“القنفذ والثعلب” 1953 ـ أشعيا برلين (مترجم)
“يعرف الثعلب العديد من الأشياء، بينما يعلم القنفذ شيئًا واحدًا مهمًا”
منذ اللحظة التي تعرّف فيها “أشعيا برلين”، المحاضر في جامعة أكسفورد، في ثلاثينيات القرن الماضي، إلى ذلك الشطر الغامض من قصيدة نثرية، كُتبت في القرن السابع قبل الميلاد، للشاعر اليوناني “أرخيلوخوس”؛ منذ تلك اللحظة، أصبح هذا الشطر بمثابة قاعدة طريفة تمكّن “أشعيا” وزملاؤه بواسطتها من تصنيف معارفهم: إما ثعالب وإما قنافذ.
وعلى الرغم من طرافة الأمر في البداية، إلا أن تلك القاعدة لم تفارق ذهن أشعيا برلين؛ بل قد صارت الدافع والمحرّك الرئيسي لمقالة بديعة عصيّة على التكرار، عن الكاتب الروسي: ليو تولستوي. أنجز أشعيا المقالة في غضون يومين، وكان يفترض أن تُنشر تحت اسم “الشك التاريخي عند تولستوي”، ولكنها نُشرت تحت اسمها الفعلي “القنفذ والثعلب” باقتراح من الناشر جورج ويدنفيلد.
بالإضافة إلى بعض التحليل الذي أفرده “أشعيا برلين”، في المقالة، لرواية “الحرب والسلام”؛ تضمّنت المقالة -أيضًا- تفصيلًا للنظرية المقترحة من قِبله وتمييزًا بين النمطين؛ فبينما يملك نمط الثعالب شغفًا تجاه تنوع وتعدد الأفكار والفرضيات والآليات ..إلخ، يميل نمط القنافذ إلى التعامل مع كافة الأمور من منظور أحادي مركزي شامل.
انطلاقًا من هذا المضمون، وبنظرة نقدية متفحّصة لاحقة، نُدرك أن هذه النظرية لا تُعد -فقط- إحدى أذكى آليات تصنيف البشر طبقًا لقدراتهم، ولكنها تحكي -أيضًا- عن الطريقة التي يواجه بها كل من النمطين الواقع من حوله؛ الثعالب -على سبيل المثال- تتسع مخيلتها لاستيعاب الكثير من المعلومات، مما يجعلها قادرةً على الإيمان بأن العالم من حولهم هو عالم متماسك، يخضع للعديد من الظواهر غير المفهومة التي لا تتناسب وحدود المساحة المعرفية التي يملكها كل منهم، ولذلك هم قادرون تمامًا على التأقلم مع الواقع ومواجهته. في كتابه “حياة أشعيا برلين”، يقتبس كاتب السيّر الذاتية “مايكل إيجانتيف” على لسان “أشعيا” ذاته ما يؤيد نظرية الثعالب في مواجهة الواقع؛ “الكون الذي نعيش فيه يحوي من المعطيات أكبر مما نستطيع استيعابه، ونحن نعيش فيه وبواسطته، وتتجلى حكمتنا في الحياة بذاك القدر الذي نسمح به من التصالح مع تلك المعطيات أو التسليم بها.”
وعلى العكس من المنظور السابق، فالقنافذ ـ طبقًا للتصنيف البرليني ـ لا تتصالح أبدًا مع العالم وتظل في نزاع دائم مع الواقع، وذلك لكون هدفها وطريقتها في التعامل معه تتضمن التركيز على شيء واحد كبير، وبتفصيل أدق -حسب كلمات إيجانتيف-: “تجاهد القنافذ وتسعى، دون كلل، لمنح العالم صفة الشمولية والتعامل مع الواقع بمنظور أُحادي؛ وعليه، بينما تتأقلم الثعالب بمرونة مع العالم وتعيش في سعادة، تعاني القنافذ طوال حياتها في سعيها الدائم لقولبته وتأطيره.”
وتتعدى مقالة برلين الشهيرة مفهوم التصنيف الحيواني الصِّرف، فهي لا تتعلق -علي الإطلاق- بالحياة البرية. وفي تعرُّضه لأنماط الشخصية الفكرية المتميزة للمبدعين، يصنّف برلين الفنانين التالي ذكرهم: دانتي وباسكال وإبسن وبروست (ضمن آخرين) تحت نمط القنافذ؛ بينما يضع شكسبير وهيرودوت وأرسطو ومونتين وبلزاك وغوته وجويس تحت التصنيف النمطي للثعالب.
وإكمالا لذلك الفصل -التصنيف الفكري للمبدعين- ومرورًا بتصنيف دقيق للعديد من الأدباء الروس العظماء: بوشكين، ودوستويفسكي، وتورغينيف، وتشيخوف، وغوغول، يصل “برلين” -أخيرًا- إلى الحالة الغريبة المحيّرة، للكونت ليو نيكولاييفيتش تولستوي، ويعترف بكونه قد أعيته السبل في إخضاعه للتصنيف. ويتساءل “برلين”، في هذا الصدد، عما إذا كان تولستوي أحد أولئك الذين يتمتعون برؤية ذات أبعاد أحادية أو متعددة، وهل يتكون وعيه بتأثير مادة واحدة، أو هو مركّب من عناصر عديدة “غير متجانسة”؛ ويعترف إثر ذلك: “لا توجد لسؤالي هذا إجابة واضحة أو فورية.”
عند هذه النقطة، تحديدًا، تتحوّل مقالة “برلين” إلى مقالة تتناول فلسفة تولستوي في الفن والتاريخ (الحرب والسلام أنموذجًا)، رحلةٍ مشوّقةٍ تمتد عبر صفحات لا تتجاوز المائة. كتبت صحيفة “الأوبزرفر”: “هذا الكتيّب ممتع جدًا وحاد للغاية، حتى إن القارئ ربما لن يلاحظ على الإطلاق النبرة التعليمية المتفلسفة للكتاب”. وعبر المحيط الاطلنطي صرّحت صحيفة “النيويورك تايمز“: “لم يكتف السيد “برلين” بتمرّسه التام وسعة معرفته بنواحي الأدب والفلسفة بالقدر الذي يتطلبه مقاله، ولكنه أفاض -أيضًا-بفصاحة في وصف اللغز العصي لتناقضات شخصية تولستوي، وأسهب على طول المقال ببلاغة لا تقارن.”
في مقاربة لرأي الناقد الأمريكي الأشهر”إدموند ويلسون” عن تولستوي، يُلخّص “أشعيا برلين” مقالته ببساطة موضحًا: “تولستوي الذي أعرفه جُبلت طبيعته ومواهبه على التصرف كثعلب، إلا أنه عاش طوال حياته مؤمنًا بنظرية القنافذ في العيش ومحاولًا أن يجعل نفسه واحدًا منهم. وهذا هو الشرخ الواضح في شخصيته والذي يتجلى فعليًّا للجميع. ولا يقتصر هذا “الشرخ” على تولستوي وحده؛ وإنما هو -في الحقيقة- تناقض عالمي، وذلك لكون الإنسانية جمعاء، بينما تحاول جاهدةً التصالح مع العالم كما هو بغموضه وصعوباته، هي -في الحقيقة- تتمنى الوصول إلى حقيقة بسيطة وموحّدة عن العالم تمنحهم تفسيرًا عميقًا ونهائيًّا ومُريحًا عن الوجود وعن كينونتهم.
تكمُن بطولة القنافذ في رفضهم للمسلّمات، وفي كونهم لن يخضعوا -ربما أبدًا- للقيود المُلزمة. حسب كلمات “إيجناتيف”، لطالما تعامل “تولستوي” بتهاون أو مرونة لا مُبالية تجاه كل العقائد، الدينية منها والعلمانية؛ غير أنه لم ييأس من أمنية التوصل يومًا لحقيقة كاملة وتفسير نهائي.
إحساس “تولستوي” بالواقع -كما كتب برلين مُفسرًا- كان حتى النهاية مخيبًا جدًّا، وذلك لعدم توافقه، بحال، مع أي من المثالية الأخلاقية التي استطاع بناءها بشذرات من أفكاره وإنتاجه الأدبي الذي غيّر به شأن العالم. وقد عاش تولستوي عمره الطويل مجاهدًا بجميع ما يملك من حصافة ذهنية لإنكار هذه الحقيقة.
وقد غدا التمييز بين الثعلب ذي الرؤية التعددية المتشعبة، والقنفذ العنيد أحادي التفكير، عُنصرًا رئيسيًّا في منظومة التحليل الثقافي الحديث. أما عن الوسام الحقيقي المطلق الذي اكتسبه المقال، حصريًّا، فيتجلّى في أن استغلال برلين البديع لهذا المفهوم ألهم آخرين -أيضًا- بمحاكاة فكرية ساخرة؛ نُشرت مقالة في مجلة “بانش” البريطانية الساخرة (24 فبراير، 1954)، قسّم فيها جون باول العالم إلى “بوم” و”هررة” -مع اعتذار عن تداعي الأسماء بقصيدة “إدوارد لير” الشهيرة التي حملت ذات الاسم-، وفي حين يتميز بعض الأشخاص بكونهم كالبوم: “حُكماء، متوحشين أو منفصلين عن العالم”، ميّز باول الأخرين بكونهم “ثقيلي الحركة، منفوشي الزَّغَب أو مفترسين”
خُلّدت مقالة “برلين” العظيمة لتمتعها بجميع مقوّمات التحفة التاريخية، وباعتبارها مباراة فكرية أشبه بالألعاب النارية المدهشة فجرّها عالم معاصر، وتحقيقًا تحليليًّا مذهلًا أثبت الزمان صدق فحواه؛ فالعالم، حقًا، في النهاية ينقسم ما بين ثعالب وقنافذ. وفي تعليق لـ “برلين” عن كتابه قال: “يعتريني الآن مزيد من الأسف لكوني قد أطلقت علي كتابي اسم “القنفذ والثعلب”، ربما ما كان عليّ أن ارضخ لذلك الاقتراح”، معترفًا في نهاية الأمر بكونه هو ذاته ثعلبًا على الأغلب.”
“اقتباس أخير”
“صدع عميق بين بني البشر، يقف علي أحد طرفيه هؤلاء الذين من جهتهم يؤلون كل شيء ويُخضعونه لرؤية مركزية واحدة، ونظام واحد، أقل أو أكثر تماسكًا أو توضيحًا، يتفق مع درجة فهمهم للأمور وتفكيرهم بها وشعورهم نحوها؛ مبدأ موحّد منظم للغاية له دلائل مقترنة وتفسيرات يسيرة؛ وعلى الجانب الآخر من الصدع، من الهوّة، يقف أولئك الذين يسعون وراء غايات كثيرة، غالباً ما تكون غير ذات صلة أو حتى قد تحمل في جوهرها تناقضًا فجّا ولكنها مرتبطة، على كل حال، بطريقة ما بمعطيات الواقع وقوانينه، نفسيةً كانت أو فسيولوجيةً، في حين لا تربطها أي علاقة بأي مبدأ أخلاقي أو جمالي.”