كل ما تريد معرفته عن الفقه الأكبر
الفقه الأكبر هو ذلك الاسم الذي أطلقه أبو حنيفة على علم الكلام؛ وذلك لأنه يتعلق بالأحكام الاعتقاديّة في مقابل الفقه الذي يتعلق بالأحكام العمليّة الفرعيّة، علم الكلام أو علم أصول الدين أو العقيدة كما يُطلق عليه أهل السنة أو علم التوحيد كما تحب كتب الأزهر أن تدعوه هو موضوعنا في هذا المقال.
مصطلح “الكلام”:
مصطلح “الكلام” والذي يعني الحديث أو اللفظ المنطوق مأخوذ عن المصطلح اليوناني “لوجوس Logos” الذي يعني العلم أو المعرفة، واُستخدمت الكلمة للدلالة على الإله كما عند هيراقليطس حين قال أنه “القانون الكلّي للكون”، وعند الرواقيّين الذين اعتبروا اللوجوس العقل الفعّال في العالم وأنه “الله، وهو سرمدي وهو الفعّال لكل شيء من خلال المادة”.
والكلمة “لوجوس” صارت أيضًا عند المسيحيّين تعني المسيح ذاته حسبما جاء فى مستهل إنجيل يوحنا “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله” وبذللك صار كل ما هو إلهي عندهم يسيوعيًّا، ولذلك أصبحت الكلمة عندهم تتعلق بالإله، وأصبح مصطلح “الكلمة” يُستخدم أيضًا عند من يكتبون بالعربيّة على هذا النحو في ترجماتهم للكتب اليونانيّة إلى العربيّة في الحضارة الإسلاميّة.
علم الكلام:
الدين الإسلاميّ الذي تشكّل من تعاليم القرآن الكريم يشمل على نوعين من التكاليف -حسب ما يرى ابن خلدون– وهي: “التكاليف البدنيّة” و”التكاليف القلبيّة”.
و”التكاليف البدنيّة” متعلقة بالعبادات والعادات وهذا هو الفقه الذي اُستخدم في بادئ الأمر للدلالة على مفهوم معين وهو الاجتهاد (استعمال الرأي الخاص لتقرير مسائل شرعيّة في غياب أي سابقة تنطبق على الحالة موضوع المسألة)، ولكن فيما بعد اكتسب المعنى الأشمل للدلالة على التشريع الإسلامي القائم على مصادر أربعة :القرآن والسنة والقياس والإجماع.
والنوع الآخر من التكاليف يتعلق بالإيمان ويتكون من ست عقائد تقررت فى الدين بناء على حديث النبي عندما سُئل عن الإيمان فقال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فعلم الكلام أو الفقه الأكبر كما دعاه أبو حنيفه مقابل الفقه فى التشريع.
تعريف علم الكلام:
لعلم الكلام تعريفات عديدة حتى أورد النسفي فى كتابه “العقائد النسفيّة ” ستة تعريفات له، وأغلب التعريفات كلها تتفق على جوهر واحد أو مفهوم واحد ولكن لنرى بعض من تلك التعريفات.
عرّف الفارابي علم الكلام بأنه:”صناعة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء الدينيّة والأفعال المحمودة التي صرح بها واضع الملة وتزيّيف كل ما خالفها”.
وقال عبد القادر الجرجاني أنه:”علم يُبحث فيه عن ذات الله وصفاته وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام”.
والقاضي ناصر الدين البيضاوي قال:”علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينيّة بإيراد الحجج ودفع الشبه عنها”.
أما عضد الدين الإيجي فقال:”علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينيّة، والعقائد الدينيّة دون العمل وما هو منسوب إلى دين محمد”.
وقال ابن خلدون: “علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلة العقليّة والرد على المنحرفين فى الاعتقادات”.
كما عرّفه محمد بن علي بن القاضي التهانوي على أنه:”علم يقتدر منه على إثبات العقائد الدينيّة على الغير بإيراد الحجج ودفع الشبه”.
من التعريفات السابقة المتفقة في ظاهرها وباطنها نستخلص الآتي:
1- موضوع علم الكلام هو إثبات العقائد الدينيّة من حيث وجود الله وما يجب وما يجوز وما يستحيل فى حقه تعالى، وصدق الرسل وما يجب وما يجوز وما يستحيل فى حقهم، بخلاف باقي أركان الإيمان -إذا صح التعبير- من الإيمان بملائكته وكتبه تعالى وبالقدر خيره وشره.
أو كما درسنا فى الأزهر يتعلق علم الكلام بثلاثة مباحث: الإلهيات، النبوّات، السمعيّات.
2- منهج المتكلم: هو استخدام الأدلة النقليّة من قرآن وسنة، والأدلة العقليّة لإثبات ودعم حججه.
3 – المتكلمون يتخذون العقائد الدينيّة كقضايا مسلم بها عن طريق الوحي، ثم يستدلون عليها بأدلة عقليّة لتدعيم تلك القضايا.
4- من هنا يتضح الفرق بين الفيلسوف والمتكلم، المتكلم يستند إلى ما جاء به من اعتقادات ثم يلتمس الحجج العقليّة التي تدعمها، والفيلسوف يبحث بعقله ويرى ما يتوصل إليه الدليل دون النظر إلى ما جاء به أي دين، فالمتكلم يعتقد ثم يستدل والفيلسوف يستدل ثم يعتقد.
سبب تسمية علم الكلام بهذا الاسم:
أورَد النسفي ستة أقوال في سبب تسمية هذا العلم ب”علم الكلام” وهي:
1- لأن عنوان مباحث المتكلمين فى العقائد كان “الكلام فى كذا وكذا” فسُمي الكلام لذلك.
2- لأنه يُورث قدرة على الكلام فى تحقيق الشرعيّات وإلزام الخصوم فهو لها كالمنطق والفلسفة.
3- لأن العلم لا يتحقق إلا بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين، على حين أن غيره من العلوم قد يتحقق بالتأمل والمطالعة.
4- ولأنه أكثر العلوم خلافًا فيشتد افتقاره إلى الكلام مع المخالفين والرد عليهم.
5- ولأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه من الكلام.
6- ولأنه يقوم على الأدلة القطعيّة المؤيد أكثرها بالأدلة السمعيّة لذلك كان أكثر العلوم تأثيرًا فى القلب وتغلغلًا، فسُمي الكلام مشتقُا من الكَلم وهو الجرح.
وابن خلدون يرى أن التسمية جاءت من تعريف الإيمان الذي هو “تصديق بالقلب وإقرار باللسان” فسُمي الكلام لأنه يتعلق بالإيمان الذي -بحكم تعريفه- أمر من أمور الكلام المنطوق باللسان.
بداية علم الكلام:
على خلاف رأي د.يوسف زيدان بأن علم الكلام ما هو إلا امتداد لنفس المشكلات القديمة التي أُثيرت بين الكنائس المسيحيّة ولكن بصورة إسلاميّة، فإننا لا نعلم يقينًا متى بدأ علم الكلام يأخذ فى التبلور بالصورة المعروفة الآن.
ونفهم من الشهرستاني أنه “كان هناك كلامًا سابقًا على نشأة الاعتزال” ومن ابن سعد حين استخدم ف “الطبقات” مصطلح المتكلمين للإشارة إلى أولئك الذين كانوا يناقشون وضع مرتكِب الكبيرة فى الإسلام.
ومن خلال تلمُسنا لبدايات علم الكلام يمكننا أن نتكلم عن بعض الشخصيّات التي يمكن أن نطلق عليها “آباء المتكلمين” مثل:
1- مـعبد الجهني:
كان معبد من علماء القرن الأول وكان يُعرف عنه صدقه في الحديث، كما كان مشاركًا في الأحداث السياسيّة والثورات التي هاجت في عصره وشهد التحكيم بين علي ومعاوية، وقد دارت آراؤه الكلاميّة حول نفي القدر ومع ذلك سُمي مذهبه بعكس مقصده “مذهب القدرية”.
مـعبد كان معارضًا للأمويّين الذين حرصوا على نشر المذهب الجبري بين الناس لحثهم على قبول الحكم الأموي باعتباره من قبل الله.
2- غيلان الدمشقيّ:
عاش غيلان فى القرن الأول الهجري وكان على صلة بالخليفة عمر بن عبد العزيز، ومذهب غيلان الكلامي هو أنه قرر ما قال به معبد أستاذه بالحريّة الإنسانيّة مخالفّا الأمويين من الجبريّة، موضحًا أن الإنسان مختار وأنه سوف يُحاسب على اختياره وهو القول الذي توسع فيه المعتزلة فيما بعد.
حينما تولى هشام بن عبد الملك أراد أن ينتقم من غيلان فاعتقله وحُمل إليه فى مجلس الخلافة فقال له هشام: مد يديك، فمدهما غيلان فقطعهما هشام بالسيف، ثم قال له: مد رجليك، فمدهما غيلان فقطعهما هشام بالسيف، وبعد أيام مر رجل بغيلان فقال له ساخرًا: “يا غيلان هذا قضاء وقدر” فقال له غيلان: “كذبت ما هذا بقضاء ولا قدر” فلما سمع الخليفة ذلك بعث إليه من حملوه إليه ثم صلبه على أبواب دمشق.
3- الجعد بن درهم:
عاش بالشام وبدمشق تحديدًا ويتلخص مذهبه في أنه كان يقرر أن الله منزه عن صفات الحدوث، قُتل جعد بن درهم على يد الأمير خالد بن عبد الله بجامع واسط بالعراق صبيحة عيد الأضحى، حيث كان الجعد مسجونًا فحُمل إلى المسجد فراح الأمير يخطب ثم ختم كلامه قائلًا:”ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم” ثم نزل واستل سكينًا وذبح الجعد تحت المنبر وسط المصلين.
4- الجهم بن صفوان:
ولد أبو محرز الراسبي المعروف بالجهم بن صفوان سنة 80هـ ومات ولم يبلغ من عمره الخمسين.
عرّفه الذهبي بأنه “الكاتب المتكلم، أُس الضلالة ورأس الجهمية، كان صاحب ذكاء وجدال، كان ينكر الصفات وينزه الباري عنها بزعمه ويقول بخلق القرآن ويقول إن الله فى الأمكنة كلها”، قُتل الجهم بن صفوان على يد الأمير سلم بن أحوز بأصبهان.
5- الخوراج والمرجئة سنتكلم عنهم بعض الشيء في عوامل نشأة علم الكلام.
الموقف من علم الكلام:
قُوبل علم الكلام بموجة من الاستنكار الشديد من قِبل أهل الحديث والفقهاء وأطلقوا عليه وأهله “أهل البدع”، كان الإمام مالك -ت: 179هـ- ينهي أصحابه عنه قائلًا “إياكم والبدع” قيل: “يا أبا عبد الله ما البدع؟” قال: “الذين يتكلمون فى أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم”.
كان سفيان الثوري -ت: 161هـ- ينهي أصحابه عن مجالسة المتكلمين “عليكم بالأثر وإياكم والكلام فى ذات الله” وغيرها من الأقوال التي تذم علم الكلام وأهله وتنهي الناس عن الخوض فيه.
عوامل نـشأة علم الكلام:
أولًا: عوامل من داخل البيئة الإسلامـيّة:
1- القرآن الكريم:
أثـارت الآيات المتشابهات في القرآن الكريم تفسيرات وتأويلات مختلفة مما دعا العقل إلى النظر فيها وذلك كآيات الجبر: ((وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليمًا حكيما)) سورة الإنسان، ((والله خالق كل شيء)) سورة الزمر، ((وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)) سورة الأنفال، وآيات الاختيار ((يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل)) سورة يونس، ((من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحًا فلأنفسهم يمهدون)) سورة الروم، فهذه الآيات تركت الباب مفتوحًا للقول بالجبر أو القول بالحريّة، ومن هنا بدأ العقل يتساءل: كيف يمكن أن يكون الإنسان مختارًا ومجبورًا فى نفس الوقت؟ هل للإنسان إرادة؟ وما معني اختيار الإنسان؟ وكيف يتم التكليف مع كونه مجبرًا؟
كل هذه التساؤلات أنتجها العقل عندما أمعن في فهم نصوص القرآن الكريم مما دعاه إلى الاجتهاد فيها.
كما أثارت الآيات المتعلقة بالصفات نقاشًا عقليًا ذلك أن بعضها قد أشار إلى التشبيه أو التجسيم إذا أُخذت على ظاهرها. وهكذا كانت نصوص القرآن الكريم بما فيها من متشابهات وما أثارته من تفسيرات وتأويلات مختلفة وبما احتوته من شرح لعقيدة التوحيد -من العوامل التي دعت إلى ظهور علم الكلام-.
2- مشكلة الإمامة:
اختلف الناس بعد وفاة النبي في أشياء كثيرة أولها اختلافهم في الإمامة وأسباب هذا الخلاف من الناحية التاريخيّة راجع إلى أن الرسول قد انتقل إلى الرفيق الأعلي ولم يستخلف -رأي أهل السنة والخوارج- فتولى أبو بكر الخلافة ثم عمر ثم عثمان الذي قتل بعد ذلك فنشبت حرب أهليّة بين المسلمين. ولم يستقر الأمر لعلي وإنما نافسه معاوية في معركتي الجمل وصفين فكان التحكيم بينه وبين معاوية فخرج بعض من شيعة علي عليه وهم الخوارج.
وبظهور الخوارج بدأ الفكر السياسي في الإسلام؛ فقد أثاروا لأول مرة فى الفكر الإسلامي مشكلات أساسيّة، فمثلًا وجوب الإمامة ومدى أحقيّة قريش، ثم بكارثة كربلاء نشأت الشيعة وأصبح البحث في مشكلة الخلافة والإمامة محور خلاف بين الشيعة والخوراج وأهل السنة وهم من أهم الفرق الكلاميّة.
3- الحكم على مرتكب الكبيرة:
ولم تكن مشكلة الإمامة هي وحدها التي أثارها الخوارج وإنما أثاروا موضوعًا آخر يتصلب بالحكم على مرتكب الكبيرة فقد أعلن الخوارج تكفيره، بينما أعلن فريق آخر إرجاء الحكم عليه إلى الله -المرجئة- وفيما بعد كان رأي المعتزلة في مرتكب الكبيرة من الأصول الخمسة التي تبنتها تلك الفرقة العظيمة، فلا هو كافر ولا هو مؤمن ذلك أنه يشبه المؤمن في عقيدته ولا يشبهه في عمله ويشبه الكافر في عمله ولا يشبهه في عقيدته ولذلك فهو في منزلة بين المنزلتين.
وقد لزم عن ذلك بحث في مفهوم الإيمان، هل الإيمان يزيد بزيادة الأعمال الصالحة ويقل بزيادة الأعمال السيئة أم لا؟
فمشكلتي الإمامة والحكم على مرتكب الكبيرة كان لهم أكبر الأثر فى نشأة الفرق الكلاميّة المختلفة واحتدام الخلاف بينهم.
ثانيًا: عوامل من خارج البيئة الإسلاميّة:
هناك مؤثرات من خارج الدين الإسلامي أعانت على تطور علم الكلام بتوسيع مباحثه وتعميقه، تلك المؤثرات أثرت على المباحث الكلاميّة فيما يمكن أن نطلق عليه “التأثير والتأثر”.
1- الفتوحات الإسلاميّة وانتشار الإسلام في بلاد غير عربيّة كان لها أثر عظيم في تلك العمليّة الفكريّة.
2- الخلاف بين الدين الإسلامي واليهوديّة: فاليهوديّة تنكر نبوة محمد ونبوة عيسى وأن الدين لبني إسرائيل ومشكلة نسخ الشريعة بشرائع تالية عليها تلك، التشبيه والتجسيم التي تنزع التوراه إليها، وما نسبته التوراه إلى معظم الأنبياء من رزائل وكبائر.
3- الخلاف بين الدين المسيحي والدين الإسلامي: وتركزت نقط الخلاف في التثليث -الصلب وعبادة المسيح- الخلاف بين الكنائس كان له أثر على علم الكلام.
4- الخلاف بين الإسلام وديانات الفرس والهند.
نهاية:
ونرى أن دراسة علم الكلام وتاريخه مهم للوقوف على الآراء العقائديّة الأُخرى المختلفة التي كانت منتشرة فى بلاد الإسلام، وتوضيح دور العقل في منهج علم الكلام كعامل أساسي، ومحاولة دحض الخرافات المتعلقة بذات الله وصفاته والمتعلقة بالرُسل وبالقدر المنتشرة في مجتمعنا.
مصادر: دراسات في علم الكلام والفلسفة الإسلامية للدكتور جمال المرزوقي فلسفة المتكلمين لهاري ولفسون اللاهوت العربي وأصول العنف الديني ليوسف زيدان