ من يقمن بربط أقدامهن، إنهن يخشين أن يكبرن ويصبحن نساء ذوات أقدام كبيرة!”
سألت إيلادور بارتجاف تملكها ثانية: “يخشين ماذا؟”
كما تناولت الكاتبة على لسان إيلادور المفاهيم الذكورية المقحمة إلى الدين وأثرها التدميريّ على الإنسان أولاً والشعوب ثانياً، وتناولت الديموقراطية الأمريكية والتعددية العرقية، مشيرةً إلى ضرورة أن يفهم البشر قوانين علم الاجتماع قبل أن يبدؤوا بإنشاء أي دولة واستقبال المهاجرين إليها، كما أشارت للانقسام الجندري في الأدوار بين الرجال والنساء وأثره على البناء المجتمعي.
أما محاولاتها الإصلاحية فلم تتناولها بالصعوبة التي نتناولها فيها نحن، بل أشارت إلى أن العمل الجاد على كافة المستويات سيُحقق خلال ثلاثة أجيال فقط عالمًا أكثر أمانًا، مشيرة إلى أن العمل عند اقتناع الجميع به لن يتطلب الكثير من السنوات:
“كم من الوقت سيستغرق أن تقوم عشرون مليون امرأة بتصفيف شعرها؟ ليس أكثر من تصفيف شعر امرأة واحدة، إذا قمنَ بذلك سوية، إن الأرقام لا تُعقّد المسائل كما تتصور، إن ما يمكن تطبيقه في قرية صغيرة يمكن تطبيقه في جميع أنحاء البلاد في الوقت نفسه”
تفتح هذه الرواية، بجزأيها: “أرض النساء” و”النساء في أرضنا”، الأبوابَ للقارئ للنظر في الكثير من الأمور التي اعتدنا على شرورها غير الضرورية، وتقدّم آراءها فيها بطريقة تحليلية ومبسطة ومباشرة، متناولة جذور المشاكل وأصولها، خاصة عند حديثها عن النظام الأخلاقي – الديني والذي تُبنى عليه الكثير من المجتمعات اليوم، وكل هذا في إطار روائيّ ممتعٍ وفنتازيّ بامتياز.
شارلوت بيركنز جيلمان، هو الاسم الذي يجب أن يبحث عنه العربيّ اليوم، يُترجِم له، يَقرأ له، ويمضي في مناقشات مطولة لأهم أعماله، في محاولة لفهم جذور الحال المَرَضي الذي يعيشه العالم اليوم، ومن ثم رؤية أوجه الإصلاح فيه.