عن الجِيُوبُويِتِيك كحل للأزمة الحضارية الحالية
حوار مع الشاعر والمفكر الأسكتلندي كينيث وايت
من هو كينيث وايت؟
كينيث وايت “Kenneth White”شاعر وكاتب ومفكر اسكتلندي معاصر، ولد في گْلاسكو عام [١٩٣٦]، يعود له الفضل في نحت مفهوم”الجِيُوبُوِيتِيكْ/ الجِيُو-شِعرية” في سبعينيات القرن الماضي، حيث واصل تطويره في العديد من مقالاته وكتبه وأشعاره، أسس المعهد الدولي للجِيُوبُوِيتِيكْ في باريس عام ١٩٨٩، وفتح له فروعًا في العديد من البلدان، بغرض التأسيس لعلاقة جديدة بين الإنسان والكون، فـ “ليس -يقول كينيث وايت- التواصل بين الإنسان والإنسان هو الأهم، بل التواصل بين الإنسان والكون، اجعل الناس على اتصال مع الكون، وسوف يتواصلون مع بعضهم البعض”.
يصر كينيث وايت على رفضه أن يلقب بـ “الشاعر”، معتبرًا أن في ذلك تنميط له وخنق لحركته وترحاله، مفضلًا بدلًا عن ذلك أن يُنْعَت بـ “الرَّحَال، المتسكع، الجَوَّال، والهائم على وجهه في بقاع العالم الذي يراه مفتوحًا دائمًا”.
في ترحاله الشعري والفكري يتصيد كينيث وايت الجمال والبساطة المعقدة في التفاصيل الصغيرة للطبيعة، من أحجار، وأشجار، وصخور، وطيور برية وبحرية، إنه مفكر من العيار الثقيل -إذا كان سيسمح لنا بهكذا نعت كذلك-، يقدم العالم والطبيعة في قالب شعري بخلفية فلسفية شرقية وغربية.
من بين أهم وأعمق ما يجده “التِّرحَال الفكري”(*) لكينيث وايت في الفلسفات الشرقية، وخاصةً في الطاوية والبوذية، هو مفهوم “الفراغ”، الذي يحضر فيه الترابط القائم بين كل الأشياء في العالم المخلوق (والتي ليس هناك شيء آخر غيرها)، ذلك “الفراغ” الذي يشكل انفتاحًا للنفس على الخارج الذي تنتمي إليه(**).
لن نبالغ قطعًا إذا قلنا أنه يصعب على قُرّاء كينيث وايت استيعاب مضامين أشعاره ومقالاته وكتبه ومحاضراته، إذا لم يتسلحوا، وعلى نحو مسبق، بمرجعية فلسفية متينة؛ بحكم أنه يوظف الفلسفة في أشعاره ومقالاته وكتبه على نطاق واسع، انطلاقًا من هيراقليط، وبارمينيد، وأفلاطون، ودونز سكوط، وسپينوزا، وديڨيد هيوم، وكانط، وهيگل، ونيتشه، وشوبنهاور، وهوسرل، وميرلوبونتي، يقتبس من/ ويحاور أفكار فوكو، ودريدا، وميشيل سير، وجيل دولوز، وآخرين.
تجدُر الإشارة إلى أن جيل دولوز كان عضوًا في لجنة مناقشة أطروحة الدكتوراه التي أعدّها كينيث وايت عام ١٩٧٩ تحت عنوان “التِّرحَال الفكري”Le nomadisme intellectuel، وهو “تِرْحَالٌ” على غرار “التِّرحَال الفلسفي” الذي أسس له جيل دولوز بمعية فليكس غاتاري، والذي ليس في نظرهما مجرد ترحال يقوم على الإنتقال من مكان إلى آخر، بقدر ما أنه ” تِرْحَالٌ” متواصل في الأرض وفي الفكر الذي ننتجه بصدد هذه الأرض/ العالم،وبصدد ذواتنا كجزء من هذا العالم.
إن “الفيلسوف الرَّحَال” هو من يتحرك كثيرًا بين الأفكار والمفاهيم ويبدع أخرى بلا توقف،إنه فيلسوف يؤسس لـ “جيو-فلسفة” تعمل على ربط التفكير بالأرض التي يَتَمَوْجَدُ فيها، أي ذلك الذي بمقدوره أن يؤسس لممارسة فلسفية محايثة للأرض،للجسد وللحياة في عنفوانها.
إن الفلسفة شأنها شأن الرغبة،هي في نظرهما،مقترنة بالخارج،بالمجال الإجتماعي والتاريخي والسياسي والإقتصادي…أي أنها مُحَايِثَةٌ=Immanente للمجال الذي تُفَكِّر/وتُمَارَس فيه.وهي بذلك تحدث في ال”هُنَا وَالآَن” وليست مُتَعَالية= Transcendantal عنه كما يُعتقد.
إن ما يدعو إليه دولوز وغاتاري ليس في عمقه سوى امتدادٌ لما أسس له كلًا من سپينوزا ونيتشه، اللذان يدين لهما دولوز وغاتاري بالكثير في تصورهما للفلسفة كممارسة محايثة للحياة.
وأخيرا،إذا كانت الفلسفة بالنسبة لهما ليست شيئا آخر أكثر من ممارسة ل”تِرْحَالٍ فلسفي” وإبداع مفاهيم ذات صلاحية مؤقتة ومحدودة بغرض التفكير في الأرض والحياة على نحو “مُحَايِثٍ”Immanent،فبمقدور الشعر والفكر الشعري كـ “تِرحَال فكري” كذلك إبداع “مفاهيم جديدة”من شأنها أن تُصَالِحَنَا مع الطبيعة التي انقطع الإتصال والتواصل بيننا وبينها من جهة أولى، وبيننا وبين بعضنا من جهة ثانية،منذ زمن بعيد حسب كينيث وايت.
نص الحوار
-س: بصفتكم اسكتلندي فدائمًا ما تؤكدون بأنكم “تشعرون كأوروبي”، فكيف تفسرون ذلك؟
-ك.وايت: ربما لأن اسكتلندا -قبل اتحادها مع إنجلترا- كانت دائمًا على اتصال مع الدول الإسكندناڤية، وهولندا، وألمانيا، وروسيا، وفرنسا…، فهناك الكثير من الكتاب الاسكتلنديين الذين لعبوا دورًا كبيرًا في الفكر الأوروبي، كما هو الحال مع يوهانز سكوط إريجينا “Jean Scot Erigène” في القرن التاسع، وجون دانز سكوط “Jean Duns Scot” في القرن الثالث عشر، وجورج بْيُوكَانَن “George Buchanan” في عصر النهضة، وديڨيد هيوم “David Hume” في القرن الثامن عشر…، وأنا أحاول من جهتي مواصلة هذا الخط، ففي الثامنةَ عشر من عمري، قمت برحلات ذهابًا وإيابًا بين نيوهافن ودييب ودوفر وأوستند، كان لدي كُتّابي المفضلين، مثل: غوته، وڤكتور هوگو، ونيتشه، وفرناندو بيسوا، هؤلاء الذين كانت لديهم رؤية لأوروبا محملة بطول النفس والفكر، جعلت منها رؤية لي كذلك.
-س: لماذا اخترتم خريطة لأوروبا تعود إلى القرن الثاني عشر كموضوع لكتابكم الأخير (١)؟
-ك.وايت: خلال أبحاثي في المكتبة الملكية في بروكسل عثرت على نسخة من مخطوطة الموسوعة الجغرافية لِيبَرْ گِيدُونِيسْ “Liber Guidonis” (٢) مع خريطة بدت لي كوسيلة لربط سلسلة من الرحلات التي تمت في أوروبا في السنوات الأخيرة. إنه “حج أوروبي”، ليس بمعنى رحلة مقدسة إلى أماكن العبادة، ناهيك عن المشهد السياسي والإقتصادي لأوروبا، ولكن كمسار للفكر، يهدف إلى نقل إحساس أوروبا، هذه الـ “أوروبا” التي تتميز بالنسبة لي بحيوية وجودية وطاقة فكرية، إنه طريق أقابل فيه جيمس جويس في تْرِيِيسْتِي، وأوگست ستريندبرگ في ستوكهولم، وراينر ماريا ريلكه على ضفاف البحر الأدرياتيكي، فأنا لا أسافر كمجرد سائح، ولا حتى كسائح “ثقافي”، ولكن كـ “رَحَّالَة فكري”.
-س: ماذا تقصدون بهذا المصطلح؟
-ك.وايت: ليس الرحالة الفكري مثقفًا مثاليًا على الطريقة الأفلاطونية، ولا مثقفًا ملتزمًا بالمعنى الوجودي لجون بول سارتر، ولا هو مطلقًا فيلسوف إعلامي يعلق على الأحداث، وإنما هو رحالة فكري واعٍ تمامًا بـ “العدمية السلبية” -كما يسميها نيتشه- الحالية، فلم يعد أحدٌ يؤمن بالتقدم أو بالتاريخ؛ ولم يكن الإنتاج الثقافي على نفس القدر من الأهمية من حيث الكم، أو الرداءة من حيث الكيف، وفراغ الضمائر مليء بالترَّهات؛ فمنذ أواخر القرن التاسع عشر فضّلت بعض العقول النيرة، من قبيل: فريدريك نيتشه، وآرثور رامبو، مغادرة “الطريق السيار للغرب” المرسوم في خط مستقيم منذ أرسطو، من أجل رسم طرق بديلة للعبور، ومن جهتي أحاول تمديد طرق العبور هاته لاستعادة ما لم يتم تدميره بعد ومحاولة اقتراح شيء آخر.
-س: هل هذا ماتسمونه بـ “الجِيُوبُويِتِيك”؟
-ك.وايت: بالضبط، فالجِيُوبُويِتِيك ليست جغرافية أدبية غامضة ولا شعرًا جغرافيًا غامضًا، وإنما هي محاولة لإجابة جذرية على أسئلة الحضارة والثقافة، فالذي منح، منذ زمن بعيد، القوة والسلطة لثقافة الإنسانية كانت الأسطورة (كتفسير للكون)، والدين (كطموح نحو الإلهي، أيا كان)، والميتافيزيقا (كبحث عن الخير والجمال والحقيقة). أما اليوم فقد تراجعت الأساطير والدين والميتافيزيقا، ولايشدني الحنين إلى هذا أبدًا، فأنا أعمل على ما يعادلها، وذلك بالعودة إلى أساس أي ثقافة، والمتمثل في العلاقة القائمة بين الإنسان والأرض، ومن هنا جاءت “الجيو” في هذا التعبير الجديد. أما بالنسبة إلى “بُوِيتِيك/شِعْرِية” أعطي لهذه الكلمة حمولة توجد لدى بعض العلماء رفيعي المستوى، الذين يتحدثون باسم الذكاء الشعري، لذلك فإن مقاربتي “الجِيُوبُويِتِيكِيَّة” هي إذن علمية وفلسفية وأدبية في الآن نفسه.
-س: أليست الجِيُوبُويِتِيك شكلًا من أشكال الإيكولوجيا؟
-ك.وايت: صحيح أنها تحتوي على الإيكولوجيا، غير أنها تذهب إلى أبعد من ذلك، فهي تفتح فضاءً للثقافة من حيث أنها مسألة إقامة على الأرض بطريقة ذكية وحساسة ولَبِقَة، فالإنسان -الذي غالبًا ما كانت عيناه مثبتتان على السماء أو في المستقبل- هو في الواقع لديه بضع خطوات قليلة جدًا من الأرض، بدأت هذه الإقامة الجديدة عندي في وقت مبكر جدًا، مع تجربة مكثفة للطبيعة استمرت مع قراءات، وبشكل خاص لأعمال ألكسندر ڤون هومبولت(٣) وإليزي ريكلوس(٤) وروجيه كايوا(٥).
-س: كيف يمكن أجرأة الجِيُوبُويِتِيك بطريقة عملية؟
-ك. وايت: يمكن أن تطبق في علم النفس؛ فـ”فرناند ديليني-Fernand Deligny” في سبعينيات القرن الماضي عالج الأطفال المصابين بالتوحد من خلال قيادتهم في الغابة، ويمكن تطوير هذا النوع من التجربة. كما تطبق الجِيُوبُويِتِيك أيضا في مجال الهندسة المعمارية، حيث اقترحت عليّ مدارس المهندسين المعماريين في بوردو وكليرمون ڤيران الإسهام في أبحاثهم حول الإسكان الذي يجمع بين المناظر الطبيعية، وفي الواقع يمكن تطبيق هذه النظرية العملية في كل مكان، عندما يتساءل المرء عن تعقيدات الواقع.
_______________________________________
إحالات
(*)يحاول”الترحال الفكري”الهروب من علامات التشوير”للطريق السيار للغرب”المرسوم في خط مستقيم منذ أرسطو،من أجل رسم طرق بديلة للعبور،أي العبور لجميع الثقافات لمعرفة كل أبعادها من أجل زيادة الإحساس بالحياة،ولا يتظاهر هذا”التِّرْحَال” بالهروب من كل تكييف وإنما على العكس من ذلك،فهو يبحث عن أفضل الظروف وأفضل تكييف ممكن،بغرض العمل على خلق مساحة للتنفس،ومساحة للتركيز.
(**) Michèle Duclos ,in:https://journals.openedition.org/philosophique/178
(١)كينيث وايت:”خريطة غيدو- حج أوروبي”، منشورات ألبان ميشيل، باريس، ٢٠١١.
(٢)لِيبَر گِيدُونِيسْ، Liber Guidonis:عنوان موسوعة مكونة من خمسة أجزاء حول الجغرافيا والتاريخ العام،من تأليف الجغرافي والخرائطي والمؤرخ الإيطالي غْوِيدُو دَا بِيزَا/ أوغْوِيدُو بِيزانُوس (توفي عام ١١٦٩)،تناول فيها تاريخ روما القديم،وخصص في هذه الموسوعة أجزاءً كاملة لإيطاليا ومناطق أخرى (من موسوعة ويكيبيديا).
(٣)ألكسندر ڤون هومبولت Alexander von Humboldt (١٧٦٩-١٨٥٩)هو مستكشف وعالم نبات ألماني، يعتبر من السباقين الأوائل في علم البيو-جغرافيا والإيكولوجيا، وقد كان لكتابه الأساسي كوسموس”Kosmos”المكون من خمسة أجزاء دور كبير في تأسيس القواعد التي قام عليها علم البيوجغرافيا(Bio-Geography)، وخصوصًا الجغرافيا النباتية، لقد قام ڤون هومبولت برحلة استكشافية طويلة في أمريكا اللاتينية ما بين ١٧٩٩ و١٨٠٤، وجمع من هناك كمًا هائلًا من المعلومات والاكتشافات العلمية التي غيرت شكل العلوم الطبيعية في أوروبا خلال القرن ١٩م(من موسوعة ويكيبيديا).
(٤)إليزي ريكلوس،(١٨٣٠-١٩٠٥)،Élisée Reclus،جغرافي وكاتب فرنسي له ١٩مجلدًا من الأعمال الأساسية في الجغرافيا العالمية الجديدة، والتي تم إعدادها في الفترة الممتدة ما بين (١٨٧٥- ١٨٩٤).
(٥)روجيه كايوا،( ١٩١٣- ١٩٧٨)،Roger Caillois،كاتب وعالم اجتماع وأنثروبولوجي وناقد أدبي فرنسي.
-المصدر: https://www.la-croix.com/Archives/2011-09-23/Entretien-Kenneth-White-ecrivain-fondateur-de-la-geopoetique-La-geopoetique-repond-a-la-crise-actuelle-de-la-civilisation-_NP_-2011-09-23-715111