(قيمة/ زمن)
(1)
في الطَّبْعَة السَّادسة من كِتابي نقد الاقتصاد السياسي1 عَالجتٌ قانون القيمة وبيَّنْتُ أنَّ علم الاقتصاد السياسي عَبْر تاريخه، يقيس القيمة، الَّتي هي مَحل اِنشغاله المركزيّ والأصيل، بمقياسٍ غير صَحيح عِلميًّا؛ فانتهى بالتبع إلى نَظريَّة في ثمن السُّوق. السُّوق، حيث كُل شيْء مُتوقف على كُل شيْء! وبالتَّالي، جاء تفسيره للظَّواهر المتعلّقة بالإنتاج والتَّوزيع على الصعيد الاجتماعيّ مُشوشًا قَاصرًا. وكان بُرهاني، على خطأ الاقتصَاد السِّياسيّ في قِياس القيمة، هو أنَّ القِيمة هي خَصيِصَة من خَصَائص الشَّيْء، صِفة، تميّزه وتُحدّده. وهي على هذا النَّحو مِثل الوَزْن والطُّول والحَجْم والارتفَاع،… إلخ. فإذا كان للشّيْء ثِقْلٌ ما قُلنا أنَّ للشَّيْء وزْنًا. ذو وَزْن. وإذا كان للشَّيْء بُعدٌ ما بين طرفَيه قُلنا أنَّ للشَّيْء طولًا، ذو طول. وإذا كان الشَّيْءُ يشغل حَيزًا ما؛ قُلنا أنَّ للشَّيْءِ حَجمًا، ذو حَجْم. وإذا كان للشَّيْء طولٌ عَموديّ من قاعدتِه إلى رأسِه؛ قُلنا أنَّ للشَّيْء ارتفاعًا، ذو ارتفاع. والأمرٌ نفسه بالنْسبة للقِيمة؛ فالشَّيء/ المنتوج الَّذي يَكون نتيجة العَمل (أيًّا ما كان: حُر، مُستَعبَد، مُسخَّر، تَعاقديّ)، ومن ثم يَحتوي على قدرٍ أو آخر من ذَلك الجُهْد الإنسانيّ والَّذي يتَجسَّد في هذا المنتوج، يُصبح له قِيمة، ذو قِيمة. والقيمة على هذا النحو لا تَعتمد في وجودها على قِياسها أو تقديرها؛ إذ لا يَصح في العقلِ أنْ نقول أنَّ الشَّيْء بلا قِيمة لأننا لا نَعرف بعد قَدْر المجْهُود الإنسانيّ المبذول في إنتاجِه؛ ذلك لأن القِيمة، كخَصيِصَة، تَثبُت للشَّيْء بمُجرَّد أن داخله هذا القَدْر أو ذَاك من المجْهُود الإنسانيّ، ولا يَكون قِياس القِيمة، أو تَقديرها بكميَّة من شيٍء آخر، إلا في مرحلةٍ تالية لثبوت القِيمة ذاتها؛ تمامًا كما أن قِياس الطُّول لا يكون إلا تابعًا لثبوت خَصيِصَة البُعد بين طرَفَي الشَّيْء. والاقتصَاد السِّياسيّ حِينما يقول، على سَبيل المثال، أن القلم قِيمته 40 دقيقة فإنما يَعني أن المجْهُود الإنسانيّ المتجسّد في القلم قِيمته 40 دقيقة!2
بيد أن مَذهب الاقْتصاد السِّياسيّ على هذا النَّحو في قِياس القيمة وما يَترتب عليه، إنما يتصادم مع أصول عِلم القياس بل ويتعارض مع مَفهوم القِيمة ذاتها؛ إذ لا يَستقيم عِلميًّا القول بأن المجْهُود الإنسانيّ المبذول في سبيل إنتاج الشَّيْء يساوي (ك) من الدَّقائق أو (ع) من السَّاعات وإن جَاز القول بأنَّ المجْهُود الإنسانيّ المبذول في سبيل إنتاج الشَّيْء تم خِلال (ك) أو (ع) من الدَّقائق أو السَّاعات. بل وحتّى حينما نقول أن المجْهُود الإنسانيّ بُذل خِلال (ك) من الدَّقائق أو تم خِلال (ع) من السَّاعات، فلا يَعني ذلك أبدًا أننا قمنا بقياس هذا المجْهُود الإنسانيّ؛ بل على العكس، ذلك يَعني أننا عَرفنا فحسب الوَقْت الَّذي أُنفق (خِلاله) هذا المجْهُود دون أن نَعرف قَدره. عَرفنا الزَّمن الَّذي تكوَّنت (خِلاله) القِيمة، ولكن لم نَعرف مِقدار القِيمة نفسها! ولأن الاقْتصَاد السِّياسيّ يمضي مُجافيًا العِلم حينما يُؤكد، كمَسلَّمة، عَبْر أكثر من مئتي عامًا أن قِيمة السلعة تُقاس بالوَقْت المنفَق في سبيل إنتاجها؛ فإنه بتلك المثابة يَستخدم مِقياسًا غير صَحيح لقياس القِيمة؛ لأنه يَقيس الجُهْد الإنسانيّ المتجسّد في المنتوج باستعمال وحدة قياس الوَقْت! وكأنه، وكما ذكرتُ في كِتابي، يُحاول قِياس الطُّول بالريختر أو قِياس الارتفاع بالجالون الإنجليزيّ! وعليه، قمتُ بمراجعة مئتي عامًا وأكثر من تاريخ عِلم الاقْتصَاد السِّياسيّ؛ كي انتهي إلى تصحيح مِقياس ووحدة قِياس القِيمة؛ مُقدّمًا وحدة القياس الصَحيِحَة مُمثَّلة في السُّعر الحراريّ الضَّروريّ، والَّتي رَمزتُ لها بالحروف (س. ح. ض). فالقِيمة إذًا (ككميَّة من المجْهُود الإنسانيّ والَّذي يتجسَّد في المنتوج) تُقاس بالسُّعر الحراريّ الضروريّ اِجتماعيًّا وليس بالسَّاعة الَّتي هي وحدة قِياس الوَقْت. وبالتَّالي افترضتُ أني تمكنتُ من إعادة تقديم قانون القِيمة، وربما إعادة طرح الاقْتصَاد السِّياسيّ نفسه كعِلم اجتماعيّ محل اِنشغاله قانون القِيمة كقانون عَام حَاكم لجميع الظَّواهر المتعلّقة بالإنتاج والتَّوزيع الاجتماعيَين، على نحوٍ باستطاعته مُعالجة جميع المشكلات الموضوعيَّة والمنهجيَّة الَّتي واجهت الآباء المؤسّسين للعِلم، وفي مُقدمة تلك الْمُشْكِلَات قِياس القِيمة في حَقل الْخَدَمَات، والَّتي كان يَستبعدها الآباءٌ المؤسّسون من نِطاق العَمل المنتِج. والأهم، أن حَلّ هذه المشكلات نفسها يَجري دون الاِسْتِعانَةِ بالسُّوق مثلما استعان به سميث وريكاردو وماركس،3 فخرجوا بالاقتصَاد السِّياسيّ من حقل العِلم إلى دَوَائِر التَّجْرِيب، وفتحوا الباب على مِصْرَاعَيه أمام سيلٍ جَارف من الأضاليل والأباطيل الَّتي تسرَّبت إلى العِلم الاقتصَاديّ فأفرَغته من محتواه الاجتماعيّ وجرَّدته من مَضمونِه الإنسانيّ!
وبعد أن قدَّمتُ فرضيتي بشأن تَصحيح قِياس القِيمة، انتقلتُ لدراسة الدّور الَّذي يؤدّيه الزَّمن في تكوين تلك القِيمة على الصعيد الاجتماعيّ. ولأن الاقْتصَاد السِّياسيّ دَأبَ على دراسة الظَّواهر محل انشغاله بمَعزل عن حَركة الزَّمن، باستثناء:
- بعض الشَّكّ الَّذي أبْداه ريكاردو، قبل كِتابة الطَّبْعة الثَّالثة من مبادىء الاقتصاد السياسي، في رسالته إلى رامساي والَّتي أعْربَ له فيها عن رَغبته في إعادة تَحليل القِيمة على أساسٍ من إدخال الزَّمن النْسبيّ الَّذي تَستَغرقه السِّلْعَةُ قَبل طَرحها في السُّوق.4
- ومُحَاوَلَة ماركس الَّتي رَكنت إلى قُدرة مَيْل مُعدَّلات الأرباح إلى التَّساوي على حل مُشكلة تكوين القيمة مع التغيُّر في الزَّمَن.
فلذا؛ كان من المتعيَّن أن أبدأ من هذا الشَّك الرّيكاردي واتتبعه إلى مُنتهاه. وأن أخذ في اعتباري، بصفةٍ مَنهجيَّة خاصّة، محَاوَلة ماركس.
(2)
ولكي نَستكمل هنا ببعض التوسُّع مُناقشتنا للدّور الَّذي يؤدّيه الزَّمن في تكوين القيمة، يَجب أن نُعيد تَوضيح المَسْأَلة الَّتي واجهها عِلم الاقتصاد السِّياسيّ وتصدَّى لها ريكاردو ومن بعدِه ماركس. فالمسألةٌ حاصلها: وجود ثَلاث سلع: القَوَالِب الخشبيَّة والنَّبيذ والفخَّار. وكل سلعة من الثَّلاث تَستغرق 120 ساعة عَمل5 (حَي، ومُختَزن، وزائد). حتَّى الآن لا توجد مُشكلة في التَّبادُل وفق قانون القيمة؛ إذ سيجري التَّبادُل بين السلع الثلاث بنسبة 1:1، لكن الصُعُوبة سوف تَثور حينما يواجه الاقْتصَاد السِّياسيّ بمشكلة الزَّمَن:
- فصَاحب القَوَالِب الخشبيَّة الَّذي تكلَّف 120 ساعة عَمل، يَجب عليه الانتظار، قبل طرح القَوَالِب للتداول ومن ثم عودة الرَّأسمال محملًا بالربح، فَترة 240 يومًا.
- أما صاحب النَّبيذ الَّذي تكلَّف 120 ساعة عَمل أيضًا، فيتعين عليه الانتظار، قَبل طَرح النَّبيذ للتداول، فترة 120 يومًا.
- أما صاحب الفخَّار والَّذي تَكلَّف كذلك 120 ساعة عَمل، فليس عليه سوى الانتظار 60 يومًا فحسب كي يَطرح فخاره في حَقل التداول ومن ثم يَعود له رأسماله محملًا بالربح.
فكيف يمكن إذًا إجراء التَّبادُل على نحو طبيعيّ بين السلع الَّتي تتساوى أثمان إنتاجها (120 ساعة عَمل) وتختلف أَزْمِنة إنتاجها6 (240/ القَوَالِب الخشبيَّة، و120/ النَّبيذ، و60/ الفخَّار)؟
بالنسبة لريكاردو الحل، في نهاية المطاف، هو أن نُعطي مُكافأة انتظار! قدَّرها، في الطَّبْعة الثَّالثة من كتاب المبادىء بـ 10%! ولكن، لم يقل لنا ريكاردو، أبدًا، لمP 10%، وليس 9% أو11%؟.
أمَّا ماركس (والَّذي فرَّق، ابتداءً من استخدام قوة العَمل، بين يوم العَمل7 وفترة العَمل،8 وفرَّق كَذلك، ابتداءً من استخدام الرَّأسمال، بين زمَن العَمل9 وزمَن الإنتاج) فقد رأى أن مَيْل مُعدَّلات الأرباح إلى التَّساوي في القطاعات سوف يقوم بأداء دوره الحاسم في شرح دور الزَّمَن في تكوين القيمة! ولكن، الاكتفاء بقُدرة مَيْل مُعدَّلات الربح إلى التَّساوي، كما ظنَّ ماركس، على توجيه المنتجين إلى فروع الإنتاج ابتداءً مِن إقدام وإحجام الرَّساميل وفقًا لمُعدَّل “الربح الوَسَطي”10 يُفضي إلى حَتمية التَّسليم بأن صَاحب القَوَالِب الخشبيَّة والآخر صَاحب النَّبيذ سوف يتجهان إلى فرع الفخَّار! ولكن، هذا لا، ولم، ولن يَحدث؛ فنحن نعلم أن عِلم الاقْتصَاد السِّياسيّ، على الأقل وفقًا لمساهمة ريكاردو، انتهى في مرحلةٍ مُبكرة نسبيًّا إلى تحديد قِيمة السلعة بكميَّة العَمل، الضَّروري النْسبيّ، المبْذول في سبيل إنتاج السلعة، ولا تتوقف تلك القِيمة على العَمل الحي المنفَق في الإنتاج فقط بل يُؤخذ أيضًا في الاعتبار ذلك العَمل الضَّروريّ المنفَق في سبيل إنتاج المباني والآلات والمعدَّات الضَّروريَّة لتحقيق العَمل، أي العَمل المختَزن. وبالتَّالي، فإن قِيمة المعطف الَّذي أُنفقَ في سبيل إنتاجه 100 ساعة من العَمل الحي و50 ساعة من العَمل المختَزن، تتساوى مع قِيمة النسيج الَّذي أُنفقَ في سبيل إنتاجه 80 ساعة من العَمل الحي و70 ساعة من العَمل المختَزن. وما أن جاء ماركس، إلا واستكمل مُكونات القِيمة، وصرنا نَعرف أن قِيمة المعطف لا تتكون فحسب من العَمل الحي والعَمل المختَزن، إنما يُضاف إليهما العَمل الزَّائد، وذلك في مرحلةٍ أولى من تفكيره11 قبل أن ينحرف عن طريقه، في مرحلةٍ ثانية، ويعتد بمتوسط العَمل الزَّائد.12 ولكن، ما انتهى إليه الاقْتصَاد السِّياسيّ على هذا النَّحو، لا، ولن، يُسعفنا في سبيل التعرُّف، عِلميًّا، إلى سَبَب بقاء أصدقاءنا الثلاثة في السُّوق دون تَحوُّل أحدهما أو كليهما، أي صاحب القَوَالِب الخشبيَّة و/ أو وصاحب النَّبيذ، إلى فرع إنتاج الفخَّار لأنَّ كل واحدٍ من الثلاثة، وكما ذكرنا أعلاه، يُنفق 120 ساعة من العَمل (الحي والمختَزن والزَّائد)، ولكن لا يعود الرَّأْسمال محملًا بالربح، إذ ما تركنا جانبًا زمَن التداول، إلا بعد 240 يومًا في فرع إنتاج القَوالِب الخشبيَّة و120 يومًا في فرع إنتاج النَّبيذ و60 يومًا فقط في فرع إنتاج الفخَّار. إن الفرضيَّة الَّتي نتقدَّم بها هي أن السبب في استمرار الثلاثة في السُّوق هو أن القِيمة الاجتماعيَّة للسلعة، عَبْر تطورها، صارت تتحدَّد بكميَّة الطَّاقة الحيَّة والمختَزنة والزَّائدة (مُقوَّمة بالسُّعر الحراريّ الضَّروريّ) مَقْسومةً على زمَن إنتاجها، أي تتحدَّد بقيمتها الاجتماعيَّة ÷ زمَن إنتاجها. أما القِيمة الاجتماعيَّة النْسبيَّة للسلعة فهي تتحدَّد بقِيمتها الاجتماعيَّة مَقسومة على زمَن إنتاجها، مُقارنةً بالقيمة الاجتماعيَّة للسلعة الأخرى المتبادل بها مَقْسومة أيضًا على زمَن إنتاجها.
والسلع حينما تتقابل على نحوٍ طبيعي إنما تتبادل وفق هذا القانون. وحينما تتأرجح أثمانها في السُّوق فهي تتأرجح حول هذه القِيمة الاجتماعيَّة. وعند إعمال هذا القانون نُقابل ثلاث فرضيات: إمَّا أن تَختلف أزمنة الإنتاج وتتساوى القِيم الاجتماعيَّة أو تَختلف القِيم الاجتماعيَّة وتتساوى أزمنة الإنتاج، أو تَختلف أزمنة الإنتاج وكذلك القِيم الاجتماعيَّة. في جميع الأحوال ينطبق قانون القيمة الاجتماعيَّة النْسبيَّة، أي القِيمة الاجتماعيَّة للسلعة مَقْسومة على زمَن إنتاجها، نِسبةً إلى القِيمة الاجتماعيَّة للسلعة المتبَادل بها مَقْسومة على زمَن إنتاجها.
بناءً عليه، وإذ قمنا، إعمالًا لمذهبنا في قِياس القيمة، باستبدال ساعة العَمل بكميَّة الطَّاقة الضَّروريَّة، وافترضنا أن كلًّ من الثلاثة، أي: صَاحب القَوالِب الخشبيَّة وصَاحب النَّبيذ وصَاحب الفخَّار، يُنفق 12000 سُعرٍ حراريّ ضروريّ (عَمل حَي + عَمل مختَزن + عَمل زائد)، ولكن، وكما ذكرنا، لا يعود الرَّأْسمال محملًا بالربح، إلا بعد 240 يومًا في فرع إنتاج القَوَالِب الخشبيَّة، و120 يومًا في فرع إنتاج النَّبيذ، و60 يومًا فقط في فرع إنتاج الفخَّار، فإنَّ:
- قِيمة وحدة واحدة في فرع إنتاج القَوَالِب الخشبيَّة تساوي قِيمة نصف وحدة في فرع إنتاج النَّبيذ.
- وقِيمة وحدة واحدة في فرع إنتاج النَّبيذ تساوي قِيمة نصف وحدة في فرع إنتاج الفخَّار.
- وقِيمة وحدة واحدة في فرع إنتاج الفخَّار تساوي قِيمة 2 وحدة من النَّبيذ، و4 وحدات من القَوَالِب الخشبيَّة.
ولكن، تحقيق 50 (قِيمة/ زمَن)13 كما في فرع إنتاج القَوَالِب الخشبيَّة، والَّذي يتم بواسطة: 12000 ثمن إنتاج، و240 زَمن إنتاج، يمكن أن يتم أيضًا:
- بواسطة: 6000 ثمن إنتاج، و60 زَمن إنتاج (كما في فرع إنتاج النَّبيذ).
- ويمكن أن يتم كذلك بواسطة: 3000 ثمن إنتاج، و15 زمَن إنتاج (كما في فرع إنتاج الفخَّار).
وبالتَّالي، سوف يقوم الرَّأسماليَّان: مُنتج القَوَالِب الخشبيَّة، ومُنتج النَّبيذ، بتعديل التوليفة (قيمة/ زمن) من 12000/ 240 إلى 3000/15. وذلك انْصِياعًا للتطوُّر في درجة الصراع الاجتماعيّ من أجل السَّيْطَرَة على الجديد في حَقل التقنيَّة، دون أن يُضطرا، مع التثوير المطرد في قوى الإنتاج الاجتماعيّ، إلى الانتقال من فرع إنتاج إلى فرع إنتاج آخر. فلنلاحظ:
أولًا: أن قيام مصانع القَوَالِب الخشبيَّة، والنَّبيذ، والفخَّار، بتعديل توليفاتهم الإنتاجيَّة (قيمة/ زمن) إنما يَجري بفعل قانون القِيمة الاجتماعيَّة النْسبيَّة، المحكوم بدرجة الصِّرَاع الاجتماعيّ في حَقل التقنيَّة ، وليس نتيجة مُكافأة انتظار مُفترَضة كما تصوَّر ريكاردو. ولا بفعل مَيْل مُعدَّلات الربح إلى التَّساوي كما اِعْتَقَدَ ماركس.
ثانيًا: أن التعديل في التَّوليفات باستخدام تقنياتٍ إنتاجيَّة جديدة للحصول على 50 (قيمة/ زمن)، بأقل ثمن إنتاج (3000 س. ح. ض)، وبأقل زمن إنتاج (15 يومًا) سوف يُؤدّي إلى انخفاضٍ عام في القِيم الاجتماعيَّة النْسبيَّة على الصَّعيد الاجتماعيّ، في إطارٍ من صراعٍ مَحْمُوم على امتلاك الجديد في حَقل التقنيَّة؛ بِقصد الحصول على أقل (قِيمة/ زمَن). وهو ما قد يُثير التَّساؤل عن مَدَى إمكانيَّة تَلاشي ظاهرة القِيمة نفسها نتيجة التطوُّر المُطَّرِد في حَقل التقنيَّة. ولنؤجِّل مُعالجة هذا التَّساؤل إلى ما بَعد مُناقشة الملاحظة الأولى المتعلّقة بِقدرة مَيْل مُعدَّلات الربح إلى التَّساوي على تَفسير دور الزَّمَن في تَكوين القيمة.
(3)
فلمناقشة تلك القُدْرة المزْعُومة، والَّتي تَضرب بجذورها في عُمق عِلم الاقتصاد السِّياسيّ، لميْل مُعدَّلات الربح إلى التَّساوي على تَفْسِير دور الزَّمَن في تكوين القِيمة، سوف نناقش دور القِيمة الاجتماعيَّة في تعديل التَّوليفة (قِيمة/ زمن) ابتداءً من تحليل مكونات ثمن الإنتاج نفسه، حيث أغفلنا ذلك أعلاه وافترضنا فحسب أن قِيمته (ككل) 12000 وحدة، دون أن نفحص قَدْر كل مُكون من مُكوناته، بصفةٍ خاصّة: العَمل المختَزن، والعَمل الزَّائد. أي دون فحَص للرَّأسمال الهاجع (وسائل الإنتاج)، والربح (العَمل الزَّائد). فلنفترض الآن أن ثمن الإنتاج عند صاحب القَوَالِب الخشبيَّة البالغ 12000 (س. ح. ض) يتكون من 3000 وسائل إنتاج، وسنرمز لها بـ (و. إ)، و9000 عَمل زائد، وهو الربح، وسنرمز له بـ (ر). ولنفترض كذلك أن ثمن الإنتاج عند صاحب النَّبيذ البَالغ أيضًا 12000 (س. ح. ض) يتكون من 9000 (و. إ)، و3000 (ر). أما ثمن الإنتاج عند صاحب الفخَّار البَالغ أيضًا 12000 (س. ح. ض) فلنفترض أنه يتكون من 11000 (و. إ)، و1000 (ر). فوفقًا لفرضيَّة ماركس يتعيَّن الآن، عَكس مَذهبه قَبل تَحليلنا مُكونات ثمن الإنتاج، أن يتحول صانع النَّبِيذ، ومعه صَاحب الفخَّار إلى حقل إنتاج القَوَالِب الخشبيَّة، حيث يَحصل الأخير على أعلى ربح ممكن وقَدْره 9000 وحدة، وسيظل يَجني أعلى ربح حتَّى لو قام رأْسمال صانع الفخَّار بأربع دَوْرات مُقابل دورة واحدة لرأسمال صانع القَوَالِب الخشبيَّة؛ فلو قام رأسمال الأوَّل بأربع دَوْرات فسوفَ يَجني 4000 وحدة فحسب في 240 يومًا. وكذا الأمر بصدد صانع النَّبيذ؛ فدورَتان لرأْسماله لا يدرَّان عليه سوى 6000 وحدة في 240 يومًا. رساميل فرع النَّبيذ إذًا، وكذلك رساميل فرع الفخَّار، وعلى الرَّغْمِ من الشّك الَّذي يُحيط بالأمر، سوف تتجه إلى فرع إنتاج القَوَالِب الخشبيَّة. واندفاع الرَّساميل على هذا النَّحو صَوب حَقل إنتاج القَوَالِب الخشبيَّة سَيكون نتيجة مَيْل مُعدَّلات الربح إلى التَّساوي أي بالتمام والكمال كما قَال ماركس! ولكن، يَجب هُنا، ومباشرةً، لا أن نلغي علاقة الزَّمَن بقوى الإنتاج الهاجعة دون عَمل فحسب إنما وأيضًا يَجب أن يَجري التَّحليل، كما فَعلنا لتونا، بإسقاط وسائل الإنتاج من الحسَابات تمامًا! فقد كانت حسَاباتُنا على النَّحو التَّالي: 9000/240 في فرع إنتاج القَوَالِب الخشبيَّة، و3000/120 في فرع إنتاج النَّبيذ، و1000/60 في فرع إنتاج الفخَّار. أي أننا تَجاهلنا، مع مَذهب ماركس الَّذي تَجاهل بلا أي سببٍ وَاضح قيمة وَسائل الإنتاج في كُل فرع، وقمنا فقط بحساب نسبة الربح إلى زمَن الإنتاج! ومن المعلوم بالضَّرورة أن الربح لا يمكن أن يتحقق خِلال الزَّمَن إلا بواسطة قوى الإنتاج؛ وبالتَّالي لا سبيل إلى إهدارها حين حِساب الـ (قِيمة/ زمَن). ولذا، وإن أردنا التعرُّف إلى الدّور الَّذي يؤدّيه الزَّمَن في تكوين القِيمة، فلا يمكن الركون إلى تلك الثقة الزَّائدة، وغير المبرَّرة عِلميًّا، في قدرة مَيْل الأرباح إلى التَّساوي! بل يَجب أن يتم الحساب على النحو، الصَّحيح، التَّالي: 12000/240 في فرع إنتاج القَوَالِب الخشبيَّة، و12000/120 في فرع إنتاج النَّبيذ، و12000/60 في فرع إنتاج الفخَّار. وبتلك المثابة تتوقف نَظريَّة ماركس في قدرة مَيْل مُعدَّلات الربح إلى التَّساوي (والَّتي تغض طرفها عَمدًا عن قِيمة وسائل الإنتاج الهاجعة كأحد مُكونات ثمن الإنتاج) عند حدود تَفسير إقدام الرَّساميل وإحجامها وبمعزلٍ عن الزَّمن! نَظريَّة ماركس في مَيْل مُعدَّلات الربح إلى التَّساوي لا يمكن إذًا أن تؤدّي عَملها حين استخدامها للتعرُّف إلى الدّور الَّذي يؤدّيه الزَّمَن في تكوين القيمة! قانون القِيمة الاجتماعيَّة النْسبيَّة فحسب هو القَادِر على شرح دور الزَّمَن في تكوين القِيمة على الصعيد الاجتماعيّ.
فإذا عُدنا لمثلنا أعلاه، وإعمالًا لقانون القيمة الاجتماعيَّة النْسبيَّة الَّذي يعتد بالزَّمَن ولا يُهدر قيمة وسائل الإنتاج الهاجعة؛ فسنجد أن الرَّساميل، سواء أكانت الرَّساميل الناشطة في فرع إنتاج القَوَالِب الخشبيَّة أم فرع إنتاج النَّبيذ أم فرع إنتاج الفخَّار لن تُغادر أي فرع إلى آخر بل سيجري فقط التَّعديل في التَّوليفات الإنتاجية (قيمة/ زمَن) باستخدام التقنيات المتيحة لذلك من أجل الحصول على 50 (قيمة/ زمَن) بأقل ثمن إنتاج 3000 (س. ح. ض) وبأقل زمَن إنتاج (15 يومًا).
حتَّى الآن كُنا نناقش التَّعديل في التَّوليفات الإنتاجيَّة داخل الفرُوع المختلفة في قِطاعٍ ما، وليكن القِطاع الصناعي، ويَجب الآن، بقصد المزيد من التَّحْليل، أن ننقل مستوى المُنَاقَشَةِ من الفرُوع إلى القطاعات: ولنفترض وجود ثلاثة مُنتجات زراعيَّة: القمح، والأرز، والذرة. وكل مُنتَج من الثلاثة يتكلف 24000 (س. ح. ض). ولكن، يَجب على مُنتِج القمح أن يَنتظر 480 يومًا. أما مُنتِج الأرز فيتعين عليه الانتظار 240 يومًا. أما مُنتِج الذرة فعليه الانتظار 120 يومًا. طبقًا لقانون القِيمة الاجتماعيَّة النْسبيَّة ستتكون لدينا هنا (قيمة/ زمَن) مختلفة، حيث تتحقق 50 (قيمة/ زمَن) بواسطة (6000 س. ح. ض)، في زمَن إنتاج قَدْره (30 يومًا). وذلك مَعناه أن الاقتصاد، على مستوى القطاعات الإنتاجيَّة، لديه (قيمة/ زمن) في القطاع الصناعيّ يَختلف عن (قيمة/ زمَن) في القطاع الزراعيّ. هذا الاختلاف، الطَّبيعيّ، في الـ (قِيمة/ زمَن) في القطاعات، مَرجعه، بل وينتظم بفعل، حجم الرَّساميل من جهة وزمَن الإنتاج من جهةٍ أخرى. وهذا الاختلاف أيضًا بين الـ (قِيمة/ زمَن) في القطاعات والَّذي يأتي بفعل قانون القِيمة الاجتماعيَّة النْسبيَّة، والمحكوم كما ذكرت، بدرجة الصراع الاجتماعيّ في حَقل التقنيَّة، وليس بسبب مَيْل مُعدَّلات الأرباح إلى التَّساوي، يُعطينا، على الأقل، ثلاث فرضيات، بالأحرى تفسيرات، مَنهجيَّة، حيث يمكن:
- بل يَجب أن يَنعدم التَّساوي بين الأجور في القطاعات.
- كما يمكن، بل يَجب، أن ينعدم التَّساوي بين الأرباح في القطاعات.
- ويمكن أيضًا، بل يَجب، أن يَنعدم التَّساوي بين أثمان وسائل الإنتاج على الصعيد الاجتماعيّ.
دعونا الآن، للمزيد من التَّحليل، ننقل مستوى المناقشة إلى حَقل التجارة الخارجيَّة؛ ولنتَّخذ هذه المرة من سلعةٍ مُتجانسة مِثالًا؛ لنرى، من زاويةٍ أخرى، كيف تتحدّد القِيمة الاجتماعيَّة، عَبْر الزَّمَن، وفقًا للفن الإنتاجيّ السَّائد. ولنفترض أن إنتاج الْجُبْن في فَرنسا وإنجلترا وهُولندا يتكلف 48000 (س. ح. ض). ولكن، لا يُطرح في السُّوق إلا بعد 960 يومًا في فرنسا، و480 يومًا في إنجلترا، و240 يومًا في هولندا. فسنكون هنا أمام (قِيمة/ زمَن)، تحقق كذلك بفعل قانون القِيمة الاجتماعيَّة النْسبيَّة، يتكون من ثمن إنتاج قَدره 12000 (س. ح. ض)، وزمَن إنتاج مُدته 60 يومًا. وبالتَّالي سوف تقوم الرَّساميل بإجراء التَّعديل على توليفاتها الإنتاجيَّة (قِيمة/ زمَن) بقصد بلوغ أقل ثمن إنتاج “12000” في أقل زمَن إنتاج “60” على الصعيد العالميّ.
(4)
ولأن تلك التَّعديلات في التَّوليفات الإنتاجيَّة سواء في قطاع الصناعة أو الزراعة دَاخل الاقْتصَادات الوطنيَّة، أو حتَّى على الصَّعيد العالميّ، لبلوغ أقل (قِيمة/ زمَن) تَعتمد، في المقام الأوَّل، على التطوُّر الحاصل في حَقل التقنيَّة. ولأن القِيمة، كما نَعرف، هي كميَّة عَمل (حَي، ومختَزن، وزائد) مُتجسّد في المنتوج، ومن شأن دخول التقنيَّة، على هذا النحو، التأثير بوجهٍ خاص في كميَّة العَمل الحي كأحد مُكونات القِيمة، وربما تقليص كمَيته داخل القِيمة إلى الصفْر؛ وهذا قد يوهم باضمحلال القِيمة وتلاشيها؛ فيجب أن نُبدد هنا هذا الوَهْم، وَهم لَعْنة الآلة الَّتي قد تقضي على ظاهرة القِيمة فتلغيها تاريخيًّا!
فمن الملَاحظ، وبوضوح، أن العَالم الرَّأسماليّ المعَاصِر في العشرين وربما الثلاثين عامًا الماضيَّة قد شهدَ تطورًا مُتسارعًا في قوى الإنتاج الاجتماعيّ؛ إذ صَار يَسيرًا، بمجرد الضَّغْط على زِرٍّ في لوحة المفاتيح، انتقال، وفي لحظة، مليارات الدولارات من دولةٍ إلى دولة بينهما آلاف الأميال. وربما بلغَ الأمرُ إزالة أمة بأكملها من على ظهر الكوكَب، بمجرَّد الضَّغط على نفس الزِرّ في لوحة مفاتيح!
لقد حقَّق البشرُ أخيرًا، وبفعل الآلة، بعض الانتصار على خصمَين عنيدَين: الزَّمَن والمسافة. ومع نشوة هذا الانتصار راح الذهنٌ البشريّ يؤكد انتصاره بالمزيد من الابتكار والاختراع والتطوير في حقل التقنيَّة. وهو الانتصار الَّذي استصحب الصراع المرير بين الآلة المنتصرة تاريخيًّا بسبب التطوُّر المطرد في حقل التقنيَّة، وبين يد الإنسان الَّتي انفصل بفضلها عن مملكة الحيوان! حتّى باتَ مَألوفًا استبدال عَشرات وربما مئات العُمال بآلةٍ واحدة. آلةٌ واحدة ربما يجري تشغيلها عن بُعد!
هذه الصورة المرسومة أعلاه، وهي بلا شك مُستقاة من الواقع اليوميّ الَّذي نلاحظه جَميعًا، إنما دون تدقيق، دَفعت البعض إلى تَصوُّر ثورة تاريخيَّة جَديدة كالثورة الزراعيَّة والثورة الصناعيَّة! (دون النَّظر إلى هاتين كأحد المفرزات الفكريَّة لذهن الأوروبيّ وتصوره عن تاريخ العالم ابتداءً من تاريخ أوروبا!)، وأصبحت الترهات حَول ثورة مَزعومة، بعد اعتبار تلك الثورة من المسلّمات والتعامل معها، بالتبع، كمُعطى غير قابل للمناقشة، نقطة البدء في سبيل تصوُّر العلاقة الجديدة بين الآلة والعامل؛ فلم تعد العلاقة أساسها “التناقُض”بل أمست قائمة على”الإقصاء”! الإقصاء الدَّائم وصولًا إلى الخاتمة المأساويَّة للعَمل الإنسانيّ بل وللإنسان نفسه؛ حين تُعلن الآلة انتصارها للأبد! تلك النتيجة جَعلت هؤلاء المؤمنين بأوهام الثّورة التَّاريخيَّة الجديدة يحاولون رسم صورة النهاية الكارثيَّة للعَالم المعاصر على طَريقة نبوءات الكتاب المقدَّس!
إن تناول مشكلة الصراع بين الآلة والإنسان، المفضي إلى نهاية القيمة، وتحليل مَصير الإنسانيَّة بأَسْرها من خِلال الترويج لثورةٍ جديدة، ثورة قادمة من الغرب، لا يبرزان إلا كمظهرَين لأزمة وَعي. تتبدَّى تلك الأزمة على صعيد الهيكل والأداء معًا: فمنذ أن هبطَ الإنْسَانُ من فَوق الأشجار وهو لا يكف عن الخَلق؛ فقد توصل، وببراعة، عَبْر حَركة التَّاريخ الملحميَّة إلى جميع التقنيات الَّتي سَاعدته في إخضاع الطَّبِيعَة لسطوتهِ، وتمكَّن بفضل مُواصلة ابتكَاراته من تَعويض ضَعفه؛ ففَاق الضَّوَارِي قوةً وسرعة بل وشراسةً وفتكًا، وتَحدَّى الطَّبيعة بكبرٍ ومَنَعَة، وتَجاوز وَهْنَه؛ فحلَّقَ أعلى من الجَوَارِح بلا وَجل، وغاصَ في ظلمات البحار دون خَشْيَة، وعلى الماءِ سارَ حاملًا أثقالَه إلى أبعد الحدود. والإنْسانُ، على هذا النَّحو، ومنذ البدايات الأولى، لم يتوقف يومًا عن الاكتشَاف والابتكَار والتَطْوِير. ولم يكف لحظة عن السعي، بفطرته، من أجل الكَشف عن الوَسَائِل الَّتي تجعله أغزر إنتاجًا وأكثر رفاهية، مع العَمل الدَؤُوب من أجل تطوير تلك الوَسَائِل. لا جديد إذًا، على صعيد الهَيكل، يمكن قوله. ربما تغير الشكل، شكل الأداة، شكل الآلة، شكل المجتمع، شكل التَّنظيم السِّياسيّ. ولكن يَظل الجَوْهَرُ واحدًا لا يتغيَّر ولا يَتبدَّل أو يَتحوَّل. التطوُّر شكليّ لا موضوعيّ. هذا الـ “شكلي” هو الَّذي ضلَّل هؤلاء المؤمنين بالثورة الجديدة؛ فتوهموا التغيُّر في الـ “موضوع”! فلعل الاتِّصَال المَيْسُور بين أشخاص يبعدون عن بعضهم بعد المشارق عن المغارب، والانتقال اليَسير من شمال الكوكب إلى جنوبه. وقيام أدق الآلات بصنع أعقد عمليات الإنتاج وأشد وسائل التدمير جعل هؤلاء المؤمنين بالثورة الجديدة، ولست منهم، يزعمون الانتصار لما به يؤمنون! ولكن، الحقيقة التَّاريخيَّة تؤكد إن العالم عَبْر حَركة التَّاريخ البطيئة والعظيمة، ومع تحرُّك مراكز الثقل الحضاريَّة من الشرق إلى الغرب، ثمَّ من الغرب إلى الشرق، ومن الشرق مرة أخرى إلى الغرب، عَرف دائمًا، كما يَعرف الآن، نفس أشكال التطوُّر، ونفس المستوى من الإدهاش وذات الدرجة من الإبهار، والاختلاف لم يكن إلا في هذا الـ “شكل”؛ فكما سَحرت الهواتف المحمولة والحواسب الآليَّة والمركبات الفارهة ذات التقنيَّة المتطورة أعين النَّاس، بل واسترقت أرواحهم، في عالمنا المعاصِر. قامت، في القرن العاشر الميلادي في بغداد وقرطبة والقيروان، الآلات الميكانيكية والصمامات والزيوت العطريَّة المضاف إليها هيدروكسيد الصوديوم وكؤوس الكريستال ونسج الأسلاك المعدنيَّة الصلبة، والعدسات، والكاميرات، وأدوات الجراحة (150 أداة تقريبًا، ولم تزل تستعمل حتَّى اليوم) والخيوط المستخدمة في العمليات الجراحيَّة والَّتي تذوب في الجسم بعد إجراء العمليَّة، والترمومتر والحاسبات التناظريَّة والاسطرلاب، وأجهزة التقطير والفلترة والتبخير والتطهير والأكسدة، والمواد العازلة والأقواس الهندسيَّة ونُظم الترقيم الرياضيَّة، قامت جميع هذه الأشياء، وهي على سبيل المثال بكل تأكيد، بأداء نفس الدّور السَّاحر. وكما شاعت المصانع في أوروبا في القرن التَّاسع عشر، انتشرت، في بغداد ونيسابور وإشبيلية وتنيس، المصانع والمعامل الَّتي تستخدم مئات، وربما آلاف العُمال، وتُنتج من أجل السُّوق، بل والسُّوق الدوليَّة، بقصد الربح.
وكما نبغ عُلماء أوروبا والولايات المتحدة في عالمنا المعاصِر، نبغ، وعلى سبيل المثال أيضًا: الكندي وابن باجة وابن البيطار، والإدريسي والبيروني وابن سينا والخوارزمي والزهاوي، والمجريطي والجزري وابن حيان وابن الهيثم والدينوري.
أن الترويج لثورةٍ جديدة، ثَورة قادمة من عند الغربيّ الَّذي يَزعُم أنه الأرقى، لا يمكن أن ينجح إلا ابتداءً من تشويش الوَعْي ومحو ذاكرة الإنسانيَّة!
وإذا كان الأمر على مستوى الهَيكل يقوم على مَحو ذاكرة الإنسانيَّة، فهو على مستوى التَّحليل الأدائي يعتمد على مَنع تكوين ذاكرة بالأساس! هذا المنع يقتضي تعطيل الفهم وطمس الوَعْي النَّاقد إلى درجة خلق الوَعْي الزَّائف المنكِّر لظاهرة القِيمة والمتوهم اضْمحلالها حتى تلاشيها تاريخيًّا؛ كنتيجة نهائيَّة لانتصار الآلة! فهل يمكن فعلًا، على المستوى الأدائي، القول بإمكانيَّة اضمحلال القِيمة وتلاشيها؟ إن الإجابة عن هذا السُّؤال، على يسره ووضوحه، وما يتعلَّق به من أسئلة نَّاقدة، ليست ما يَجب أن نَنَشغل به؛ بل يتعيَّن أن نَنَشغل بالطَّريق الَّذي يسلكه الذهن في سبيله لتقديم تلك الإجابة؛ ففي هذا الطَّريق تتبدَّى كل عَثرات الذِّهْن الاقتصاديّ، المعاصِر، الَّذي تَربَّي على الرُّؤَى الميكانيِكية والمناهج الخطيَّة، أو الَّذي نَشأ على كراسات التَّعميم وتَشرَّب بمبادئ الموجَزاتِ الأوَّليَّة. ولذا، افترض أن الطَّريق الَّذي يسلكه الذِّهْنُ في سبيله لتقديم الإجابة عن السُّؤال المذكور أعلاه يتحدَّد بالوَعْي النَّاقد بالأفكار الآتيَّة:
1- تتكون القِيمة الاجتماعيَّة، في أبسط صورها، من العَمل الحي والعَمل المختَزن والعَمل الزَّائد، ودخول الآلة نتيجة التطوُّر في التقنيَّة والَّذي يقلص العَمل الحي، والعَمل الزَّائد بالتبعيَّة، في فرع ما، إلى الصفر، لا يعني أبدًا تلاشي القِيمة تاريخيًّا؛ فالآلةٌ نفسها هي كميَّة من العَمل الإنسانيّ المتجسّد في المنتوج.
2- ولو افترضنا، وفق السَّائد، إن آلة مُعيَّنة تمَّ ابتكارها؛ تسببَت في الاستغناء عن عَمل عدد ما من العُمال في قطاع ما. فالسُّؤال: ألم تَحتاج هذه الآلة الجديدة والمبتكرة والَّتي حلَّت مَحل العُمال المسرَّحين إلى جَهْد عُمال آخرين في قطاعاتٍ أخرى لإنتاجها، ابتداءً من الذهنِ المبتَكر وانتهاءً بالأيادي الَّتي عَدَّنت، وشكَّلت وصنَّعت،… إلخ، مُرورًا بتحريك موسَّع للأنشِطة الاقتصادية المساعدة والمصَاحبة، من تَشييد وتَوريد ونقل وتأمين وأعمال مَصرَفيَّة… إلخ؟ فالتطوُّر في التقنيَّة إذًا، والَّذي يؤدّي إلى إحلال الآلة محل العَمل في فرع أو قطاع ما، يَستصحب إجراء التَّعديل في هيكل التَّوظيف عُمقًا ومدى. وبالتَّالي؛ لا يؤدّي استخدام الآلة فحسب وعلى طول الخطّ إلى استبعاد العَامل في الفرع أو القطاع؛ إنما يؤدّي من جهةٍ أخرى، وفي الوقْت نفسه، إلى نشؤ حقول إنتاجيَّة أخرى تَحتاج إلى قوة عَمل مُختلفة كيفيًّا ونوعيًّا. فالآلة، بالتالي، الَّتي تُصيب العامل بالبطالة في فرع تقوم بإنشاء العديد من الوظائف في فرع آخر، ما لم تَستحدث، بقدر حُرية النشاط الاقْتصَاديّ، فروعًا إنتاجيَّة جديدة.
3- وإذا بالغنا في التخيُّل؛ وافترضنا أنَّ الآلات وعلى أوسع نطاق وفي جميع حقول النشاط الاقتصاديّ صَارت تَصنع نفسها بنفسها؛ كيلا يصبح للإنسان أي دور في عملية الإنتاج؛ فسوفَ تُصحح الرأسمالية نفسها مَسارها وتتخلى عن الآلة، بشكل مُباشر، أو غير مُباشر، طَوْعًا أَوْ كَرهًا، فهي لن، ولم، تَسمح تاريخيًّا أبدًا بالإفقار المفضي إلى هلاكها. ولن، ولم، تسمح بفناء القِيم التبادُليَّة المؤدّي إلى توقفها عن الحركة. فحينما يكف الاقتصاد الرَّأسماليّ عن السير تبادر الرَّأسماليَّة (الَّتي هي خضوع الإنتاج والتَّوزيع في المجتمع لقوانين حَركة الرَّأسمال)14 إلى تَحريكه ولو بالتضحية، مُؤقتًا، ببعض نجاحاتها. فهب أن مجتمعًا زراعيَّا مُكوَّن من 1000 شخص، 990 منهم أجراء لدى 10 مُلَّاك. ثم قرَّر هؤلاء الملَّاك العشرة، انصياعًا للتطوُّر في حَقل التقنيَّة، استبدال الأجراء بآلات! فبعد فترة، لن تطول، سيجدوا أن تلك الآلات أدَّت إلى إفلاسهم، وربما تحويلهم إلى أجراء محتملين؛ فمنتوجاتهم لا تجد مَن يشتريها! حيث لا قِيم تبادُليَّة لدى الأجراء. وحينئذ لن تتوقف الرأسماليَّة مَوقف المتفرج على نهايتها؛ بل ستتدخل، وفق قوانين حَركتها، لتصحيح المسار؛ ولو بلفظ الآلة نفسها، الَّتي لن تَجد هي الأخرى مَن يَشتريها؛ بعد أن صارت بلا فعاليَّة في تحقيق الأرباح!
4- أن التطوُّر في التقنيَّة لا يَرتبط بدرجة تطوُّر المجتمع، كما هو شائع في خِطاب المؤسَّسة التعليميَّة الرَّسميَّة، إنما يتحدَّد بمستويات الصِّرَاع بين القوى الاجتماعيَّة المختلفة من أجل فرض الهيمنة على الجديد في حقل قوى الإنتاج الاجتماعيّ.
5- هذا الصِّرَاع من أجل الحصول على الجديد في حَقل التقنيَّة؛ يؤدّي إلى تَخفيض القِيمة الاجتماعيَّة للسلعة إلى أقل (قِيمة/ زمَن) وحينئذ تقوم القيمة المنخَفِضة للسلعة المعنيَّة بتَخفيض قِيم المنتجات الَّتي تُسهم في تكوين منتوجها النَّاجز. والأمرٌ نفْسه بالنْسبة لقِيمة قوة العَمل؛ فلكي تَنخفض قِيمة قوة العَمل يَجب أن يَشمل ارتفاع الإنتاجيَّة فروع الصناعة الأخرى الَّتي تُحدّد مُنتجاتها قِيمة قوة العَمل.15
6- التناقض بين الارتفاع في المستوى العام للإثمان على الصَّعيد الاجتماعيّ واتجاه القِيمة للانخفاض في المدى الطَّويل، هو ما يُفسر الركود التضخُّميّ الَّذي يَجتاح الاقتصاد الرَّأسماليّ المعاصر. فحينما تنخفض القِيمة، والقِيمة الزَّائدة بوجهٍ خاص، وفقًا لدرجة الصراع الاجتماعي في حَقل التقنيَّة، يقوم الرَّأسماليون برفع أثمان مُنتجاتهم لتعويض التَقَلُّص المستمر في أرباحهم، في الوَقْت نفسه تُلقي الرَّأسماليَّة، الَّتي لم تعد تعمل بشكل طبيعي، بالمزيد من الضحايا خارج سوق العَمل؛ والنتيجة: ازدياد مُطَّرِد في النقود، وارتفاع في الأثمان لامتصاص المعروض من وحدات النقد، وبطالة مُتزايدة وأسواق بَائِرَة، وسلع مُكدَّسة. ثم تتدخل الرَّأسماليَّة كعادتها لعلاج أزمتها، إنما بقدر ما تتمتع به قوانين حَركتها من حُرية من قِبل النِّظَام السِّياسيّ.
______________________
الهوامش، والإحالات
_____________________
(1) وهي الطَّبْعة الَّتي تشكَّلت معها المعالم الأساسيَّة لنقدي عِلم الاقْتصَاد السّياسيّ؛ فقد كانت تلك الطَّبْعة بمثابة الصياغة المنقَّحة لمجمل أفكاري الَّتي أخذت في التطوُّر عَبْر الطَّبعات السَّابقة، بما تضمنته هذه الطَّبعات نفسها من إضافاتٍ وتعديلاتٍ وتصويبات، فقد كنتُ مع كل طبْعة تَصدر أول ناقدٍ لأفكارها بل ولمنهج الطرح داخلها؛ فلم يكن هدفي، مُتحررًا من أوهامِ المؤلّفين عَازفًا عن ترَّهَات الكُتَّاب، إلا محاولة بلوغ ضِفاف الحقيقة العِلميَّة دون ادعاء ملكيتي لناصيتها. انظر: محمد عادل زكي، نقد الاقتصاد السياسي (تونس: دار المقدمة، 2021)، بصفةٍ خاصّة: مُقدمة الطَّبعة الثَّامنة، ص13-17، وكذلك: الفصل السَّادس: في القِيمة. والكتاب متاح على الإنترنت بصيغة Pdf
(2) انظر: سميث، ثروة الأمم، الكتاب الأول، الفصل السَّادس. ريكاردو، مبادىء الاقتصاد السياسي، الفصل السَّادس، القسم الأول. ماركس، رأس المال، الكتاب الأول، الفصل الأول.
(3) للتفصيل، انظر: نقد الاقتصاد السياسي، الباب الثَّاني.
(4) انظر: رسائل ريكاردو إلى رامساي، تحرير هولاندر، نيويورك، 1895.
(5) تجاوزًا، ومؤقتًا، سوف نبقي هنا على خطأ الاقتصاد السِّياسيّ في قياس القِيمة.
(6) زمَن الإنتاج، هو: مجمل الفترة الزَّمنيَّة اللازمة لإنجاز منتوج مُعيَّن، وهو ما يَعني إمكانيَّة بقاء الرَّأسمال مُقيدًّا في حقل الإنتاج دون استخدامٍ فعلي، أي يَظل هاجعًا دون عَمل. وبالتَّالي، فإن ثمن المنتوج، عند ماركس، سوف يَرتفع بوجهٍ عام؛ لأنه يرى أن انتقال القِيمة إلى المنتوج لا يُحتسب طبقًا للزَّمن الَّذي يؤدّي الرأسمال الأساسيّ خِلاله وظائفه بل وفقًا للزمَن الَّذي يَفقد خِلاله قِيمته!
(7) يوم العَمل، هو: المدة الَّتي يتعين على العامل خِلالها أن يُنفق قوة عَمله يَوميًّا.
(8) فترة العَمل، هي: عَدد مُعين من أيام العَمل المتصلة اللازمة لإخراج المنتوج.
(9) زَمن العَمل، هو: الوقت الَّذي يُستخدم الرَّأسمال فيه فِعليًّا على نحوٍ مُنتج.
(10) أي: مجموع القِيم الزَّائدة في الفرع ÷ مجموع الرَّساميل النشطة في نفس الفرع.
(11) رأس المال، الكتاب الأول، الفصل السَّابع.
(12) رأس المال، الكتاب الثالث، الفصل التاسع.
(13) بحاصل قسمة القِيمة على الزمَن في كل فرع؛ ونسبة منتوجات القسمة في كل فرع إلى بعضها.
(14) في نقدي المفهوم الشَّائع للرأسماليَّة وشرحي قوانين حركتها، انظر: نقد الاقتصاد السياسي، الباب الأول، الفصل السَّابع، والباب الثالث، الفصل الخامس.
(15) ولذلك، فإن ارتفاع الإنتاجيَّة في فروع الإنتاج الَّتي لا تُقدّم لا وسائل المعيشة الضَّروريَّة لقوة العَمل، ولا وَسائل الإنتاج اللازمة لصنعِها؛ يُبقي قِيمة قوة العَمل نفسها دون أي تغيُّر. انظر: رأس المال، الكتاب الأول، الفصل العاشر.