الأديان في الفكر العلمي من أنكساغوراس إلى مرسيا إلياد
إن أوثق استخلاصات الأنثروبولوجيا (علم الإناسة) في فرعها الاجتماعي والثقافي، هو التأكيد بأن أهم ظاهرة لازمت تاريخ الإنسان في مختلف أصقاع الأرض هي الظاهرة الدينية، فحسب الموسوعة المسيحية العالمية “باريت” في طبعها لسنة 2001 م، أكدت بأن عدد الديانات في العالم عبر التاريخ بلغ حوالي 10.000 دين، حيث تعَّرف الإنسان على الدين على الأقل منذ أن كان “نياندرتاليَّا” في المرحلة المسماة من التاريخ “الباليوليت الأوسط” أي منذ 350,000 سنة مضت (1).
لعل هذا ما دفع الأمم المتحضرة إلى تأسيس علوم تدرس الأديان سوسيولوجيا وسيكولوجيا وفيلولوجيا وأنثروبولوجيا، بعد أن تحقق في هذا المضمار تراكمٌ معرفيٌ هائل في حقل الفلسفة، فمعظم متفلسفة البشر أدلوا بدلوهم في موضوعة الدين ودرسوه بمختلف مناهجهم النقدية، وللتعرف على هذا التاريخ، خصص أحد أهم علماء الأديان المعاصرين وهو الفرنسي “Michel Meslin ميشال ماسلان” (1926-2010)، كتابًا بعنوان “Pour une science des religions”، أو في الترجمة العربية “علم الأديان مساهمة في التأسيس” (المركز الثقافي العربي، 2009).
لتناول تاريخ تأمل ودراسة الإنسان للأديان من الخارج، أي من منطلق علمي وليس من منطلق إيماني خالص، وللإشارة إلى أهمية هذا العمل يكفي أن نقول أن صاحبه نشر 300 مقال علمي فقط في هذا التخصص بالإضافة إلى عشرات الكتب، التي استفتحت بـ”Les Ariens d’Occident” و كان آخرها “L’homme et le religieux” الذي صدر سنة 2010.
إن الأديان ليست كباقي أنواع المعرفة الإنسانية كما يظهر، إذ هي “موضوع القلق اللانهائي للبشر” كما يؤكد بول تليش (2)، فبقدر ما تظهر بساطتها يظهر سحرها، وبقدر ما تنبلج أسطوريتها تتأكد عقلانيتها بحدود الزمن التي ظهرت فيه، فلأن الأديان غامضة ذلك بالضبط ما يجسد سبب انجذاب الناس إليها، فكما يقول سانت أوغتستين: “أنا أومن بذلك لأنه غير مفهوم، فما هو شائع ومفهوم يرتد في وعي الإنسان إلى ما هو عادي ordinaire وليس إلى الخارق extraordinaire، “حيث تزداد تفاهة الشيء بمعرفة أصله” ودقة اكتناه المنطق الذي يشتغل وفقه كما يقول نيتشه.
إن الظاهرة الدينية دون شك تثير الكثير من التساؤلات المؤرقة حول طبيعتها وتاريخ تشكلها ومنطقها الداخلي، التي لن تبعث السائل إلا على أحد المضمارين، إما الانبطاح الاستسلامي للإيمان الموروث المنطبع باليقينية والتعصب، أو البحث الموضوعي الشجاع عن المعنى الإنساني الجذاب الذي يقبع وراء كل نزعة دينية بدون استثناء، نستطيع أن نصرح بأن الكتاب الذي بين أيدينا يؤرخ للأشخاص الذين سلكوا الطريق الثاني، وفي تراثهم نستطيع أن نتلمس أجوبة لأسئلة مستعصية من قبيل:
ما هو الدين؟ ما طبيعته؟ ما أصله؟ كيف تشكل؟ كيف يعاد إنتاجه باستمرار؟ لماذا يؤمن الملايين من الناس بمعتقدات قد تبدوا للوهلة الأولى مغرقة في الخرافاتية؟
يتطرق كتاب عميد جامعة السوربون سابقًا تقريبًا إلى معظم المقاربات الفلسفية و العلمية التي تغين فهم الدين بأسلوب لا يمكن وصفه بالمستكثر وإنما بالمختصر، فالكتاب يقع في 320 صفحة فقط، و هو عدد لا يسمح بعرض مُسهَبٍ لكل الاتجاهات النظرية في علم الأديان التي تطرق إليها ميشال مسلان، فالكتاب تجزأ إلى 3 أقسام تحمل الكثير من الفصول وهي: “تاريخية تاريخ الأديان” (ص 27-96)، و”المقاربات الحديثة للظاهرة الدينية” (ص 101-232)، ثم “الأساطير والرموز” (ص 243-319)، لكن من خلال مطالعة الكتاب وبالنظر إلى كون علم الأديان ما هو إلا مجموع فروع العلوم الإنسانية التي تدرس الأديان، ارتأيت أن من الأفضل أن تكون مورفولوجيا هذه المراجعة لعرض أفكار الكتاب حسب العلوم الإنسانية وليس حسب تسلسل الفصول، لذلك سنبدأ بالفلسفة وننتهي بالأنثروبولوجيا مرورًا بعلم نفس وعلم اجتماع الأديان.
علم الأديان -مدخل
عرف تاريخ الفكر الإنساني الكثير من مقاربات دراسة الأديان من منطلق فلسفي أو من منطلق ديني اتجاه باقي الأديان (كالفقه)، أي المقاربات التي كانت متصلة بعلم اللاهوت، لكن لم تتأسس مقاربات علمية لدراسة الأديان إلا بعد انفصال اللاهوت عن علم الأديان في سياق ظهور العلوم الإنسانية في القرن 19م، حيث سيستعمل لأول مرة لفظ “علم الأديان وهو المقابل اللغوي للكلمة الألمانية Religionswissenschaft من طرف الألماني ماكس مولر سنة 1867 م” (3)، أما في فرنسا وفي ذات الوقت كان أ. برونوف ينادي بتأسيس علم لدراسة العناصر المتفرقة للأديان، والذي نعته بعلم الأديان (4)، غير أن انتشار النزعة الوضعية في الجامعات الفرنسية آنذاك وجه الدفة نحو تسمية “تاريخ الأديان” ثم “تاريخ الأديان المقارن”، حيث بقي علم الأديان في هذا البلد حتى بعد توسيع دائرته ليشمل أكثر مما هو تاريخي، خاضعًا لتاريخ الأديان (5).
وليس ذلك من وجهة نظر منهجية صارمة بغير المجدي، فكما يقول ماركس “لا علم بلا تاريخ”، خصوصًا إذا تعلق الأمر بالأديان، فـ”فكل مواسم التجلي الإلهي وكل أشكال القداسة هي تاريخية، لأنه حالما يدخل الإنسان معها في تجربة المقدس، يتداخل الكشف التام المتحول إلى تاريخ بواسطة إدراك الوعي، فمهما كانت قوة إكراه التقليد المنقولة عبرها التجربة الدينية، فإن محتواها محكوم عليه بالتأثر بعوائد التعاقب الزمني” (6)، وهذا لا يعني أن علم الأديان يترأس فوق أساس تاريخي فقط بل إنه كما يأكد مسلان: “يقبع عند ملتقى مباحث شتى من تاريخ وظواهرية وعلم نفس وعلم اجتماع، موظفًا مناهجها وإضافاتها، ومؤكدًا أصالتها النوعية” (7)، حيث يهدف هذا العلم على عكس المقاربات القديمة خصوصًا اللاهوتية، إلى الفهم وليس إلى التوجيه، أو الحكم بالصحة و الخطأ، العقلانية أو الخرافاتية على مختلف أديان البشر كما كان يفعل اللاهوتيون.
فإذا كان هذا الأخير علمًا معياريًا سياقاته مشروطة بمدى ما يتمتع به الإيمان من صدق حصري وواحدي، دون غيره من الإيمانيات الأخرى، فإن موضوع علم الأديان (وهو الدين) لا يستطيع أن يكون محل إجلال أو إدانة، بسبب الموضوعية التي تصبغه والهدف الذي يقيده وهو الفهم (8)، وليس معرفة ما هو حقيقي قطعًا أو زائف كليًا، “فالجانب الغيبي ليس من اختصاص هذا العلم” (9)، إذا كان علم اللاهوت يجيب عن سؤال: ما الواجب علينا الإيمان به؟ ولماذا ينبغي علينا الإيمان بهذا المعتقد وليس ذاك؟ فإن ذلك ليس من مشمولات علم الأديان، فهو يهتم بكل ما هو معتقد من طرف البشر بشكل عام في بعده التعددي لا الواحدي، فلا يعني عالم الأديان أن يحدد الديني إلا من منطلق من يؤمن به (وهو المُتَديِّن)، أي ما يصفه الوضعيون les positivistes بـ”الواقعة الدينية” وهو ما يضفي الصبغة العلمية على مقاربة هذا الفن، لعل ذلك ما يساهم في “فهم أكثر تجردًا وحداثةً وإحاطةً بمعظم ما يقدمه كل دين لأتباعه” (10).
سنلاحظ مع مختلف أطوار هذه المراجعة بأن مسار علم الأديان سينطلق راديكاليًا نسبيًا منذ اليونان حتى العصر الحديث مع فلسفة الأنوار والفلسفات المادية، غير أنه سيعود وبكل تواضع واحترام إلى توقير الأديان حيث سيضفي عليها قيمًا سامية تتجاوز أحيانًا حدود الموضوعية كما سنرى، خصوصًا في النصف الثاني للقرن 20 م.
إحالات و مراجع: (1) فراس السواح ، "دين الإنسان: بحث في ماهية الدين و منشأ الدافع الديني" ، منشورات دار علاء الدين ، دمشق 2002 ، الطبعة 4 ، ص 124-125 . (2) .Paul TILLICH, "Le courage d’être", Paris, Castermen, 1967, p 58 (3) ميشال ماسلان ، "علم الأديان مساهمة في التأسيس" ، ترجمة عز الدين عناية، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء 2009 ، ط 1 ، ص 16 . (4) خزعل الماجدي ، "علم الأديان" ، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود ، الدار البيضاء - بيروت 2016 ، طبعة 1 ، ص 49. (5) ميشال مسلان ، "علم الأديان" ، م.س.ذ، ص 16. (6) نفسه ، ص 17. (7) ميشال مسلان ، "علم الأديان" ، ص 19 . (8) نفسه ، ص 20 . (9) خزعل الماجدي ، "علم الأديان" ، م.س.ذ، ص 49. (10) ميشال مسلان ، "علم الأديان مساهمة في التأسيس" ، م.س ، ص 21.