عبر أنطولوجيا هايدغر علمتني الفلسفة التعقل في مواجهة الموت
بشكلٍ عام، للفلسفة الوجوديّة إسهاماتٌ بالغةُ الأهميّة والتأثير على مهمةِ فهمِ الوضع الإنساني وتحسينه؛ إذ لم تكن مجرد تيَّار فلسفيّ رفَض بمشاريعه المختلفة مبدأ استباق الماهيّة للوجود فحسب، وإنّما أعلن أنَّ الوجود متقدِّم على الماهية، وحاول على الدّوام وضع الإنسان في مواجهة مع ذاته وفقاً لمقولاتٍ جديدةٍ مختلفة وناقدة لتلك المقولات العقلانية التي قدَّمها العقلانيِّون أمثال ديكارت مثل: «أنا أفكِّر إذاً أنا موجود»، أي أنَّ العقل هو الشرط الذي يعرف الوجود ويحقّقه، فنجد في المقابل رأياً نقديّاً مغايراً لسورين كيركيغارد مفاده أنَّ الوجود الإنسانيّ يتحقِّق كتجربة تلقائيّة وليس كتفكيرٍ منظَّمٍ مصدرُه العقل.
إنَّها أسلوب تفلسف يبدأ من الإنسان أولاً لا الطبيعة، ويدور حول الذّات لا الموضوع وعلى وجه أكثر دقة؛ الذّات الفاعلة التي تفعل تجربة الوجود، أي أنَّه أسلوب يعلي من شأن الحقيقة الذّاتيّة لا الموضوعيّة القائلة إنَّ ما هو يقينيٌّ على نحوٍ مطلق هو وجودٌ ذاتيُّ الفرديَّة والآيل إلى العدم. بل هي فلسفة أيضاً في إطار عنايتها بقضيّة الوجود الإنسانيّ، كشفت عن مدى هشاشتِه وعدم ثباته وعرضيته وما ينبغي أن يفعله المرء حيال هذا.
وبالنسبة إليّ، كان هذا أحد أعظم المنجزات التي قدَّمَتها للإنسان الكائن القلق تحديداً من داخل أعمال مارتن هايدغر، بجانب تأسيسها لمنظور مختلف لمفهوم القلق الوجودي باعث على الراحة ومحفِّز للعيش بأصالة.
وهذا ما بصدده مقالتي؛ مناقشة نظرة هايدغر للموت والقلق الوجوديّ المرتبطة بدراسته لقضية الوجود. وتزامنت كتابة هذا المقال مع رحيل “علي” أخي العزيز وموته قبل أيام، أستمد العزاء مما أهوى ويجعل وجودي ذا قيمة وأصيل ويعلِّمني كيف أتعاطى مع ما تضمر الحياة من ظواهر. وأنا على دوام في عملية تهذيبٍ لفكري وسلوكي ووجداني وهي الفلسفة.
فمع جاك دريدا في أطروحته -غير مترجمة للعربية- “سفر الحزن “؛ يذكِّرني بأن هذا الفقد هو الحتم والسّلوى لما عشناه معاً من لحظات مع من فقدنا، والأهم بعد وقوعِ حادثة الفقد أو رحيل الصديق هو أنَّنا جميعنا ناجٍ مُتخيَّل؛ لأننا بدورنا راحلون ولم ننجُ من هذا الحتم وفي رثائنا لمن استبقنا نحن نرثي نفوسنا أيضاً؛ أو بحسب ما قال: «تُبنى كلّ صداقة على ثالوثٍ مقدّسٍ: الموت والخسارة والحَداد».
جعلتني هذه الحادقة أيضاً ألملمُ وأشارك من أعمال هايدغر ماهو بدوره عزاء، ولكن لا أظنه يمثل عزاءً للجميع، بل فقط لمن تشكِّل الفلسفةُ أحدَ مصادر تفكيره، أو يوليها قيمة وقدراً من الاحترام وربما هؤلاء هم قلَّة.
والموت إنْ كانت فكرته والحديث عنها ممقوتة وغير مريحة ومحطَّ تجنُّب على الدوام من قبل أغلب الناس، ومسألة تبث الرُّعب في قلوبهم، إلا أنه واقعة تقبع في قلب الوضع الإنسانيّ الذي عنت به الفلسفات الوجوديّة عنايةً فائقةً.
وللفيلسوف مارتن هايدغر إسهاماتٌ غزيرةٌ وبالغةٌ التأثير على الفكر الفلسفيّ من بعده عبر الكيفيّة التي تعامل بها مع مشكلات الأنطولوجيا ومسائلها، وهي فلسفة من وجهة نظر نقدية لكثيرٍ من المشتغلين في الحقل الفلسفي قد نجحت في تغيير النظرة السائدة للذّات وللحضور والوعي عبر فتحها لآفاقٍ جديدة لتفسير الكينونة الإنسانيّة؛ فبإفتتاحيّة الأطروحة المهمة والرئيسة في الأنطولوجيا “الوجود والزمان “، التي تنصُّ على “إنَّ مسألة الوجود الإنسانيّ قد أصبحت اليوم في طيِّ النِّسيان”؛ قد أحيا هايدغر تساؤلاً ملحّاً وضروريّاً يخصُّ الإنسان ويتحاشاه؛ وهو التساؤل عن معنى الوجود، فتناسيه عبر التركيز على مشكلات أخرى أمرُ مواجهتها يعني تحسين الوضع الإنسانيّ بحسب ما هو سائد ومزعوم ليس في حقيقة الأمر عمل على تحسين هذا الوضع بل تعميق لأحد أكبر وأهم أزماته فالتّغاضي لا يلغي حضور الأزمة.
ولهايدغر لغة فلسفيّة محكمةُ التّعقيد، حاولتُ بقدر ما أمكن في عرضي لتصوره لمسائل الوجود؛ الموت والقلق الوجودي جعلها بسيطة ومفهومة للقارئ. وله أيضاً أنطولوجيا واسعة لا يكفي مقالي الموجز والقصير هذا لتغطيتها، ولكنَّه تسليطٌ للضوء على القليل منها.
أوّلاً: هايدغر وصيرورة الكينونة نحو الموت
إنَّ تفلسف هايدغر حول الموت مقترن مع تفلسفه حول الوجود، فلا بدَّ من التوقُّف عند الثاني ومنه جليّاً سيتضح الموقف من الأول. ومفهوم الوجود هو مفهوم شديد العمومية كما أوضح هايدغر بنفسه، وأنّ عمليّة الكشف عن معناه هو المهمّة الأولى للفيلسوف الوجوديّ؛ ففكرة أنَّ الوجود واضح ومتجلِّي بذاته غير كافية لفهم معناه على وجهٍ دقيق، وبحسب هايدغر صفة الوجود تُعزَى إلى كل ما هو موجود، ولكن للموجودات معانٍ مختلفة ومتعدِّدة وهذا يقودنا للتساؤل: أي واحد من هذه المعاني المختلفة يعين معنى الوجود ويحدِّده؟
يجيب هايدغر بأنَّ نمطاً واحداً من أنماط الوجود هو الذي يتعيَّن عليه تحديد معناه، وهذا النمط هو وجودٌ نمثِّله نحن بأنفسنا أطلق عليه “الوجود الإنساني” أو الدازاين -المصطلح الألماني غير المترجم بفلسفته هذا ولكن مفسَّر-.
ولأنَّ الوجود الإنساني يمتلك جوهراً واعياً بذاته، كان الأكثر استحقاقًا والأجدر بأن يتعيَّن عليه إيجاد إجابة عن سؤال معنى الوجود، ويتسِّم هذا الوجود الإنسانيّ في نظر هايدغر بسمات محدَّدة، مثل كونه في المقام الأول وجود يخصُّ “الأنا” على نحو فريد، وأيضاً وجود في العالم عبر أنماط مختلفة كالفعل والتفكير والتأمُّل وإقامة الروابط والمعرفة بوصفها علاقة بين وجودين هما الذات والموضوع.
والحياة والموت معاً يشكِّلان صميم الوجود الواعي للإنسان؛ اذ يرى هايدغر أنَّ مع الموت يقف الوجودُ الإنسانيُّ أمام ذاته في إمكانيّته، أي إنَّ وجودي هو توجُّه نحو الموت بوصفه تعبيرًا عن الإمكانيّة القصوى للإنسان؛ فالموت عن هايدغر حدث ذاتيّ أصيل تتحقَّق فيه إمكاني الاستحالة، بمعنى أن يواجه الانسان في هذه الحالة نظير وجوده، فوجوده الذي يمثِّل دائرة متسِّعة من الأمور التي تخضع لحريته هو الإمكانية، باستثناء الموت الذي يعتبر ما فوق الإمكانيّة أو الاستحالة ووقوعه هو تحقُّق لإمكانيّة الاستحالة.
وبالنسبة إلى هايدغر، فاللموت جوهرٌ يُقحِم الإنسان على الدوام في حالة أطلق عليها “الاستباق إلى الإمكانيّة”، والإمكانيّة هنا تعني إمكان تحقُّق كلّ وجود أو استحالته؛ فوجودنا عند هايدغر هو توجّه مستمرّ نحو ممكانتنا، ولا بدَّ أن تحين لحظة يجد فيها الإنسان نفسه بصدد مواجهة استحالة كل إمكانيّة لوجوده أو كينونته وهي الموت. والاستباق إلى الإمكانيّة أيضاً هي حالة يكتنفها اليقين إزاء اللا معلوم أي الانتظار والترقب بقلق لحقيقة ستقع حتماً ولكن في وقت غير معلوم. أي إنَّ التمايز الأساسيّ بين الوجود والموت عند هايدغر، أنَّ الأوّل هو مواجهة الممكن على نحو مستمر ويسير باتجاه الثاني الذي هو تحقُّق ما فوق إمكانية الكينونة.
والموت في منظور هايدغر تجربة فريدة وذاتيَّة لأنَّها تخص المرء وحده، ولا يمكن أن ينوب أحد مكان موت أحد أو يحرِّره منه، كما أنَّه ليس شرطاً لاكتمال الوجود الإنساني؛ فالكثير من الناس يموتون قبل أن يبدؤوا هذه التجربة التلقائية، وآخرون يخوضونها لوقتٍ طويل، غير أنه نمط للوجود نفسه وبحد تعبير هايدغر، نمط يكون فيه الوجود الإنسانيّ نحو موته.
وكما ذكرتُ آنفاً، فلغةُ هايدغر الفلسفيّة محكمة التعقيد، مما دفع بعض النقاد لأنَّ يصوروا هايدغر على أنَّه بمفهومه للدازاين هو منكرٌ لواقعية العالم الخارجيّ، ولكن بعض الباحثين في الحقل الفلسفيّ الذين عرضوا فلسفته وعملوا على نقلها للقراء بطريقةٍ أوضح أمثال جاك شورون لا يوافقونهم الرأي؛ فيرون أن هايدغر لا ينكر بمفهومه للدازاين واقعيّة العالم الخارجيّ، وفي نفس الوقت لا يريد القول بأنٌَ الوجود نتاجُ الإنسان، بل يرى أنَّ وجود العالم والإنسان يحتاج أحدهما إلى آخر، فكما أنَّ الإنسان مرتبط ارتباطًا وثيقاً بكينونة العالم المتجِّهة نحو الفناء فهو أيضًا ممثِّل للعدم والوجود والعدم ينتمي أحدهما للآخر .
ثانياً: القلق الوجودي يدعو الإنسان لأنْ يحيا وجوداً أصيلاً
بالنسبة لهايدغر، يعبِّر الوجود الإنسانيّ عن إندفاعه نحو الموت بظاهرة القلق؛ فالإنسان يراوغ الموت إما باللا مبالاة تجاهه أو استهلاك فكرته سريعاً كواقعة يوميّة وحدث حتمي لا يتطلّب التوقف عنده والانشغال بالتّفكير فيه، ومثل عدم الاكتراث هذا عند النظر إلى الموت يجعل الوجود الإنسانيَّ في حالةٍ من الاغتراب. والنأي عن إمكانيّة تحقُّق الوجود الأصيل يزجُّ به في الوجود الزائف الذي يعد وجوداً ثانويّاً مستهلكاً وسطحيّاً قوامه انشغلات يومية جلَّها الفضول والثرثرة والتشتُّت بين الآخرين، فهو إذ يبعد المرء عن إمكانيّة تحقِّق الوجود الأصيل يجلب له أيضاً سكينة. أما الوجود الأصيل فيُحدثه القلق الوجوديُّ الصّادر عن العدم المحيط بالوجود، والقلق هذا بالنسبة لهايدغر وكيركيغارد هو ” الأسمى “. إلًا أن هذا القلق غير الخوف فهو ليس المرادف له في المعنى كما هو سائد، لأن هايدغر يميُّز بينهما؛ فالخوف عنده متعلُّق بالموجودات في العالم بخلاف القلق الذي موضوعه هو الوجود في العالم نفسه بوصفه وجوداً نحو الموت. والقلق الوجوديّ في طبيعته يدور حول استباقية الموت، وفي ذات الوقت يدعو المرء لأن يحيا على نحو أصيل. فإدراك حقيقة التناهي الجوهري للوجود تستحثه لأن يكفَّ عن هدر وجوده وعن استغلاله على نحو سطحي وزائف ومنغمس في الآخرين، والترفُّع عن هذا الزيف يأتي عن طريق إدراك الذّات وتحقيق ما تضمره من مكنوناتٍ بداخلها وعياً منها بهشاشة وعرضية الوجود والذي يجسِّد في نظر هايدغر مطية الوجود الأصيل.
من ثَمّ، فإنّ القلق الوجودي هو همسٌ واضحِ النَّبرة على الأذن يذكِّرنا على الدوام بالعدم الكامن وراء وجودنا، وما يوِّلد هذا الإحساس فينا ليس نسفَ معتقدات الناس وعلاقاتهم المختلفة باليقين كما هو شائع، بل واقعة وجودنا في العالم وهي واقعة صارمة فيما تقدَّم من حقائق، مثل أنَّ حالة الوجود مؤقتة وعرضية وتتجه نحو الفناء، والقلق هو أسلوب يذكر الإنسان بهذه الحقيقة.
يمضي هايدغر أبعد فيؤكِّد أن القلق من الموت هو ما يشعرني بأعلى درجات فرديَّتي التي ينبغي أن توجَد على نحو أصيل، بصدده يقول:
«إن كان على الانسان أن ينتقلَ من الخسران إلى الأصالة، فإنّه لن يستطيع أن يكون هكذا إلَّا في عزلةٍ عن الحشد أو الناس الذين يغتصبونه ويشتتونه، والموت وحده أو العلاقة بالموت هي التي تحقِّق مثل هذه العزلة لأن موتي هو الحادثة الوحيدة في حياتي التي هي خاصّة بي بشكل فريد ومطلق».
ومن هنا يتبيّن مقصد هايدغر بأنَّ الوجود الأصيل هو الوجود الحقيقيّ الذي يحقِّقه شرط الحركة نحو الموت؛ فإدراكه يسحبنا من الازدحام والتشتُّت في الموجودات والتدثّر بهم هرباً من القلق الوجودي ليعيدنا إلى العزلة وتحقيق كينونتنا ويوقظنا من سبات يهدر فيه المرء أيامه سدًى وبدون خشية من فكرة استحالة ديمومتها.
في منظوري لقد تفهَّم هايدغر الموت على نحو جعله أقلَّ غموضاً، وجعل من شعور القلق الوجوديّ محفِّزاً لصياغة تجربة وجوديَّة أصيلة بدلاً من كونه عاملاً يمنع المرء من الحياة ويقضُّ مضجعه، وأيضاً باعثاً على الشعور بالراحة.
ومن هنا كانت إنطولوجيا هايدغر في فهم الوجود حدثاً شخصيّاً علّمني التعقُّل في مواجهة الموت، وتضاءلت فكرة خشيته لدي أيضاً؛ فقد حرَّرني من سطوة القلق الوجودي الذي كان يستهلك ذهني ووقتاً ثميناً من أيامي، فأصبح أقلَّ كارثيّة وهي تذكير قوي لي على الدَّوام بألَّا أحيا وجوداً زائفاً.
إعداد: يسرا أحمد عثمان
تدقيق لغوي: أفين المحمد