الكولونيل لا يهوى الموسيقى: رحلة ظهور “حبيبي يا نور العين”
في مطلع شهر فبراير من العام 1986م، أو شهر “النوّار” حسب التقويم الرسمي للجماهيرية العريبة الليبية العظمى، كانت عربات نقل كبيرة محملة بالعديد من الآلات الموسيقية الغربية في طريقها إلى الساحة الخضراء في وسط العاصمة الليبية طرابلس، لم تكن تلك الآلات في طريقها لإحياء حفلة موسيقية في إحدى قاعات المدينة، ولكن كانت في رحلتها الأخيرة نحو المحرقة.
بالعودة قليلاً للوراء بالتحديد في الثاني من مارس/ الربيع عام 1977م وفي أثناء انعقاد المؤتمر القومي العام بمدينة “سبها” أقر ممثلوا الشعب الليبي تحت قيادة العقيد “معمر القذافي” إعلان قيام سلطة الشعب والذي تم بموجبه تغيير نظام الحكم من جمهورية إلى نظام جماهيري إشتراكي واعتبار القرآن الكريم شريعة المجتمع في الجماهيرية الجديدة، كما أقر نظام السلطة الشعبية المباشرة وحدد مسؤولية الدفاع عن الوطن على عاتق كل مواطن ومواطنة.
تضمنت تلك القرارات الحث على معاداة كل الأنظمة الغربية وما تنتجهلها من فكر وثقافة، وبالطبع كانت الموسيقى والغناء والسينما من أكثر ما تضرر من تلك القرارات، فكان نتاج ذلك اختفاء تدريجي لدور العرض السينمائية، هجرة أو هروب الفنانين المعارضين لنظام العقيد القمعي، قبل أن ينتهي المشهد بحرق الآلات الموسيقية في وسط الساحات الشعبية.
في تلك الفترة كانت الأغنية الليبية قد بدأت في الانتشار على نطاق واسع بفضل مجموعة من الملحنين الشباب ممن حاولوا تأسيس مدرسة غنائية جديدة لا تعتمد على أغاني التراث الليبي فقط ولكن تواكب التطور التقني والعلمي للموسيقى حول العالم, وبالتحديد ففقد برز اسمان على الساحة الفنية استطاعا أن ينقلا الأغنية الليبية لنطاق أرحب.. (أحمد فكرون) و(ناصر المزداوي) كانت حالة التمرد تلك بدأت في بداية حقبة السبعينيات من القرن العشرين مواكبة لما عرف وقتها بالثورة الثقافية, لكن فكرة كونك ليبي تحكم بنظام قمعي يعني أنه لا أمل في بزوع نجمك فإما التعتيم على موهبتك أو الهجرة.. كان خيار ناصر المزداوي هو أن يحمل حقيبة سفره ويهاجر بعيداً بعد أن تم حرق آلاته الموسيقية في محرقة كبيرة في ساحة الشهداء قي مشهد يعود للقرون الوسطى, تلك الآلات التي أدعى النظام وقتها أنها تخدم الغزو الثقافي الغربي فأضحى الفن تهمة.
قبل ذلك بسنوات كانت ظاهرة الفرق الموسيقية العربية قد بدأت في الانتشار, ساعد في ذلك التأثير القوي للفرق الموسيقية العالمية التي ظهرت على الساحة قي الخمسينيات والسيتينيات.. فكان ظهور الفرق العربية كفرقة “بيتي شا” المصرية والعديد من الفرق الأخرى التي انتهجت ايقاع موسيقي مختلف, كان ذلك كله مقدمة لظهور شاب ليبي يغني حاملاً جيتاره بكلمات بسيطة سكنت وجدان الشباب العربي:
إعلان
“مسافر وحامل في إيدي شنطة سفر
مسافر وحامل فى قلبي حكاية عمر
الغربة طريقي، ورفيقي
وأغلى أصحابي ضي القمر..”
الشاب الصغير “ناصر المزداوي” المولود في الخامس من سبتمبر عام 1950 فى طربلس لعائلة ثرية تنتمي إلى بلدة (مزدة) فى الغرب الليبي، وهى مصدر نسبه واسم شهرته (المزداوي).. قد درس الموسيقى بمعهد (جمال الدين الميلادي) للموسيقي العربية فى طربلس، وتأثر كثيراً بتجربة ملهمه وملهم الشباب العربي في ذلك العصر؛ المطرب المصري عبد الحليم حافظ كما تأثر المزداوي كذلك بـ (الفيس بريسلي، فرنك سيناترا، وفرقة البيتلز) لذلك وفي سن صغيرة كون فرقته الموسيقية والتي أطلق عليها اسم (النسور) مع مجموعة من أصدقائه وبهذا بدأت مسيرة المزداوي الذي استطاع أن يجذب الانتباه بألبومه الموسيقي الأول (غربة) المتضمن لتسع أغنيات (مشينا، شنطة سفر، سافر، صرنا شيابين، زي الليلة، عيون عربيات، لا من نشد عني، مرات، رسالة) وحاز به على الأسطوانة البلاتينية كأصغر مطرب عربي يحصل على الجائزة.
وعقب تغول الرئيس الليبي (معمر القذافي) وانفراده بالحكم عقب ما اسماه (الثورة الفكرية) التى ظهرت في ليبيا عام 1973، وما فعله في المعارضين والتنكيل بهم.. كان الخيار الأمثل لأصحاب الفكر والرؤى هو الهجرة فاختار (ناصر المزداوي) وغيره من الفنانين الغربة فحمل شنطة سفره وجيتاره وسار كشاعر جوال يتجول من بلد لأخرى قبل أن يستقر به المقام في إيطاليا لفترة من الزمن.
تنوعت انتاجات المزداوي في تلك الفترة ما بين الموسيقى الغربية وإعادة توزيع الألحان التراثية الليبية, فكانت ألبومات مثل “أنغام شعبية” و”رحلة عمري” و”الليلة”.. ثم جاءت النقلة الأكبر والأكثر تأثيراً في الأغنية العربية عقب انتقاله للعيش في القاهرة بناءاً على نصيحة صديقه حميد الشاعري وفي القاهرة التقى بـالنجم “عمرو دياب” الذي لم يفوت الفرصة فأسند للمزداوي تلحين الأغنية الرئيسة في ألبومه المزمع صدوره في أول عام 1996م وكان الأول في تعاونه مع شركة عالم الفن؛ وهي أغنية “من أول مرة” من كلمات الشاعر “مجدي النجار” ذلك قبل أن تتدخل يد القدر وتغير مسار الأحداث بصدفة عجيبة لتخرج للنور أغنية “نور العين”.
نور العين: أغنية القرن
عقب تعاونهما الأول في أغنية “من أول مرة” قرر “عمرو دياب” إنتاج ألبوم غنائي للمزداوي كنوع من رد الجميل للموسيقي الذي تأثر به دياب في شبابه -حسب رواية المزداوي- وفي إحدى جلسات الإعداد للألبوم مع “عماد دياب” شقيق “عمرو دياب” عرض المزداوي الأغاني الممكن إعادة إصدارها مرة أخرى من ألبوماته القديمة وكان من ضمنها أغنية “يا نجومً عوالي” والتي تقول كلماتها:
“يا نجوماً عوالي يا بعيدة
يا أنس الليالي..
دزوا للغوالي تنهيدة
توصف لهم حالي.. ”
وبالصدفة سمع “عمرو دياب” شقيقه وهو يدندن كلمات الأغنية التي علقت في ذهنه بعد جلسته مع المزداوي.. ليدرك الهضبة وقتها أن تلك الأغنية هي الرهان الرابح فيقرر غنائها بعد تغيير كلمات الأغنية وجعلها باللهجة المصرية وقد كتب كلماتها الشاعر “أحمد شتا” وأعيد التوزيع الموسيقي لها على يد “حميد الشاعري” بإيقاع إسباني ساهم بعد ذلك في انتشارها السريع.. بل وقرر “دياب” أن تكون الأغنية “الهيد” للألبوم الجديد.
وسرعان ما غزت الأغنية العالم أجمع نظراً لايقاعها المألوف على الآذان.. فكان من المعتاد أن تسمعها في أي ديسكو أو حفلة موسيقية في أي بقعة في العالم بل وأعيد غنائها بالعديد من لغات العالم ليتوج نجاحها بعد ذلك بحصد جائزة الميوزيك أوورد كأكثر الأغاني توزيعاً في منطقة الشرق الأوسط.
ومع مرور السنوات بقيت الأغنية حية في أذهان محبي الموسيقى الشرقية.. وظلت نقطة مضيئة في تاريخ ناصر المزداوي الذي حفر اسمه في تاريخ الموسيقى العربية والعالمية وظل يغرد ولم يسكته قمع النظام الدموي الذي ظل جاسماً على أنفاس ليبيا لعقود طويلة.
إعلان