المُعجزة الإغريقية: بين الواقع والأسطورة (مترجم)
يرجع الفضل في تعبير «المعجزة الإغريقية» إلى إرنست رينان. فعندما زار المؤرخ اليونان في شبابه، فَتَنَهُ الأكروبوليس. «بالنسبة إلي، المُعجزة الإغريقية شيء لم يُوجد سوى مرة، ولم يسبق مُشاهدته أبدًا، ولن يُرَى مرة أخرى، ولكن مفعوله سيستمر إلى الأبد»، هذا ما كتبه في ذكريات طفولته وشبابه (1883).
بعد ذلك، غَدَت «المُعجزة الاغريقية» عبارة مُبتذلة تُشير إلى الانفجار الكبير المُدهش الذي كانت اليونان بؤرته نحو القرن الخامس قبل الميلاد. ينبغي الاعتراف بأنّ القائمة مُثيرة للإعجاب. الأكروبوليس والبانثيون ليسا سوى الآثار الباقية (المَرْئِيَّة) لعصر ذهبي لا مثيل له في التاريخ القديم.
في أسفل الأكروبوليس بأثينا، كانت المسارح تكتظ بجمهور يأتي لمشاهدة تمثيليات من جنس مُختلف: تراجيديات إسيخيلوس أو سوفوكليس أو يوربيديس، أو كوميديات أرسطوفانس. أما المعابد فقد كانت مُزينة بتماثيل فخمة تأتي الساكنة لمشاهدتها بإعجاب. في الشوارع، يُمكن للمرء أن يلتقي بسقراط وهو يُعطي دروسه لمن يُريد سماعه. بعد ذلك بقليل، وغير بعيد عن الأغورا، أسَّسَ أفلاطون مدرسة أطلق عليها اسم الأكاديمية، كما أقام أرسطو الليقيون في ضاحية المدينة.
لاحقًا، أنشأ إبيقور مدرسته في بناء رائع مُحاط بحديقة، مَدْفُوعَ الأجر من قبل دَاعِمِيه الأغنياء. أما الرواقيون فقد كانوا يُدَرِّسُون قرب الرواق، وهو عبارة عن أعمدة مُزينة برسوم جدارية تقع في أغورا أثينا، حيث كان زينون وأتباعه يتناقشون ويُعَرِّفُون بأفكارهم.
إنّ في أثينا حيث ظهر جنس دراسي جديد، الهِستوريا، الذي تُرجِمَ بطريقة مُتسرعة قليلًا إلى كلمة «تاريخ». إذا كان هيرودوت قد سُمي ب «أب التاريخ»، فإنّ كتابه الاستقصائي حول الحروب الميديَّة لا يهدف فقط إلى دراسة الماضي: بما أنه يصف مناطق زارها (لهذا السبب فهو أيضًا عالم جُغرافِي)، ويهتم بعادات شعوب؛ مثل الفُرس والسكيثيين والمصريين (ما يجعله أب الأنثروبولوجيا). كما أنه يُحلل شكل نظامهم السياسي، وبالتالي فهو أيضًا أب علم السياسة…يكفي القول إنه أب الإثنوغرافيا والجغرافيا والعلوم الاجتماعية بصفة عامة.
إنّ ابتكارات ثقافية كثيرة أخرى طبعت هذه الفترة المُتْرَفَة: الطب (أبقراط)، الرياضيات (فيثاغورس، زينون)، أو أيضًا فن الخطابة (بروتاغوراس).
نهاية المُعجزة
ومع ذلك فالمؤرخون اليوم قد تخلّوا عن فكرة «مُعجزة إغريقية»؛ أولًا لأنّ الابتكارات الثقافية لم تظهر فجأة من اللا مكان. فالرياضيون والفلكيون والأطباء قد استملكوا معارف علماء مصر وبلاد ما بين النهرين. المُبرهنات الرياضية المنسوبة إلى طاليس وفيثاغورس كانت معروفة مُسبقًا لدى علماء الهندسة لقرون قبلهم.
زِد على ذلك أنّ هذه المعجزة لم تكن فرقعة نارية مُحددة في مكان واحد. فالدينامية الثقافية قد امتدّت عبر عدة قرون وشملت أربعة مراكز كبرى على الأقل: من ملطية (السواحل التركية) إلى الإسكندرية (مصر) مرورًا بإيطاليا. مَدْعَاةٌ للشك أيضًا، الفكرة القائلة بثورة عقلية نقلت الذهنية الإنسانية من «الأسطورة إلى العقل». ينبغي بشِدَّة تنسيب هذه السردية المُؤسِّسَة التي استُخدمت في كثير من أشكال التأريخ العلمي والفلسفي.
قبل الإغريق، كان المهندسون والتقنيون والنُّسَّاخ والفلكيون والأطباء في الهند وبلاد الرافدين، يعرفون تمام المعرفة تحكيم العقل. في المقابل، لم يقطع الإغريق بشكل مُباغت صلتهم مع الفِكْرٍ الأسطوري والسحري. فقد ظلّت الميثولوجيا جزءًا من الزاد الثقافي للشباب الأثيني الذي كان يرتاد المدرسة: كانوا يعرفون عن ظهر قلب قصص زيوس وأثينا وأخيليس وهيرقليس.
كما أنّ الإغريقيين قد استمروا طويلًا في ممارسة طقوس دينية وتقديم قرابين على غرار أسلافهم، بجانب ممارسة العرافة واستشارة الكهنة (كهنة مبعد دلفي). أما الفيثاغوريون فقد شَكَّلُوا طائفة باطنية نباتية كانت تُقدس الأعداد، وفيثاغورس نفسه كان يتباهى بصنع المُعجزات. حتى سقراط –الذي كان يزعم أنه لا يعرف شيئًا– كان يُؤمن إيمانًا راسخًا بجنة الفلاسفة. دون نسيان حديقة أبيقور حيث كانت تُمارس عبادة الأسلاف.
ينبغي العثور إذًا على معيار أكثر دقة للانتقال من الأسطورة إلى العقل من أجل تحديد جِدَّة الفكر الإغريقي. ذلك أنّ الجِّدة أمر لا غبار عليه على كل حال. وهكذا يُمكن القول إن استقصاءات هيرودوت حول تاريخ الحروب الميدية ليس لها نظير عند مُدَوِّنِي وحكواتيي الفترات السابقة. كما أن دراسات أرسطو حول الحيوانات أو الدساتير السياسية، تُمثِّل أشكالًا بحثية أصيلة.
بدا إذًا أنّ الفكر قد تحرر من اهتماماته التطبيقية. كما تحرر من مواضعاته. في أعماله الكوميدية، لا يتردد أرسطفانس في السخرية من السلطات القائمة وانتقادها، الأمر الذي يصعب تخيله بالنسبة إلى الموظفين النُّسَّاخ القدماء وباقي «مُعلمي الحقيقة» في اليونان القديمة. هكذا يدعو مارسيل ديتيان حاملي العلم في ذلك الوقت.
اختلاف رئيسي مع الفترات السابقة يهم أولًا المنهجية الحجاجية والبحث عن الأدلة التي نجدها سواء في الفلسفة، أو في التاريخ، أو في الرياضيات. فرق آخر يتعلّق بالبحث عن نماذج مُفَسِّرَة. في علم الفلك على سبيل المثال، كان أهل بلاد الرافدين مُهتمين بمراقبة ووصف تحركات النجوم، ورصد أيّ انتظام في تحرّكها، لكنهم لم يُنتجوا نماذج من أجل تفسير تحرك الأجرام السماوية كما سيفعل الإغريق لاحقًا، من أرسطو حتى بطليموس.
كما أنّ طب أبقراط لم يعد ينحصر فقط في فَهْرَسَةِ الأمراض والعلاجات. بل أصبح يبحث عن أسباب وعلاجات بعلاقة مع نموذجٍ للجسم وقواه الخفية (كما هو الحال في نظرية الأخلاط الأربعة).
ماذا حصل؟
فرضيات كثيرة تَتَوَاجَهُ من أجل محاولة تفسير الثورة الذهنية (عوض المعجزة) التي قام بها الإغريق. المؤرخ جوفري لويد استعرضها في كتابه “أصول وتطور العلم الإغريقي (1979)”. هناك خمسة تفسيرات كُبرى تتكرر بانتظام في نظره:
أولًا: الازدهار الاقتصادي للمدن
التطابق بين القوّة الاقتصادية والعصر الذهبي للفكر، ظاهرة جَلِّيَّة في كثير من فترات التاريخ. هكذا كان الأمر سلفًا في بلاد ما بين النهرين، وهكذا سيكون عليه لاحقًا في زمن الإسلام الأنواري، والنهضة، وعصر الأنوار. جوفري لويد يستبعد هذه العلاقة البسيطة للغاية. صحيح أنّ الثروة شرط مهم لازدهار الأفكار. صحيح أنّ الوسائل ضرورية من أجل بناء المكتبات، وتمويل المراصد الفلكية، وإعالة المجموعات العلمية والفنية.
غير أنّ مصر وبابل تُقدّمان اعتراضًا نحو القرن السادس قبل الميلاد، هذان المنطقتان «كانتا أغنى وأقوى من أيّ مدينة من المدن الإغريقية بما لا يدع مجالًا للمقارنة». أكثر من ذلك، كانت الإمبراطورية الفارسية تدعم الفنون والعلوم دون أن يعرف الفكر فيها نفس ما عرفه من انتشار في اليونان في ذلك الوقت.
ثانيًا: التطور التكنولوجي
في بلاد ما بين النهرين، استدعى مَسْح الأراضي ازدهار الهندسة. كما أنّ التجارة شجعت على تطور الرياضيات. هل بالمثل يحق لنا القول إنّ ازدهار العلوم في اليونان كان سببه ظهور تقنيات جديدة؟ جوفري لويد يستبعد هذه الفكرة بدعوى غياب ابتكارات أساسية للإغريق في هذا الشأن مقارنة بالبابليين والمصريين.
ثالثًا: التهجين الثقافي
كانت اليونان تتواجد في مفترق ثقافاتٍ؛ وبالتالي فهل مَكَّن تقاطع المعارف وتماسُّها من منح دينامية للأفكار الجديدة؟ جوفري لويد يعترض: الفرس كانوا أيضًا مُتواجدين في مكان إستراتيجي لتقاطع الثقافات، بين الهند، وبلاد ما بين النهرين، ومصر، وأوروبا. غير أنّ العلماء الفرس لم يُطَوِّرُوا علومًا أو فلسفة.
رابعًا: ازدهار الكتابة
كانت الكتابة موجودة سلفًا منذ زمن طويل. إلّا أنّ مَعْيَرَةَ الأبجدية، وإنشاء المكتبات، وتأليف أولى الكتب نحو القرن الخامس قبل الميلاد، من شأنه أن يكون قد سَهَّل عملية تراكم المعارف والتفكير المعقول، كما سبق للأنثروبولوجي، جاك كودي، أن فسَّر ذلك في كتابه “العقل الكتابي (1977)”.
يتعلّق الأمر هنا، بالنسبة إلى جوفري لويد، بأثر جدي يستحق الاقتفاء. بدون ثقافة مكتوبة، من غير المُرجح أن يكون بإمكان العلم والفلسفة أن يقوما بقفزة إلى الأمام. تراكم المعارف يفترض مكتبات كبيرة، عِلْمًا بأن أعمالًا كتلك التي تعود إلى أفلاطون أو هيرودوت غير ممكنة إلّا باللجوء إلى الكتابة.
ومع ذلك، فإذا كانت الكتابة تُشكل شرطًا ضروريًا، فإن هذا الشرط ليس كافيًا. سبعة قرون قبل الميلاد، كان الملك الآشوري، آشوربانيبال، قائدًا مُثقفًا يملك مكتبة غنية (ننوى) دون أن يكون ذلك كافيًا لانتشار الفلسفة والعلوم في إمبراطورتيه.
خامسًا: إقامة الديمقراطية
هذه الفرضية الأخيرة تحظى بتأييد جوفري لويد. في نظره، «البحث عن الأدلة» مُرتبط بالبنية السياسية للمدن الإغريقية. في أثينا كان نقاش الأفكار دائم الحضور سواء في مسائل السياسة، أو الدين، أو القضاء. من أجل الإقناع، ينبغي ممارسة الحِجاج والبرهان، وتقديم أدلة. من هنا ازدهرت تشكيلة عريضة من «تقنيات الكلام»: الخطابة، والترافع القضائي، والجدل، وفنيات سجالية (هدفها مُحاصرة الخصم داخل تناقضاته)، وأخرى تَحُثُّ على النقاش النقدي والبحث عن الدليل. في كل مكان، أصبح ضروريًا «تبرير» ما يُقال. في المجال القضائي مثلًا، تشتغل المحاكم بلجان مُحلفة تبت في القضايا في جلسة تناظرية.
هذا الارتباط الوثيق بين النقاش الديمقراطي وظهور الفلسفة، رغم جاذبيته، يصطدم أيضًا باعتراضات: لقد كانت الديمقراطية فترة قصيرة في التاريخ الإغريقي (بِضع عشرات السنين في أثينا)، في حين أنّ الفكر الإغريقي قد ظهر قبل ذلك وبعده بكثير، بما في ذلك داخل مدن لا تمتّ للديمقراطية بصلة.
إنّ طاليس وأناكسيمادنر اللذين أسَّاسَا علم الطبيعة في مدينة مَلَطْيَة، وفيثاغورس والفيثاغوريين الذين كانوا يُقدسون الأعداد، لم يكونوا حقًا خبراء في النقاش التناظري. فمن أجل الدخول إلى الطائفة، على المرء أن يبقى صامتًا ويستمع إلى المُعلّمين لعدة سنوات!
وبالتالي نجد أنفسنا تحت إغراء التطرّق إلى فرضية أخرى مُجددًا: ليس مُستبعدًا أن تكون «المُعجزة الإغريقية» ثمرة تَمْكِين «طبقة مُبدِعة» (فلاسفة، وأدباء، وفنانون)، التي مع بقائها قريبة ومرتبطة بِسُلْطَة (هي مثل الزبون لها)، لم تعد خاضعة لها كما كان النُّسَّاخ وباقي «مُعلمي الحقيقة القدماء».
هذه الطبقة المُبدعة شَكَّلت مجموعة جديدة مُستقلة أصبح بإمكانها أن تكشف أفكارها وإبداعاتها، دون أن تكون تحت وصاية أحد. سقراط كان مُعلمًا للشبيبة الأثنية، لكنه كان حرًا في تعليمه. أرسطو الذي كان ابن طبيب مَلَكِي، تَمَكَّن من الاستفادة من شيء من الحرية من أجل نشر دراساته البيولوجية. أما المسرح الذي ينحدر من تمثلات دينية، فقد استطاع التحرر منها مع أرسطوفانس ويوربيديس، إلخ.
من أجل التَّحَقُّق من هذه الفرضية، ينبغي مقارنة كيف صاغ مُنتجو الأفكار (الفلاسفة، والعلماء، والأنبياء، والكُتَّاب) أعمالهم في عصور وأمكنة أخرى: العصر الذهبي الإسلامي مثلًا.
Hors-séries Sciences Humaines n°29 – janvier-février 2024