تطوّر النظرية النقدية: لماذا نزع هابرماس صورة ماركس عن جدارها؟

كانت الماركسية بمثابة صرخة بوجه النظام الرأسمالي الاستغلالي الذي توطّد بالقرن التاسع عشر في أوروبا مع تنامي الثورة الصناعية، وعمل كارل ماركس على التنظير لإقامة مجتمع إنساني حرّ وغير مغترب، تتحقّق فيه الذات الإنسانية الفاعلة والواعية من خلال تجاوز الرأسمالية ومحدّداتها الاقتصادية.

ومع قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا عام 1917؛ بدا وكأنّ العالم الإنساني يقترب من الحلم الماركسي السعيد. لكن مع أواخر القرن الماضي؛ استيقظ أصحاب هذا الحلم اليساري على الواقع الرأسمالي المرير الذي فرض نفسه بسقوط الاتحاد السوفيتي وهم يسترجعون الحلم متساءلين: لِمَ لم تحدث هذه الثورة الاشتراكية في الغرب الرأسمالي كما أدعى ماركس؟

في تقديري، كي نجيب على هذا التساؤل؛ لابد وأن نرجع إلى تطوّر النظرية النقدية، أو مدرسة فرانكفورت – كما يحلو للبعض أن يسميها -؛ لأنها هي التي جاوبت في محطة من محطات تطوّرها النظري عن هذا التساؤل. بدأت بذور النظرية النقدية في معهد البحث الاجتماعي الذي تأسس عام 1923 بخلفية ماركسية مع رئاسة كارل غرونبرغ الذي أعلن في محاضرته الافتتاحية عام 1924 أن مهمة المعهد متعلقة بتفحص “كل تعبير من تعابير حياة المجتمع بوصفه انعكاسا لشكل الحياة الاقتصادية السائد” وهو الفهم الأرثوذكسي للماركسية الذي وجد في عوامل الإنتاج مصدرًا للكينونة الاجتماعية، والذي رافق فترة الأمل الذي لا هوادة فيه بإمكانية التحوّل للشيوعية أيضًا.

لكن مع رئاسة هوركهايمر للمعهد عام 1930، بدأ النقد الداخلي لهذا الفهم الماركسي التقليدي الذي يختزل التفاعلات الاجتماعية في التغييرات الاقتصادية، وبدأ الإرساء لفهم أكثر جدلية للتراث الماركسي يحاول أن ينظر للتأثير المتبادل بين البناء الفوقي المتعلّق بالثقافة بكل مكوّناتها والبناء التحتي المتعلق بالاقتصاد، وذلك “كي لا نفهم ماركس فهما مجردًا ورديئًا” كما يقول هوركهايمر الذي اعتقد أن الماركسية لديها ما يمكن أن تقوله أيضًا عن البناء الفوقي بعيدًا عن الاختزالات، أي أن الفن، والرياضة، والإعلام وأسلوب الحياة اليومية لم تعد – وفقا للفهم الجديد للمعهد – مجرد ملحقات بعلاقات الإنتاج، بل منتجات مهمة في ذاتها لفهم المجتمعات الحديثة والتحولات الثورية وانتقال المجتمعات، وهذا بالتوازي مع تفاعلها مع علاقات الإنتاج في المجتمع. وجاء هذا التطوير النظري مع استمرار انتعاش الأمل صوب قدوم المجتمع الاشتراكي المنشود.

لكن سرعان ما انتفى ذلك الأمل لدى رواد النظرية النقدية وبزغ خطّ تشاؤمي تحت وطأة التطوّرات السريعة التي شهدتها المجتمعات الحديثة في تلك الفترة، فقد انحرفت التجربة السوفيتية الاشتراكية للسلطوية وسحقت روح العامل وأفقدت الحقبة الستالينية الغاشمة الثقة في جوهر الأفكار الاشتراكية، وعلى الوجه الأوروبي المقابل، انزلقت بعض المجتمعات الأوروبية للشمولية والفاشية، وارتكبت العديد من الجرائم ضدّ الإنسان كما حدث في إيطاليا وألمانيا، ناهيك عن الاستغلال الاجتماعي الذي يشكل خلفية المجتمعات الرأسمالية الحرّة التي لم تسقط في براثن السلطوية لكن كان لها نصيبها من البراثن، فقد تم فيها دمج الطبقة العمالية في المنظومة الاستهلاكية من خلال الوفرة السلعية ومؤسسات الدعاية الإعلامية التي تعمل على إعادة إنتاج ايدولوجية الطبقات البرجوازية في المجتمع؛ مما يخلق ثقافة صناعية، غير حرة، ولا نقدية، ولا ثورية، وتكرس وعيًا زائفًا.

إعلان

وإذا كان ماركس قد قال أنّ الأزمات المتكرّرة للرأسمالية ستؤدّي حتمًا إلى زوالها، الفكرة التي عبر عنها في مقولته الشهيرة: “الرأسمالية تحفر قبرها بيدها”، فقد باتت الدولة في المجتمع الحديث هي التي تتدخل كي تحل هذه المشكلات الرأسمالية من خلال تنظيمها للسوق، وهو ما تبلور في أفكار الاقتصاد السياسي في ثلاثينات القرن العشرين التي كانت أهمها أفكار البريطاني كينز. أي أنه في النهاية بات التحوّل إلى الاشتراكية الذي بدت النظرية النقدية في بدايتها مؤمنة به مستحيلا، بل درب من دروب الوهم.

وقد تساءل هربرت ماركيوز حول عدم حدوث التغيير الاجتماعي الاشتراكي في دول أوروبا بالرغم من أن التطورات التكنولوجية قد وصلت إلى الحدّ الذي يمكنها من حدوث الثورة الاجتماعية وفقا للمنطق الماركسي المتعلق بالعلاقة بين وسائل الإنتاج وعلاقاته، إلّا أنه اكتشف أن التغيير لم يحدث لأن الطبقة العمالية قد أُدمجت كليًا بالنظام الرأسمالي؛ ولهذا لم تعد تلك الطبقة ثورية، وليست على وعي بدورها التاريخي.

بهذا المأزق النظري التشاؤمي قد ترك الجيل الأول من النظرية النقدية الأساس التنظيري لتحقيق الانعتاق في الغرب في طريق مسدود، بل عمد هذا الجيل إلى نقد الحداثة والعقلانية الأوروبية كما فعل أدورنو وهوركهايمر في كتابهما “ديالكتيك التنوير”.

وقد رأى يورجن هابرماس – الذي يمثل نقطة التحوّل من الجيل الأول إلى الثاني في النظرية النقدية – أنّ الجيل الأول قد أخفق في تأسيس تأصيل نظري لتغيير المجتمع؛ لأنهم اعتمدوا على الماركسية ذاتها!؛ لأنّ صاحبها ماركس لم يهتم بالممارسة الاجتماعية بقدر اهتمامه بالنظرية؛ لأنه – أي ماركس – أعتقد أنّ التحوّل إلى الشيوعية سيتم بشكل حتمي بسبب التطور التصاعدي لوسائل الإنتاج الذي سيغير بالضرورة علاقات الإنتاج، أي كأن التحول للشيوعية سينبثق من الترتيب المنطقي للنظرية الوضعية التي تستمد منطقها من المقولات الاقتصادية وفلسفة التاريخ، وليس من الممارسة الواقعية في المجتمع. وهذا ما قد يفسّر سلطوية الأحزاب الاشتراكية التي حكمت العديد من البلدان؛ لأنها لم تفكّر بمنطق كيف نصل إلى الشيوعية من خلال تنمية وعي الطبقة العاملة، بل بمنطق ما دمنا حتمًا سنصل؛ فعليكم أن تتبعونا!

وقد أعاد هابرماس تأسيس النظرية النقدية بعيدًا عن فلسفة الوعي الهيجيلية التي تأثّر بها ماركس، والتي نظر لها هابرماس على أنها مصدرًا للمأزق النظري عند الجيل الأول من رواد النظرية؛ لأنها جعلتهم ينظرون للمجتمع على أنه مجتمع مغترب، غير قادر على إيجاد مناطق توافق عقلانية بين أفراده بفعل الاستغلال الاجتماعي. بينما هابرماس قد وجد في فلسفة اللغة هذه المنطقة العقلانية التوافقية الذي شرع في البحث عنها، فقد نظر هابرماس إلى الفعل التواصلي على أنه فعل غير مغترب لأنه يعبر عن اتفاق عقلاني بين البشر، وهذا الفعل التواصلي يُمارس في مساحات من الحرية والمشاركة، أي في المجال العام. وهذا الفعل هو الذي يضمن للمجتمعات التقدّم والحفاظ على الديمقراطية والرخاء. وقد حوّلت هذه العدة المفاهيمية التداولية لهبرماس المفاهيم الأساسية في النظرية النقدية من الصراع والثورة والاستغلال الاجتماعي إلى الديمقراطية والتوافق والمجال العام.

وبهذا يكون قد حرّر هابرماس النظرية النقدية من سطوة الفهم الهيجيلي والماركسي للواقع، وحاول تأصيل ركائزها على أساس نظريته التواصلية التي حاولت إنقاذ الحداثة بالتنقيب عن أفضل ما فيها واعتبارها مشروع لم يكتمل – وفقًا لسجاله مع ما بعد الحداثيين -، يمكن السير إليه من خلال الحفاظ على العقلانية والتواصل والديمقراطية والمجال العام، ليظهر بذلك جدار النظرية النقدية خالٍ من صورة، يدل أثر ترابها أنها كانت أضخم صورة على الجدار!

إعلان

اترك تعليقا