بعض علماء الفيزياء يعثرون على آثار أوتار كونية خلّفها الانفجار العظيم
قد تصير الانحرافات الدقيقة لوميض النجوم المتناغم “أهم اكتشافات هذا القرن“، هذا في حال كانت هذه الانحرافات ناتجة عن شبكة من الخيوط العملاقة المتبقية من ولادة الكون.
محاكاة للأوتار الكونية في الكون المتوسّع. الأوتار البيضاء أطول من أي بقعة يمكن ملاحظتها من الكون، في حين تظهر الحلقات الأصغر من أي بقعة يمكن ملاحظتها باللون الأحمر. الحلقات الصغيرة حديثة التكوين تكون صفراء اللون.
يعتقد علماء الكونيات أنه في بدايات تشكيل الكون، كانت كل قوى الطبيعة متّحدة لجزء قصير من الثانية، ولكن عندما أخذ الكون يتوسع ويبرد شيئًا فشيئًا، تكثّفت هذه القوى الخارقة إلى أجزائها المعروفة اليوم: قوة الجاذبية، والقوة الكهرو-مغناطيسية، والقوى القوية والضعيفة.
ووفقًا لبعض الحسابات الرياضية، فقد بدأ الكون يبرد بسرعة كبيرة عند نقطة معينة بعد حدوث الانفجار؛ مما أدى إلى تمزّق نسيج الزمكان، وتكوين شبكة من الأنابيب الرقيقة والصغيرة المملوءة بالطاقة النقية التي تمتد على نطاق الكون الواسع.
هذه إحدى الروايات المحتملة التي تعود إليها فكرة الأوتار الكونية
ظلّت الأوتار الكونية -التي تم التنبؤ بها في السبعينيات– خارج نطاق التجربة لفترة طويلة، ولكن الآن يعتقد بعضُ الفيزيائيين أنهم لمحوا أولَ دليلٍ على وجود هذه الهياكل العملاقة ذات البُعد الواحد.
ويقول “كاي شميتز” عالم الفيزياء النظرية في مختبر CERN في أوروبا: “لدي حدس قوي يخبرني أن هذه الإشارات الأولى تبدو واعدة جدًا“. لكنّه أشار أيضًا أن الطريق لا يزال طويلًا ومبكرًا ليطرح أحدُهم اكتشافًا ما.
ويقول “يوجين ليم” الباحث في علم الكونيات المبكّر في كلية كينجز/لندن: “إذا اكتشفنا وجود الأوتار الكونية، فسيكون ذلك حدث هذا القرن“. “ولكن كما قال “كارل ساجان”: “الادّعاءات غير العادية تتطلب أدلة غير عادية، والدليل عليها الآن لا يزال ضعيفًا بعض الشيء“.
التذبذب النابض
إن البيانات الجديدة التي قد تُشير إلى وجود الأوتار الكونية مصدرها مجموعة NANOGrav، وهي مجموعة تضمّ علماء الفلك الذين يراقبون عشرات النجوم الميّتة التي تدور في الفضاء، والتي يطلق عليها اسم “النجوم النابضة”.
تبثُّ النجومُ النابضة حُزمًا من موجات الراديو من مناطق أقطابها، بحيث نرى من الأرض ومضات منتظمة في كل مرة تجتاح فيها مجال رؤيتنا، تمامًا كوميض برج المنارة. في الواقع، تبدو النجوم النابضة منتظمة لدرجة لا تُصدّق؛ ممّا جعل العلماء يُطلقون على أول نجم نابض اكتُشف في عام 1967 اسم LGM 1، اختصارًا لـ”الرجال الخضر الصغار”. (الصورة النمطية للفضائيين ككائنات صغيرة تشبه البشر مع جلد أخضر وأحيانًا مع قرون استشعار على رؤوسهم).
تعتبر النجوم النابضة أكثر الساعات الكونية دقّةً. وعليه، عندما تنحرف ومضاتها عن مسارها، يُدرك الفيزيائيون أن شيئًا ما قد حدث. وعلى وجه التحديد، يسعى الباحثون للعثور على الانحرافات التي تُسببها موجات الجاذبية -تموّجات في الزمكان- والتي بمجرّد أن تمر عبر النجوم النابضة، فإنها تُغيّر من وقت وصول الومضات الفعليّ إلى الأرض. وتنشأ موجات الجاذبية هذه من اهتزاز الأوتار الكونية، أو تصادم الثقوب السوداء الفائقة الكتلة مع بعضها، أو غير ذلك من العمليات الكونية العنيفة.
في الواقع، كان أحدث تحليل أجرته مجموعة NANOGrav، والذي نُشر على الانترنت في 9 سبتمبر، يضمّ ملاحظات وقراءات رُصِدت على مدى أكثر من 12 عامًا لعشرات النجوم النابضة، عبر التلسكوبات الراديوية المُنتشرة في جميع أنحاء أمريكا الشمالية. ولا البحث هذا قيد التحكيم، لكن الباحثين وجدوا شيئًا يَحرِف الحُزم المُنبعثة من جميع النجوم النابضة بنفس الطريقة، وبذات التردّدات المُتوقّعة من موجات الجاذبية. وقد يُعزى ذلك لوجود مصدر ضوضاء مجهول ومشترك في النجوم النابضة، أو إلى وجود خلل في الساعات التي تقيس وصول الومضات إلى الأرض.
بدأ المنظّرون بتنبؤ التفسيرات الكونية التي تحملها إشارات NANOGrav المبدئية، على الرغم من أنها تفتقر إلى دليل أو علامة تُثبت صحّة أنها موجات جاذبية، وتُرجّح بأنها نوعٌ من العلاقات الارتباطية لتوقيت النجوم النابضة، والذي يحدث بسبب الطريقة المُتغيرة التي تتمدد بها موجات جاذبية وتضغط بقوّة على الزمكان. على أن الأمر يتطلب مزيدًا من البيانات الخاصة بتوقيت النجوم النابضة، قبل أن يجزم العلماء ما إذا كانت إشاراتهم تمتلك هذه العلامة الهامّة أم لا.
يبدو أن البيانات تفضل تفسير الأوتار الكونية، ولكن ليس إلى حد كبير..
-جون إلي
ويقول “ألبرتو سيسانا” الرئيس السابق لمجموعة Pulsar Timing Array العالمية، وهي مجموعة من المشاريع من بينها أيضّا مجموعة NANOGrav: “لسنا مُتأكدين بعد ما إذا كانت هذه إشارة إلى مصدر ضوضاء أم أنها إشارة إلى موجات الجاذبية“.
الأوتار الكونية
أثار بحث NANOGrav ردّ فعل سريع بين جمهور علماء الفيزياء، الذين يعملون على نظرية الأوتار الكونية. فيقول “شميتز” الذي كان يتجول في الجبال الإيطالية عندما سمع الأخبار، حيث قضى عطلة نهاية الأسبوع في تبادل رسائل WhatsApp مع زميله “سيمون بلاسي“: “الأمر أشبه بمطاردة سيارة الإسعاف…فالجميع يحاول السبق في نشر أبحاثه“.
وفي غضون أيام، نشرت المجموعة بحثًا، شارك في كتابته “فيدران بردار”، وقال فيه أن تفسير البيانات قد يعود لمصدر الأوتار الكونية، والتي تكوّنت عندما كانت درجة حرارة الكون مرتفعة جدًا. ويعلّق شميتز قائلًا أن درجة الحرارة هذه “ستدق ناقوسًا معينًا” بين علماء الفيزياء دومًا. فعند تلك النقطة؛ يُعتقد أن القوى القوية والضعيفة والكهرومغناطيسية اتحدت.
وبعد وقوع الانفجار العظيم، انفصلت القوى العظمى الموحّدة عن بعضها، لتنتهي إلى قوى الطبيعة التي نراها اليوم، وذلك من خلال المرور بسلسلة من المراحل الانتقالية، تشبه مراحل تحوّل الماء السائل إلى الجليد. ومن المرجّح أن تكون هذه العملية العشوائية قد أحدثت أوتارًا على شكل شقوق في الزمكان، مثل الشقوق التي تراها داخل مكعبات الثلج.
كان من الممكن أن يستمر الكون في التمدد، وتزداد معه أعداد الأوتار الكونية. ولكن في الواقع، كانت الأوتار بين الحين والآخر تنثني على نفسها أو تصطدم بغيرها من الأوتار؛ مما تسبب في زيادة الضغط على الحلقات الوترية لتخرج بشكل دفعاتٍ من الطاقة. ومع ذلك، ستستمر هذه الحلقات في التذبذب على مدى مليارات السنين، كما ستفقد الطاقة تدريجيًا مع انبعاث موجات الجاذبية منها، يصفها شميتز قائلاً: “إن الأمر أشبه لما يحدث عند اهتزاز أوتار الكمان“.
تُشكّل الحلقات المهتزّة مجتمعةً نوعًا من إشارات موجات الجاذبية، التي ربما لاحظتها مجموعة NANOGrav. ومن غير المحتمل أن تكون هذه الإشارة مرئية بالنسبة لـLIGO (مرصد الموجات الثقاليّة الذي يرصد الثقوب السوداء وتصادم النجوم النيوترونية). ولكن إن صح هذا، فسيفتح ذلك آفاقًا جديدة أمام العلماء حول المراحل الانتقالية الأولى الخاصة بها.
كما يقف هناك احتمال آخر، يُفضي بأن الأوتار الكونية نشأت من الأوتار الصغيرة المهتزة في نظرية الأوتار. وتقترح بعض نماذج النظرية أن الأوتار قد تطوّرت إلى أبعاد هائلة أثناء التوسع المطّرد والأوليّ للكون، ومن شأن الاختلافات التي تنشأ بين هذه الأنواع وكيفية انفصال الحلقات الوترية عن بضعها أن تخلق بصمةً فريدةً لموجات الجاذبية تميّزها عن الأنواع الأخرى.
يشكّ “جون إليس” عالم فيزياء الجسيمات في King’s College، أن البيانات الجديدة تُثبت صحة نظرية الأوتار، إذ يقول: “اعذروني ولكن، أعتقد أن ذلك سيخلق امتدادًا كبيرًا جدًا.”
الاندماج الكبير
من ناحية أخرى، يمكن أن تدلّ إشارة موجة الجاذبية التي رصدتها NANOGrav إلى نوع من الثقوب السوداء فائقة الكتلة، والتي على نقيض الأوتار الكونية، معروفة بوجودها الفعليّ.
فتحتوي كل مجرّة كبيرة تقريبًا، بما في ذلك مجرّتنا درب التبانة، على ثقب أسود هائل الحجم في مركزها، يتجاوز وزنه ملايين أو مليارات المرات وزن الشمس. فإذا اندمجت مجرّتان، سيبدأ ثقبهما الأسودان بالدوران حول بعضهما البعض، مما يخلق موجات جاذبية أثناء ذلك.
لم تُرصد عمليات اندماج مسبقة للثقوب السوداء الفائقة الكتلة. تقول جيني جرين، عالمة الفلك في جامعة برينستون: “من المزعج أننا لا نملك أي فكرة عما إذا كانا قد اندمجا بالفعل”، وتضيف: “يُشكّل هذا فجوة كبيرة في معرفتنا”، وتتسائل: “هل سيستغرق ذلك مليار سنة، أم أن الأمر يتماشى مع عمر الكون ليقع أخيرًا؟”
في بحث نُشر على الإنترنت في 16 سبتمبر، وجد إيليس وزملاؤه أن شكل الإشارة التي رصدتها NANOGrav يبدو أقرب إلى السلاسل الكونية من الثقوب السوداء فائقة الكتلة. إذ يقول إيليس: “يبدو أن البيانات تفضل تفسير الأوتار الكونية، ولكن ليس إلى حد كبير”.
كما وتوصّل باحثون آخرون إلى احتمال آخر، يُرجّح أن مجموعة NANOGrav قد رأت ثقوبًا سوداء بدائية، أو إشعاعات من المادة المظلمة. ومع هذا، لا يزال الجميع يتوخى الحذر في تفسيراتهم وتنبؤاتهم.
يقول ليم: “شخصيًا، أرى أن التصرف الصحيح الآن هو الجلوس فقط، وترقّب المزيد من البيانات. ولكن، كما تعلمون، جميعنا متشوقون لمعرفة السر“.
وإلى جانب مجموعة NANOGrav، سيقوم اتحاد European Pulsar Timing Array ومجموعة Parkes Pulsar Timing Array في أستراليا، بإصدار بياناتهم الخاصة في الوقت المناسب. كما يعمل تلسكوب FAST الصيني الجديد الذي يبلغ طوله 500 متر، وتلسكوب MeerKAT في جنوب إفريقيا، على توحيد قواهما في الجهود الدولية الرامية للبحث عن موجات الجاذبية والنجوم النابضة. يقول سيسانا “نعمل جميعًا يدًا بيد لجمع البيانات وتحليلها، لنتمكن في النهاية من تعزيز الثقة بما يكمن في الأعلى.”
مصدر الترجمة