أفكار ضربها الوباء!
لا يقتل الوباء البشر فقط؛ بل إنه يقتل الأفكار أيضًا. وعندما لا يقتلها فإنه يقوِّضها. فالأفكار التقليدية عن المكاتب والمستشفيات والجامعات، على سبيل المثال، لن تصمد بوجه التداعيات الاقتصادية للوباء. كذلك هو الحال بالنسبة لبعض الأفكار الاقتصادية والسياسية الأكثر عالمية. الأفكار الأربع التالية هي أمثلة على ذلك:
1 – الولايات المتحدة الأمريكية هي مصدر للاستقرار العالمي: هذا غير صحيح. إن واشنطن هي بؤرة هامة لعدم الاستقرار الجيواستراتيجي. فردة فعل حكومة جورج دبليو بوش على الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001، مثلًا، كانت سببًا في حروب طويلة. وفي عام 2008 صدَّرت الولايات المتحدة إلى العالم أزمة مالية خطرة. لكن أي حرب أو أزمة اقتصادية لم تنتقص من تأثير الولايات المتحدة العالمي بقدْرِ ما فعل دونالد ترمب. فمنذ انتخابه، في 2016، أظهر الرئيس الأمريكي، في كل يوم تقريبًا، أنه يفضِّل تأجيج الصراعات وإثارة الخلافات، بدلًا من تهدئة العالم وبلده. ردود فعله على الوباء أكدت مرة أخرى أن البيت الأبيض حليف متقلب، وأخرق، وقليلًا ما يُعوَّل عليه.
المفارقة الكبرى في نشر الولايات المتحدة لعدم الاستقرار هي أن المستفيد الأكبر من النظام العالمي الذي يقوم ترمب بزعزعته هو الدولة التي يترأسها.
2– التعاون الدولي: أكد الوباء عدم وجود مجتمع دولي قادر على مواجهة التهديدات العالمية الشاملة على نحو متضافر. ومآسي سوريا واليمن وفنزويلا أو الروهينغا هي أمثلة فقط على عدم فعالية المجتمع الدولي.
لقد أثبت فيروس كوفيد 19 إثباتًا قاطعًا أن ذلك المجتمع الدولي المزعوم الذي يعمل بتناسق ليس موجودًا، فاستجابة البلدان لهذا الطارئ الصحي لم تكن بالعمل جنبًا إلى جنب، وإنما بالتحصن خلف حدودها. على سبيل المثال؛ كان من المفترض أن يعزز الوباء منظمة الصحة العالمية، وهي كيان متعدد الأطراف لا يخلو من العيوب، لكن لا غنى عنه. في المقابل، الولايات المتحدة الأمريكية على قناعة بأن هذه المنظمة خاضعة لسيطرة الصين، وبدلًا من قيادة تحالف دولي كبير لإصلاح هذه الهيئة متعددة الأطراف، تقرر الانسحاب منها. كما أسهم عدم الثقة بالتعاون الدولي أيضًا في تشظي التنسيق بين البلدان وجعله أقل فاعلية فيما يتعلق بالمعايير، وبإنتاج وتوزيع الأدوية والمواد الصحية. هاكم مفارقة أخرى: الحط من شأن التعاون الدولي جعل الاستجابة لتهديد عالمي استجابةً محلية وغير ملائمة أساسًا.
3– التقشف المالي: هذه الفكرة، التي كانت شعبية للغاية، بوصفها علاجًا اضطراريًا لأزمة اقتصادية، هي الآن فكرة سامة. فبمواجهة انهيار اقتصادي كان ينبغي على الحكومات حصر نفقاتها وديونها بشدة. بيد أن عكس ذلك تمامًا هو الجاري حاليًا: مزيد من الإنفاق والاستدانة هو الوصفة الرائجة. وهكذا، في كل مكان، زادت الحكومات الإنفاق العام إلى مستويات غير مسبوقة. أما العجز المالي، وهو الفرق بين حصيلة الضرائب ومداخيل أخرى للحكومة من جهة والإنفاق العام من جهة أخرى، فقد قفز إلى مستويات لم تر من قبل. في الولايات المتحدة، مثلًا، سيبلغ العجز المالي لهذا العام مبلغًا مساويًا لـ 24 بالمائة من إجمالي الاقتصاد الأمريكي العملاق. وقد زادت مديونية جميع البلدان تقريبًا، فالدين الأكبر في العالم نسبة إلى حجم اقتصاد البلد المعني هو الياباني، أما الولايات المتحدة فهي بطلة العالم في القيمة المطلقة للنقود المقتَرَضة (20 تريليون دولارًا). في السنوات القادمة، سيشعل اتخاذ قرار بشأن موعد وكيفية سداد هذه الديون (ومن سيدفعها) فتيل نقاش عالمي هام وغاضب.
4– العولمة: تلك فكرة أخرى أُضْفِيَ عليها طابع المثالية في السابق وتجري شيطنتها حاليًا. وكما يحدث عادة، فإنها لم تكن بتلك الجودة من قبل، وليست بهذا السوء الآن. بالنسبة لكثيرين، تتجلى العولمة في تدفق البضائع والأموال فيما بين الدول. بالنسبة لآخرين، إن مظهرها الأكثر مدعاة للقلق هو الهجرة. من الناحية العملية، العولمة أكثر تعقيًدً إلى حد بعيد. إنها تتضمن، بكل تأكيد، الزيادة الهائلة في التدفق العالمي للمنتجات والخدمات والأموال والمعلومات؛ لكنها تتضمن أيضًا نشاطات الإرهابيين والمهربين والمجرمين والعلماء والعاملين في الأعمال الخيرية والناشطين والرياضيين والمنظمات غير الحكومية. وكذلك، بالطبع، الأمراض التي تتنقل الآن بسرعة كبيرة بين القارات.
تستطيع الحكومات عرقلة بعض هذه المظاهر أو تحفيز بعضها الآخر. لكن ما لا يمكن لأحد أن يفعله هو الوقف الكامل للأشكال المتعددة التي تتشابك بها الدول. سوف يعزز الوباء وتبعاته الاقتصادية البحث عن سياسات تخفف من حدة الصدمات الخارجية التي تهز الدول دوريًا، وتبنِّيها. وسيكون هناك المزيد من النزعة الحمائية. لكن المزايا وعوامل الجذب في بعض جوانب العولمة لن تختفي.
ما هو القاسم المشترك بين هذه الأفكار المُقَوَّضة؟ الجواب هو أن هذه الأفكار الأربع هي ركائز النظام العالمي الذي انبثق بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا كانت هذه الركائز قد تعرضت للضرر، فإن من الممكن إصلاحها وتحسينها. هذا هو التحدي الجوهري للسنوات القادمة.
مصدر الترجمة