متاهة الإرادة الحرة (مترجم)
تخيل أنك على وشك الدخول إلى محل حلواني لشراء كعكة بآخر 10 دولارات في جيبك بعد أن انتهيت من تجهيزات استقبال بعض الضيوف عشية إحدى الإجازات الرسمية. لا يوجد في المحل سوى كعكة واحدة متبقية وسعرها 10 دولارات.
على الدرج الموصل إلى المحل يقف شخص يحمل علبة منظمة أوكسفام [منظمة خيرية لمساعدة الدول الفقيرة والمناطق المنكوبة] وإذا به يهز العلبة داعيًا إياك إلى التبرع. توقفت، وبدا واضحًا لك تمامًا، دون أن يخالجك أدنى شك، أنّ ما ستقوم به في اللحظات التالية هو أمر يرجع إليك تمامًا. إذ يبدو لك أنك حر حرية تامة وكاملة وحقيقية في اختيار ما ستفعله، بشكل سيجعلك تتحمل كامل المسؤولية الأخلاقية عن الاختيار الذي ستختاره أيًا كان. لا شك أنه يمكنك أن تضع النقود في العلبة أو أن تذهب لشراء الكعكة. في هذا الموقف، لست فحسب حرًا حرية تامة وكاملة في أن تختار، بل إنك لست حرًا في ألا تختار (هذا هو الشعور الذي ستشعر به). إنك «محكوم بأن تكون حرًا»، بعبارة جان بول سارتر؛ فأنت على وعي تام وصريح بالخيارات المتاحة ولا يمكنك أن تهرب من ذلك الوعي. لا يمكنك بشكل ما أن تنسل منه.
ربما تكون قد سمعت عن الحتميّة، وهي النظرية القائلة بأن كل ما يحدث من المحتّم له سببيًا أن يحدث على النحو الذي حدث به بالضبط عن طريق ما قد حدث قبله بالفعل، وصولًا إلى بداية الكون. وربما تكون أيضًا على اعتقاد بصحة الحتمية. (وربما تكون على علم أيضًا بأنّ العلم في الوقت الحالي لا يعطينا سببًا أقوى للاعتقاد بخطأ الحتمية من صحتها، على النقيض مما هو شائع.) في هذه الحالة، ربما يخطر في بالك وأنت واقفٌ على الدرج أنه بعد خمس دقائق سيكون بمقدورك أن تنظر إلى الموقف الذي أنت فيه الآن وتقول صادقًا عن التصرف الذي ستكون حينها قد اتخذته بالفعل، «حسنًا، كان من المحتّم لي أن أفعل ذلك». لكن حتى إذا كنت على قناعة تامة بذلك، فلا يبدو أنّ بوسع ذلك أن يقلل البتة من إحساسك بأنك مسؤول مسؤولية أخلاقية كاملة عما ستفعله.
هذا الموقف الذي استخدمته للتو لتوضيح هذه المشكلة هو موقف دراماتيكي نسبيًا، لكننا نواجه اختيارات من هذا النوع كثيرًا. فهي تتكرر في حياتنا اليومية، ويبدو لنا أنها تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أننا أحرار وأننا مسؤولون مسؤولية أخلاقية كاملة عما نفعله. ومع ذلك، فهناك حجة، أسميها «الحجة الأساسية»، تثبت على ما يبدو أنه لا يمكننا أبدًا أن نكون مسؤولين مسؤولية أخلاقية كاملة عن أفعالنا. وطبقًا للحجة الأساسية، لن تعنينا صحة الحتمية من عدمها؛ ففي كلتا الحالتين، لا يمكننا أن نكون مسؤولين مسؤولية أخلاقية كاملة.
وها هي الحجة الأساسية:
(1) أنت تفعل ما تفعل -في الظروف التي تجد نفسك فيها- بسبب الحال التي أنت عليها.
(2) إذن، لتكون مسؤولًا مسؤولية أخلاقية كاملة عما تفعل، لا بد أن تكون مسؤولًا مسؤولية كاملة عن الحال التي أنت عليها، على الأقل في بعض الجوانب العقلية.
(3) لكن، ليس من الممكن أن تكون مسؤولًا مسؤولية كاملة عن الحال التي أنت عليها في أي جانب على الإطلاق.
(4) إذن، ليس من الممكن أن تكون مسؤولًا مسؤولية كاملة عما تفعله.
المقدمة الأهم هي رقم (3). لماذا لا يمكنك أن تكون مسؤولًا مسؤولية كاملة عن الحال التي أنت عليها من أي ناحية على الإطلاق؟ للإجابة عن ذلك، فكر في هذه النسخة المطولة من الحجة.
(أ) لا شك أن الحال التي أنت عليها في البداية هي نتيجة لجيناتك الموروثة وخبراتك في سن مبكرة.
(ب) لا شك أن هذه أمور ليس من الممكن بأي حال أن تتحمل أنت مسؤوليتها (أخلاقيًا أو غير ذلك)
(ج) لكن، ليس من الممكن في أي مرحلة لاحقة من حياتك أن تأمل في أن تكتسب مسؤولية أخلاقية كاملة أو حقيقية عن الحال التي أنت عليها بمحاولة تغيير الحال التي أنت عليها بالفعل نتيجة للجينات الوراثية والخبرات السابقة.
(د) لماذا ليس من الممكن؟ لأن الطرق التي ستحاول بها تغيير نفسك، وكمية النجاح التي ستحققها عندما تحاول تغيير نفسك، ستتحدد بالحال التي أنت عليها بالفعل نتيجة لجيناتك الوراثية وخبراتك السابقة.
(هـ) وأي تغييرات أخرى ربما يمكنك إحداثها بعد أن تكون قد أحدثت بعض التغييرات الأولية ستتحدد هي أيضًا، عن طريق التغييرات الأولية، بجيناتك الوراثية وخبراتك السابقة.
ربما تكون هناك عوامل أخرى لا حصر لها تؤثر فيك وتغيرك. ربما تكون الحتمية خطأ؛ فربما تأتي بعض التغيرات في الحال التي أنت عليها نتيجة لتأثير عوامل غير حتمية أو عوامل عشوائية. لكن من الواضح أنه ليس من الممكن أن تكون مسؤولًا عن تأثيرات أي عوامل عشوائية، لذا فيس من الممكن أن تجعلك مسؤولًا مسؤولية أخلاقية كاملة عن الحال التي أنت عليها.
يعتقد البعض أن ميكانيكا الكم تثبت خطأ الحتمية، ومن ثم تطرح أملًا في إمكانية أن نكون مسؤولين مسؤولية كاملة عما نفعل. لكن، حتى إن كانت ميكانيكا الكم تثبت خطأ الحتمية (وهو ما لم يحدث)، فسيظل هذا السؤال مطروحًا: كيف يمكن لعدم الحتمية، العشوائية الموضوعية، أن تساعد بأي حال من الأحوال في أن تجعلك مسؤولًا عن أفعالك؟ الإجابة عن هذا السؤال سهلة. لا يمكنها.
ومع ذلك لا نزال نشعر بأننا أحرار في التصرف بطريقة تجعلنا مسؤولين مسؤولية تامة عما نفعل. لذا، سأختم بنسخة ثالثة أكثر تفصيلًا من الحجة الأساسية تفيد بأن هذا مستحيل.
(1) عند الحديث عن الفعل الحر، فإننا نتحدث بوجه خاص عن الأفعال التي نقوم بها لأسباب معينة (مقابل الأفعال المنعكسة أو الأفعال الاعتيادية التي تصدر دون تفكير).
(2) حينما يقوم شخص بفعل معين لسبب ما، فإن ما يقوم به الشخص هو دالة من الحال التي هو عليها، أعني من الناحية العقلية. (وهو دالة أيضًا من طوله وقوته ومكانه وزمانه وهكذا، لكن العوامل العقلية هي الأهم عند الحديث عن المسؤولية الأخلاقية).
(3) إذن، ليكون الشخص مسؤولًا مسؤولية أخلاقية كاملة أو حقيقية عما يفعل، فلا بد أن يكون مسؤولًا مسؤولية كاملة عن الحال التي هو عليها، من الناحية العقلية، على الأقل في بعض الجوانب.
(4) لكن، لكي يكون الشخص مسؤولًا مسؤولية كاملة عن الحال التي هو عليها، في أي جانب عقلي، لا بد أن يكون الشخص هو من جعل نفسه على الحال التي هو عليها، في ذلك الجانب. ولا تكفي ضرورة أن يكون الشخص هو من جعل نفسه على الحال التي هو عليها، في ذلك الجانب. بل لا بد أن يكون الشخص قد اختار اختيارًا صريحًا وواعيًا أن يكون على الحال التي هو عليها، في ذلك الجانب، ولا بد أن يكون قد نجح في جعل نفسه على تلك الحال.
(5) لكن، لا يمكن أن نقول إن الشخص قد اختار، بطريقة واعية مسببة، الحال التي هو عليها، في أي جانب من الجوانب، إلا إذا كان الشخص موجودًا بالفعل، وجودًا عقليًا، ومزودًا بالفعل ببعض مبادئ الاختيار «م-1» -تفضيلات وقيم ومثل- التي يمكن للشخص أن يختار في ضوئها كيف يكون.
(6) لكن، عندئذٍ، لكي يكون الشخص مسؤولًا مسؤولية كاملة، على أساس أنه قد اختار الحال التي هو عليها، في جوانب عقلية معينة، فلا بد أن يكون الشخص مسؤولًا مسؤولية كاملة عن امتلاكه لمبادئ الاختيار «م-1» التي اختار في ضوئها كيف يكون.
(7) لكن، لكي يكون الأمر كذلك، فلا بد أن يكون الشخص قد اختار «م-1» بطريقة مسببة وواعية ومقصودة.
(8) لكن، لكي يكون الأمر كذلك، فلا بد للشخص أن تكون لديه بالفعل بعض مبادئ الاختيار «م-2»، ليختار في ضوئها «م-1».
(9) وهكذا دواليك. هنا سنجدنا في حجة ارتدادية لا يمكننا إيقافها. فتكون مسؤولية الشخص الكاملة عن الحال التي هو عليها مستحيلة، لإنها تتطلب الإتمام الفعلي لسلسلة لا نهائية من اختيارات مبادئ الاختيار.
(10) إذن، فالمسؤولية الأخلاقية الكاملة والقطعية مستحيلة، لإنها تتطلب مسؤولية كاملة عن الحال التي يكون عليها الشخص، كما هو مشار إليه في رقم (3).
هل تمنعني هذه الحجة من الشعور بكامل المسؤولية الأخلاقية عما أفعل؟ كلا. هل تمنعك من الشعور بكامل المسؤولية الأخلاقية؟ أشك في ذلك كثيرًا. هل ينبغي أن تمنعنا؟ حسنًا، ربما ليس من المستحسن أن تفعل. لكنّ المنطق وراءها لا يُقاوم … ومع ذلك، فإننا نظل نشعر بأننا مسؤولون مسؤولية أخلاقية تامة عما نفعل، مسؤولون بطريقة لا يمكنها أن تكون كذلك إلا إذا كنا قد خلقنا أنفسنا بشكل ما، إلا إذا كان ينطبق علينا وصف «علة ذاته/الموجود بذاته» (causa sui). وربما تصدق علينا إدانة نيتشه:
«إنّ الموجود بذاته هو أفضل تناقض ذاتي ابتُدع حتى الآن. إنه نوع من اغتصاب المنطق والشذوذ المنطقي. لكنّ صلف الإنسان وشططه جعلاه يوحل عميقًا وبصورة مخيفة في هذا الهراء. إنّ الرغبة في «حرية الإرادة»، بالمعنى الميتافيزيقي المبالغ فيه الذي لا يزال للأسف يلعب برؤوس أنصاف المتعلمين، رغبة الشخص في تحمل المسؤولية الكاملة عن أفعاله بنفسه، ورفعها عن «الرب/الله» والعالم والأجداد والصدفة والمجتمع، لا تعني إلا أن يكون الشخص بالضبط هذا الموجود بذاته، فيطبق بيده على شعر نفسه ويخرجها من مستنقع العدم إلى الوجود، بإقدام يفوق إقدام البارون مونشهاوزن [بطل خرافي وقع بحصانه ذات يوم في مستنقع فأمسك بخصلات شعره وأنقذ نفسه من الغرق]» (ما وراء الخير والشر).
هل ثمة أي رد؟ لا يمكنني أن أصوغه بأفضل مما فعل الروائي (إيان ماك إوان) الذي كتب إليّ قائلًا: «لا أرى ضرورة الفصل بين عدم امتلاكي لإرادة حرة (فتلك الحجج تبدو بالغة المتانة) وإقراري بمسؤوليتي الأخلاقية عن نفسي. إن المسألة مسألة إقرار بالملكية. أن أقر بأن ماضيّ وبداياتي وإدراكاتي تخصني. وكما أنني سأحمّل نفسي المسؤولية عن طفلي، أو عن كلبي إذا عض أحدهم، أو عن سيارتي إذا انزلقت إلى الخلف من فوق تل وسببت ضررًا، فإنني كذلك أتحمل المسؤولية الكاملة عن تلك السفينة الصغيرة التي هي كينونتي، حتى وإن لم أكن متحكمًا في مسارها. إنه ذلك الإحساس بأننا نملك وعيًا هو ما يجعلنا نشعر بالمسؤولية عنه».