الدين والاقتصاد.. كيف تُغيّر الأفكَار الدينية الاقتصاد السياسي؟
كيف تُغيّر الأفكَار الدينية الاقتصاد السياسي
الدين والاقتصاد: كثيرًا ما يعتقد الإنسان العادي وفق تأثير الحِسّ المشترك، أو الباحث المُؤدلج المتأثر بنظريات عدائيّة حول الدين، أنّ الدين مُجرد تأملات لاهوتيّة تعالج ماوارئيات ميتافزيقية، تقترح إجاباتٍ ما على تساؤلات كبرى، أهمها حياة ما بعد الموت، ومصير الإنسان الغامض في حياة مرتبكة أقل ما يقال عنها أنَّها ورطة الإنسان الكبرى.
وعندما نتناول هنا موضوع الدين، فإننا لا نقصد الدين المنحصر في التوجيهات والأوامر الإلهية كما هو لدى الديانات الإبراهيمية. فالديانات الإبراهيمية الثلاث تقوم على تقديم وجهة نظر الله (الخالق الحصري) حول وظيفة الإنسان وتنظيم الحياة والمجتمع، وطبيعة المآلات والنهايات. بل نقصد بالدين مجمل التراكمات التي طوّرها الإنسان في إطار نشاطه الروحي والوجداني.
وطبعًا، هذا يدخل في صميم الدين، بل في جوهر وظائفه الاجتماعية والثقافية والتنظيمية للحياة. لكن هذا لا يعني أن ليس هناك أبعاد أخرى خفيّة تجعل الدين والأفكار الدينية أحد المحركات الأساسية للتاريخ البشري مند عصر تأريخه الأول قبل سبعة آلاف سنة من الآن.
عندما نتأمل التاريخ المصري القديم باعتباره أبرز محطّة في صيرورة الحضارة الإنسانية، وقد كانت قنطرة انتقالية ما بين العصر النيوليثي أو الثورة الزراعية وحضارة بلاد الرافدين مهد الحضارة البشرية وحضارات عصر ما بعد الميلاد؛ نجد أن الأفكار الدينية كانت هي المحرك الرئيسي لخط الحضارة المصرية القديمة. فعلى مدار مئات السنين طوَّر المصريون القدماء فكرة الحياة ما بعد الموت، هذه الفكرة الثورية في الميثولوجيا المصرية كان لها أثر قوي على أرض الواقع. وبسببها سعى حكام مصر إلى بناء المقابر والأهرامات والمسلّات بكل تلك العظمة والدقة والإبداع، مما ولد رغبة بشرية عارمة في تطوير علوم الفلك والهندسة والبناء والكيمياء، بل وفي تحدي الطبيعة نفسها، وقصد تجاوزها والوصول إلى الحقائق المطلقة.
ففي الوقت الذي سعى المصري القديم إلى ضمان الخلود الأخروي ومجاورة الأرواح الخالدة عبر التحنيط ورفاة المقابر، كان بلا شعور منه يؤسس لخلوده الدنيوي الراسخ، عبر إرساء دعائم حضارة بديعة لازالت لم تكشف عن أسرارها إلى اليوم.
بل لو أردنا فهم حضارة مصر القديمة فيجب علينا أولًا وقبل أي شيء، فهم المعتقدات الدينية والفلسفات الإلهية التي كانت تشكّل وجدان وكيان المصري القديم بدئًا من الملك “الفرعون” حتى الراعي أو الزارع الذي يحرث أرضه في شق النهار.[1] فالدين بالفعل كان القوة المسيطرة على المصري القديم وحتى أدبه وفنه وقصصه كلها بالتقريب قد استُمِدت من الدين والآلهة.
لقد أكدت الاكتشافات الجديدة، ومنها دفتر من ورق البردى، يوثق أنشطة رئيس عمال مصري اسمه “ميرير” مع العمال الذين بنوا الأهرامات، أن أهمية الأهرامات تتجاوز مجرد كونها إنجازًا هندسيًّا؛ إذ اتضح أن العمال الذين بنوها لم تقتصر خبرتهم على جر الكتل الحجرية، بل كانوا نخبة متميزة من القوى العاملة ونخبة عمالية تمتلك فنون الملاحة إلى جانب العمارة.
إن تطور نظام العمل بالإضافة إلى شبكات التجارة المتقدمة للغاية -والتي لم يكن بناء الأهرامات ممكنًا من دونها- كان له دور أكبر من مجرد تسهيل بناء مقبرة ضخمة، بل أدى إلى تمهيد الطريق لعدة قرون من الازدهار المصري، وكذلك تغيير مستقبل الحضارة البشرية بشكل مطلق.
وظيفة الدين في النسق الاقتصادي أكدها علماء الاقتصاد والاجتماع المعاصرين، ففي كتابه “ثروة الأمم” يجادل آدم سميث في كون الانتماء إلى طائفة دينية يحتمل توفير العديد من الفوائد الاقتصادية لأعضائها، فالانتماء إلى طائفة “جيدة” ومؤثرة يقلل من المخاطر المتوقعة من قبل أرباب العمل والمقرضين والعملاء، ويمكِّن من سهولة المعاملات بينهم، مما يسمح بالمعاملات في إطار الثقة.
للسوسيولوجي الألماني ماكس فيبر 1864 / 1920 أطروحة مهمة في هذا الاتجاه، موسومة بالأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، حيث سعى إلى فهم لماذا يهيمن المعتنقون للديانة البروتستانتية على طبقة رجال الأعمال وأصحاب الحيازات الرأسمالية، والتجاريين والتقنيين ذوي الثقافة الرفيعة، وكذلك ممثلي الشرائح العليا المصنّفة من اليد العاملة. وأكد أن الإصلاح الديني في أوروبا الغربية، خصوصًا في شكله الكالفاني خلق ثورة في أنظمة الاعتقاد وبالتالي في طبيعة النظرة إلى الكون The world view.
“Weber” برهن على وجود علاقة بين التدين وبخاصة الروح الأخلاقية في المذهب الكالفاني، والجوانب الاقتصادية والعمل في المجتمع. وكان فيبر يحاجج أن العقيدة القدرية الكالفينية التي كانت تعني أنّه ليس بإمكان المرء أن يعلم مكانته عند ربه إن كان من الناجين أو من الهالكين في الدار الآخرة، أدت إلى الشعور بعدم الأمان الداخلي لدى أتباع هذه العقيدة التي كانت تملأهم الخشية من العذاب الأبدي في الجحيم. وشملت ردّة فعلهم في السعي إلى النجاح في الحياة الدنيا معتبرين أن النجاح هو مؤشر لرضى الله.
وقد عاد ماكس فيبر إلى الترات الشعبي القديم ليفسر تأثير المعتقدات على المسلكيات، فالحكمة الشعبية تقول إما تأكل جيدًا أو تنام جيدًا. وبينما الكاثوليكي أكثر هدوءًا ومحبًا للكسل ويفضل الحياة الآمنة، نجد البروتستانتي يحب حياة الإثارة والمجازفة التي توفر الثروة والأمجاد.
وفي الحالة الإسلامية، هناك ارتباط وثيق ما بين الدين والاقتصاد منذ مرحلة الإسلام المبكر، فالاقتصاد القائم على الغزو بلغة محمد عابد الجابري كان السمة البارزة للاقتصاد السياسي للدولة الاسلامية وفق رؤية الجهاد. بالإضافة إلى الركن الخامس من الإسلام؛ أي الحج الذي يعد منذ مرحلة ما قبل الاسلام إلى اليوم أكبر تجمع اقتصادي دوري في المنطقة.
تأثير الدين في الاقتصاد، أو تحوُّل الدين لموضوع اقتصادي هو جوهر أطروحة الباحث السويسري باتريك هايني. فقد سلَّط الضوء على حالة جديدة يهيمن عليها هاجس التطبيع الهويّاتي والاندماج في الفضاء العالمي، ومحاولات واضحة للتوافق مع النماذج العولمية الغربية.
لقد فسر باتريك كيف بات نوع من الدعاة الإسلاميين الجدد يبحثون عن الخلاص الفردي وتحقيق الذات والسعي خلف النجاح الاقتصادي متجاوزين حتمًا طموحات الإسلام السياسي في الوصول إلى السلطة، أو الاهتمام بمسألة الإصلاح الاجتماعي.
إنَّ سمات هذا الجيل الجديد من “إسلاميي السوق” نتج –كما يرى الكاتب- عن ثلاثة ظواهر:
- تجاوز “النزعة الإسلاموية” أي بلورة تديّن جديد، ينتمي إلى العالم المعاصر، يتمحور حول أخلاق الفرد وروحانياته، خالٍ من الدسم السياسي.
- تديّن تحركه قوى السوق: بإدخال مكونات الصداقة بين عالم الدين وعالم المال.
- إعادة تسييس الدين على أسس النيوليبرالية.[2]
إن الدين ليس مجرد اعتقادات وطقوس وممارسات روتينية تحاول التواصل مع العالم الآخر، بل بالعكس تمامًا: هو رؤية عملية إجرائية لمحاولة الإنسان إعطاء معنى للحياة والظواهر، إنّه جوهر النظام الاجتماعي، وهذا ما حدا بالباحث السوري في علم الأديان فراس السواح إلى اعتبار الإنسان كائنًا متدينًا بطبعه.
المصادر [1] الديانة مصرية القديمة، ياروسلاف تشرني ترجمة الدكتور احمد قدري، الديانة المصرية القديمة. دار الشروق للنشر. 1996 [2] / أسماء الشرباتي ، مراجعة كتاب إسلام السوق، باتريك هايتي، ترجمة عومرية سلطاني، مركز برق للدراسات والأبحاث .