التّناصّ في قصيدة “الجداريّة” لمحمود درويش
مقدّمة:
يعتبر الشّاعر الفلسطيني محمود درويش (1941-2008)، أحد أبرز من أسهم في تطوير الشّعر العربي الحديث وأدخل عليه الرّمزية، كما له دواوين شعريّة مليئة بالمضامين الحداثيّة. ولد الشّاعر في قرية البروة الّتي تقع في الجليل قرب ساحل عكّا. خرجت أسرته برفقة اللّاجئين الفلسطينيّين في عام 1948 إلى لبنان، ثمّ عادت متسلّلة عام 1949 بعد توقيع اتّفاقيّات الهدنة.
انتسب في البدء إلى الحزب الشّيوعي الإسرائيليّ، وعمل في صحافة الحزب وأصبح فيما بعد مشرفًا على تحريرها، كما اشترك في تحرير جريدة الفجر. لكن لأنّه كان مهمومًا بقضيّة وطنه، قامت السّلطات الإسرائيليّة باعتقاله مرارًا منذ العام 1961، بتهم تتعلّق بتصريحاته ونشاطه السّياسيّ، وذلك حتى عام 1972، حيث توجّه إلى الاتّحاد السّوفييتي للدّراسة.
لجأ بعدها إلى القاهرة، حيث التحق بمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة، ثمّ انتقل الى لبنان وعمل في مؤسّسات النّشر والدّراسات التّابعة للمنظّمة نفسها، كما أصبح مديرًا لمركز أبحاثها، عِلمًا أنّه استقال من لجنتها التّنفيذيّة احتجاجًا على اتّفاقيّة أوسلو. تقلّد الشّاعر العديد من المناصب، منها منصب رئيس رابطة الكتّاب والصّحفيّين الفلسطينيّين، ومحرِّرٍ في مجلّة الكرمل الّتي أسّسها عام 1981، ثمّ عمل رئيسًا لتحرير مجلّة شؤون فلسطينيّة.
تعريف التّناصّ
ظهر مصطلح التّناصّ في حقل النّقد العربيّ الحديث بعدّة صياغات وترجمات: التّناصّ، التّناصّيّة، النّصوصيّة، تداخل النّصوص، تعالُق النّصوص، النّصّ الغائب، العبرنصّيّة، النّصوص المُهاجِرة… إذ أنّ التّناصّ يعود إلى المصطلح الفرنسيّ Intertexte الّذي يعني نسجًا أو حَبْكًا. كما يشي بوجود تفاعُل أو تشارك بين نصّين باستفادة أحدهما من الآخر، وقد تتّضح عمليّة التّداخل هذه، بالوقوف على تعريف النّصّ الّذي تقوم عليه عمليّة التّناصّ، لهذا نقول إنّ النّصّ بنية ضمن بنية نصّيّة منتجة. فالشّاعر الحداثيّ ينهل من نهرٍ معرفيٍّ يختلط فيه: العلميّ بالخرافيّ، والتّاريخيّ، والأسطوريّ، والدّينيّ، والصّوفيّ…
تتمّ دراسة التّناصّ من خلال قوانينه الثّلاثة:
– الاجترار: أي الاكتفاء بإعادة النّصّ كما هو أو بإجراء تعديل طفيف لا يمسّ جوهره.
– الامتصاص: أي التّعامل مع النّصّ المتناصّ تعاملًا حركيًّا تحويليًّا، فلا يُجمَّد ولا يُنفى ولا يُنقل، بل تُعاد صياغته وفق المتطلّبات الفكريّة والتّاريخيّة والجماليّة الرّاهنة.
– التّحوير: أي تغيير النّصّ المتناصّ عن طريق القلب والتّحويل إلى حدّ تغييبه، ممّا يسبّب غموضًا يقترب من مفهوم الجدليّة الفكريّة.
أنواع التّناصّ في القصيدة
بعد قراءتنا الأولى لقصيدة محمود درويش “الجداريّة”، نلحظ معانيها السّطحيّة، ويتخيّل إلينا أنّ الشّاعر يصف الموت الجسديّ إمّا الخاصّ به، إمّا بشعبه، وأنّه اتّخذ أنكيدو رمزًا لصديقٍ قريبٍ له توفّي، أو لوطنه فلسطين الّذي سُلِبَ منه، أم لقضيّة التّحرير الّتي اندثرت إثر موت ثُوّارها.
لكن بعد التّعمّق، نكتشف ثانويّة هذه المعاني، فنعود إلى نقطة الانطلاق لنسأل: مَن هو أنكيدو؟ وكيف أسهم التّناصّ في التّعريف به وترسيخ دلالته الرّئيسيّة؟
تناصّ دينيّ:
– “التّكوين” (سفر التّكوين)، خلق اللّه الكون من العدم وأكمله على أتمّ وجهٍ في سبعة أيّامٍ، وهنا الشّاعر مخلوق كامل التّكوين في الظّاهر، لكنّه من الدّاخل عدمٌ وخواءٌ لا قيمة له.
– “جرّة الماء الصّغيرة” و”حكيم على حافّة البئر” (لقاء المسيح بالمرأة السّامريّة عند البئر، تحمل جرّتها لتعبّئ الماء)، أرادت المرأة أن تشرب من الماء الحسّيّ المؤقّت، لكنّ المسيح وعدها بماء الحياة الأبديّة الّتي لا تنضب، فتحوّل بذلك رمزًا للحياة والأمل في الوصول إلى الخلود. أمّا الشّاعر هنا فمكسورٌ، كسره غياب الماء في جرّته، غياب الأمل ولو ضئيلًا في جسده الفارغ، فتعذّر عليه تحقيق مُراده.
– “بئر جفّ فيها الماء” (البئر الّذي رُمي فيه يوسف)، وظيفة البئر في العادة احتواء الماء لتلبية العطشى، فإذا جفّ مات النّاس والحيوانات والزّرع. وفي قصّة يوسف جاء البئر رمزًا للموت والاستقصاء وغياب الأمل في النّجاة. أمّا في القصيدة فالبئر قلب الشّاعر المهجور من الماء، الّذي كما ذكرنا سابقًا رمز الحياة الأبديّة والأمل، وهنا كلّ إحساسٍ ليصبح عدمًا خَدِرًا، لا يُسمَع من صراخه غير الصّدى المُرتدّ في الخَواء، يستنجد به أنكيدو، يطالبه بالقدوم إليه، بإعطائه إشاراتٍ حسّيّةً لحُلولِه الملموس، إذ خياله لم يعد يكفيه ليحيا أي وهمه بوجود الأمل، واختراعه الدّائم له، ليس وسيلةً ليكمل رحلته بعد الآن، يقصد بها رحلة العيش ببساطة أم الدّفاع عن القضيّة الفلسطينيّة.
– “ملح الدّمع” (قصّة سَدوم وعَمورة في العهد القديم حيث تحوّلت امرأة لوط إلى تمثالٍ من ملح بعدما عصت أمر اللّه بعدم النّظر إلى الوراء)، كما أثبتت دراسة علميّة ملوحة الدّمع فقط عند الحزن. في القصيدة، استخدم الشّاعر هذا التّناصّ للدّلالة على العصيان والتّحدّي الّذي أوصله إلى العقاب، أي أنّه تحدّى ظروفه مُستنجِدًا بالأمل على الرّغم من القدر الجائر والموت الحتميّ، فصقل أسلحته وهي قدراته العقليّة كما الجسديّة، لكنّ ذلك لم يكن سهلًا، لم يأتِ من دون ثمنٍ، بل حصل من خلال التّجارب القاسية، وكانت نتيجته الحزن واليأس والأسى والتّعب إلى حدّ البكاء، إلى حدّ أن يسأل نفسه أهو الميت لا يشعر بالأمل من حوله ويرى الدّنيا بسوداويّةٍ تامّة؟ أم هو الأمل الّذي مات ولهذا السّبب لا يجده في أيّ مكانٍ أو زمانٍ؟
– “قبض الرّيح” و”كلّ شيءٍ باطل” و”باطل، باطل الأباطيل باطل كلّ شيءٍ على البسيطة زائل” و”كلّ شيءٍ باطل أو زائل، أو زائل أو باطل” (“رأيتُ كلّ شيءٍ صُنِع تحت الشّمس، فإذا هو باطلٌ وقبض ريح”، “كلام الحكيم ابن داود ملك أورشليم. باطل الأباطيل يقول الحكيم، باطل الأباطيل، كلّ شيءٍ باطل.” من سفر الجامعة، كتاب العهد القديم)، من المستحيلات القبض على الرّيح كما يستحيل وجود الآلهة في حياة الشّاعر، إذ هي القادرة على كلّ شيء فإن وُجِدَت لن تسمح بهذا الواقع الجائر، لن تترك البؤس بين البشر. والإنسان يضع ثقته وإيمانه بالآلهة لتُنجده، أمّا هنا فمن العبث الأمل في مساعدتها. كلّ شيءٍ باطلٌ وزائلٌ، هو اليأس الكُلّيّ، الحياة عبثيّة، لا هدف منها بكلّ مكوّناتها وتضادّاتها: حزن/فرح، موت/خلود، خطيئة/طُهُر، الخِذلان/الأمل، العَداوة/الصّداقة، الحكمة/الغباء، الشّيخوخة/الفُتوّة، الوهم/الحقيقة، العُسْر/اليُسْر…
– “نحفظ الأسماء” (من القرآن عندما علّم اللّه آدم أسماء كلّ الأشياء والمخلوقات)، وهي دلالة على الطّاعة وسرعة الاستيعاب، وهنا يريد بها مدح شعب فلسطين الّذي يعتبره من النُّخبة المَحظِيّة عند اللّه، والّتي تستحقّ التّساوي معه في القيمة، وتستأهل العيش بسلامٍ وأمانٍ.
– “شجر النّخيل” (سورة مريم في القرآن وهي الظّلّ والقوت والرّاحة)، رمزها الحياة كما كانت الأمل بعد مسيرةٍ طويلةٍ شاقّةٍ في الصّحراء كانت لتكون نتيجتها موت مريم وطفلها من العطش والجوع والتّعب والحَرّ لولا وجود هذه الشّجرة. هنا يَتَّصِف الشّاعر بالإصرار على حمل الأمل أينما ذهب، بقدر ما تسمح له إرادته الضّعيفة كما اكتشفنا، فهو يائسٌ يؤمن بالعدم ويعود ليتجلّى لنا ذلك في غياب الظّلّ جرّاء انكسار الجذوع، إنّما يحدّد جذوع الأمل لا جذوره، وذلك يمنح الشّاعر كما القارئ احتمال إعادة تكوين هذا الأمل وانتشار ظلّه على الشّعب الفلسطينيّ.
– “وأنت تنام هل تدري بأنّك نائم؟ فانهض.. كفى نومًا!” و”الحكماء حولي كالثّعالب” (تناصّ مع الإنجيل عندما أقام الفتاة الصّغيرة من الموت فقال لأهلها إنّها نائمة وأمرها “قومي”)، الأمل عند الشّاعر نائمٌ ميتٌ، لكنّه لا يزال يطالب بأعجوبةٍ تُحييه قبل أن يأتي الحكماء وهم الفرّيسيّون والكتبة حول المسيح يزرعون الشّكّ في النّفوس والخوف في العقول، فيعدمون الأمل قبل ولادته بقولهم إنّ كلّ شيءٍ باطل.
– “نشيد الأناشيد” و”مَلِك” (للملك سليمان، في التّوراة والعهد القديم. اتّصف بالحكمة في القرآن والعهد الجديد)، استخدم هذا التّناصّ ليظهر التّناقض والصّراع في وجدانه، بين الفرح والاحتفال بالحياة واليأس والإيمان بالعدم، بين الشّاعر والملك أي بين الخيال الجامح والحكمة والواقع، يجتمع الطّرفان في الشّاعر فلا يدري من سيربح الجِدال وفي أيّة لحظةٍ.
– “غيمة في يدي” (“وفي المرّة السّابعة قال: هوذا غيمةٌ صغيرةٌ قدر كفّ إنسانٍ صاعدةٌ من البحر. فقال: اصعد قل لأخآب: اشدد وانزل لئلّا يمنعك المطر.” إيليّا وغلامه، سفر الملوك الأوّل 18:44)، هذه القصّة رمزٌ للصّبر والثّقة باللّه، لكنّ الشّاعر لا يحمل تلك الغيمة الّتي تمثّل الإنذار بقدوم المطر وهو الأمل والانتعاش والحياة.
-“أحد عشر كوكبًا” ( قصّة يوسف، عندما حلَم أنّ هذه الكواكب تسجد له)، هذا التّناصّ رمز العظمة والدّور الجوهريّ ليوسف في تغيير مسار الأحداث وخلاص مصر. لكنّ الشّاعر هنا ليس عظيمًا ولا يملك أيّة قدرة على تغيير مصير فلسطين وشعبها.
تناصّ أسطوريّ:
– “أنكيدو” (صديق غلغامش)، احتمل الوجهين في الأسطورة فكان العدوّ والصّديق، كما اتّخذ رمز الخضوع للقدر وحتميّة الموت. لكنّه هنا هويّة، هو العنصر الأساسيّ، محور كلام محمود درويش، سبب الفرح والحياة، إنّما بشكلٍ خاصٍّ سبب يأسه ودموعه وموته. نام أنكيدو/نام الأمل، مات الأمل ولن ينهض.
– “ريشه الطّينيّ” (السفينكس الإغريقيّ الذّي كان يُحفر على الأواني الفخّاريّة والمعدنيّة وعلى المعابد رمز للحماية، وكانت وظيفته الأحاجي ومن لا يعرف جوابها يلقى الموت)، شبّه الشّاعر الأمل بالجناح فهو الوحيد الّذي يمنحنا القوّة والعزم والرّؤيا لتحقيق أهدافنا والتّطلّع بثقة نحو مستقبلٍ باهرٍ شبه أسطوريّ، شبه مستحيل، صعب المنال. وظيفة الأمل أن يحمينا من اليأس، أي من الواقع المرير وحقيقة محدوديّة قدراتنا البشريّة في الوصول إلى تخيّلاتنا، كما أنّه أحجية، لغزٌ عميقٌ لا ندري جوابه، والسّؤال كالتّالي: أهو موجودٌ بمعزِلٍ عن الطّبيعة البشريّة، أم هو وليدها؟ أيغرف منه الإنسان خارج نفسه ليحيا، أم هو يصنعه في نفسه وَهمًا لتجنّب موتها؟ أمّا الرّيش الطّينيّ فيعود إلى الجرّة الّتي تُغَلِّف الجثّة، هو الكَفَن أي جسد الشّاعر الميت بعد زوال الأمل.
– “المساواة القليلة بين آلهة السّماء وبيننا” (أسطورة غلغامش وكلّ الأساطير الإغريقيّة)، المُساواة بالقدرات العقليّة والجسديّة، المساواة بالخلود، المساواة في التّحكّم بالمصائر والأقدار، المساواة في الحياة الرّغيدة. هذه كلّها تنقص البشر، وبخاصّةٍ الشّعب الفلسطينيّ المُهجَّر، الميت، العَليل، الفقير، الجائع، الحزين، المظلوم، المَسلوب الإرادة، يطالب له غلغامش وهو محمود درويش، بالعدل ويناضل ليُعيد إليه أرضه وكرامة العيش. لكن هذا لن يُحقّقه إلّا الأمل الطّائش، أي الأمل الّذي يُعمي المنطق ويَدثر الحقائق المؤدّية إلى الاستسلام.
– “أحمل الدّنيا على كتفيّ” (أسطورة هندوسيّة تقول بأنّ السّلحفاة هي أساس الكون، تحمل على ظهرها أربعة فيلة، يحملون بدورهم الكرة الأرضيّة. السّلحفاة، تقمّس الإله فيشنو الّذي يعود بعد الفيضان الكبير المُذيب للأرض كلّ أربعة بِليون سنة، تحمل على ظهرها جبل ماندارا الّذي من خلاله يعيد فيشنو تكوين الأرض)، السّلحفاة وهي تقمّص الإله وتحمل العالم على ظهرها، تُساوي الشّاعر لتجعله هو الآخر تقمّصًا للإله يحمل هموم الدّنيا على كتفيه، أمّا جبل ماندارا وهو جزءٌ صغيرٌ من كوكب الأرض فيمثّل الأمل وهو جزءٌ صغيرٌ من نفس الإنسان أو الشّاعر، يسمح له بخلق الأرض من جديد أي الوقوف بعد الكَبْوة، الإصلاح بعد الدّمار الشّامل، إعادة بناء ذاته من الصّفر على الرّغم من كلّ العقبات. هنا خذله الأمل في اللّحظة الحاسِمة، على باب المَتاه، في حال الضّياع واشتداد الصّعاب، اختفى وتركه وحيدًا يُصارع من دون جدوى، من دون مادّةٍ لإعادة الإعمار الحسّيّ والمُجَرَّد.
– “ثورًا هائجًا” (الوحش حارس الأرز في أسطورة غلغامش)، هو العقبة الّتي أرسلتها الآلهة للتّغلّب على غلغامش لكنّها لم تنجح في مخطّطها بسبب مساعدة أنكيدو، أمّا هنا فقد نجح ثَور اليأس والحرب والموت في إخضاع الشّاعر، لعُزْلته من سلاح الأمل.
– “أبديّتي” (نبتة الخلود في أسطورة غلغامش)، كانت نبتة الخلود أمل غلغامش الأخير في إعادة إحياء صديقه أنكيدو، كما الشّاعر هنا هائمٌ في العدم يبحث عن بصيص أملٍ يساعده على إحياء وطنه.
– “اللّغز” (الموت بالنّسبة إلى غلغامش)، دلالته في القصيدة جهل مصير الشّاعر الفرد، ومصير شعبه، ومصير وطنه. فالسّؤال الّذي لا إجابة عليه هو: أتتحرّر فلسطين ويعود أهلها سالمين يعمرون فيها الحياة أم تبقى مُحتلّةً ومواطنوها مشرّدين من دون هويّة؟
– “قمّة الإنسان هاوية” (أسطورة إيكاروس الّذي لم يرضَ بالعبوديّة فصنع لنفسه أجنحةً من ريشٍ وشمعٍ وطار قريبًا جدًّا من الشّمس فذاب الشّمع وسقط ميتًا في البحر / أو أسطورة بابل الّتي تحدّى فيها البشر الآلهة وأرادوا الوصول إلى الجنّة فوضعوا ثقتهم العمياء بأدواتهم الأرضيّة وتفاخروا واغترّوا بقدراتهم ما أدّى إلى هلاكهم / أو أسطورة غلغامش الّتي تحدّى فيها أنكيدو الآلهة فعاقبوه بالموت)، تتلخّص دلالاتها بالانقلاب وتحدّي جور القدر، كما تتّصف بتغذية الخيال والأمل الوهميّ بالوصول إلى مبتغاهم. إيكاروس أمِل بالحرّيّة، سكّان بابل أمِلوا بالوصول إلى الجنّة، غلغامش أمِل بالخلود، أمّا الشّاعر فأمِل باستعادة أرضه وأهله، لكنّهم جميعًا فشلوا فشلًا ذريعًا.
– “قاومت فيك الوحش” (أسطورة غلغامش إذ كان أنكيدو يعيش في الغابة مع وكالحيوانات البرّيّة)، رمز الطّبيعة البدائيّة النّقيّة للإنسان، وهنا أعطى هذه الصّفة للأمل، إذ مقاومته له بالتّفكير المنطقيّ وتحليل الواقع أفقده نقاءه وجنونه الصّافي من شوائب الحقيقة، ممّا أوصله إلى حالة اليأس والخواء الّتي أتلفته.
– “امرأة سقتك حليبها” (أسطورة غلغامش، المرأة العاهرة الّتي أرسلها إلى أنكيدو لتغويه فيمارس معها الجنس ويضعف فيصبح سهلًا عليه هزيمته)، يتآخى هذا التّناص مع سَدوم وعَمورة في مبدأ الخطيئة (ممارسة الفحش، والفساد الأخلاقيّ) الّتي تبعد الفرد عن هدفه الرّئيسيّ، أمّا في القصيدة فاصطدام الأمل بالتّركيبة الكونيّة الفاسدة، قتله وأحلّ محلّه القُنوط والإحباط.
– “فمن سأسأل عن عبور النّهر؟” (أسطورة غلغامش، إذ أنّه يسأل سيدوري فتاة الحانة عن كيفيّة عبور بحر الموت فتدلّه على أورشانابي وهو الخبير فيأخذه في مركبه ويعبران البحر دون أذًى) يرمز عبور النّهر إلى الانتقال من الحياة إلى الموت، وبالنّسبة إلى الشّاعر أصبح عبورًا من فلسطين المُحتلّة إلى فلسطين المُستقلّة، من العبوديّة إلى الحرّيّة، من الظّلم إلى المساواة، من الحرب إلى السِّلِم، من البؤس إلى الحياة الكريمة. لكنّ غلغامش وجد من يسأله عن هذا العبور، وجد من يساعده على تخطّي المِحَن، أمّا الشّاعر فلم يجد من يسهّل له هذا العبور الّذي يراه مُستحيلًا.
– “دم العشب المقطّر” (أسطورة “مِرْدُوْخ” البابليّة، قتل شيطانة الفوضى “تِيامات” وقطّعها فأصبح رأسها السّماء وجسمها الأرض ودمها الأنهار والبحار)، رمز الاتّحاد مع الطّبيعة والرّجوع إلى التّراب إلى الأصل. إنّما هنا جاءت بمعنى الحرب ففيها تحلّ الفوضى العارمة والقتل التّعسّفيّ، وتسيل الدّماء فوق الأرض ويعود الجسم إلى أصوله الطّينيّة التّرابيّة، والدّم مُقطّر لأنّه طاهرٌ، دم شهداء الوطن صافٍ. تملأ الحرب الحياة، والحياة بُرهة تنتهي بلمح البصر لا نشعر بسَيَلان أيّامها، لذلك يجب التّمتّع بها حتّى في العُقُم، فالحَبل بالجنين أملٌ بالحياة الجديدة أمّا الحبل بالسّائل الفارغ فهو وَهْمٌ وعُقْمٌ وموت.
تناصّ ثقافيّ:
– “هباء” (ت.س. إليوت “الأرض اليباب”)، في قصيدة إليوت أرضٌ خالية خاوية، دمارٌ مُدقِعٌ مادّيّ ومعنويّ لأوروبّا، أمّا هنا فيثبت لنا ذلك التّناصّ الدّينيّ المذكور سابقًا أي عدميّة الشّاعر النّفسيّة والرّوحيّة، ليس في ماضي تكوينه فحسب بل في حاضره المَعيشيّ.
– “جرّة الماء الصّغيرة” (يدفن الإغريق فيها موتاهم)، كان النّاس في العهود القديمة يضعون موتاهم من أطفالٍ وكبارٍ في أجرارٍ طينيّةٍ يدفنونها تحت الأرض، وقد أثبتت ذلك التّنقيبات الأثريّة الّتي استخرجت تلك الأجرار ووضعتها في المتحف الوطنيّ. وهنا تعزّز تلك العادة التّناصّ الدّينيّ فتثبت موت الشّاعر من الدّاخل، أي موت الأمل فيه، وتحوّل جسده إلى مدفنٍ، فالإنسان من التّراب كما الطّين.
– “عصًا خشبيّة” (عكّاز المرضى والمسنّين)، يشبّه ذراعه اليمنى أي جناحه أي أنكيدو أي الأمل بالعكّاز، فهو مريض، عليل، ضعيف، عاجزٌ عن العيش والتّصرّف بحرّيّةٍ كسابق عهده، إذ هو مُسِنٌّ نفسًا وجسدًا، مَغلوبٌ على أمره، لا عون له، إلّا المحاولة الجاهدة للحفاظ على قليل الأمل، فهو لا يملك سواه مُتَّكأً لإكمال مسيرته الشّاقّة.
– “شقيق المِلح” (عادة عربيّة تُسمّى المُمالَحة أي عندما يصبح الصّديق شقيقًا بالرّوح)، تتّصل اتّصالًا وثيقًا بـ”ملح الدّمع” فكما أنّ ارتباط غلغامش وأنكيدو كان أقرب إلى الإخاء منه إلى الصّداقة، كذلك العلاقة بين الشّاعر والأمل، فقد عاشا معًا وقتًا طويلًا، وتحمّلا معًا المشقّات، وتشاركا في الحزن، إذ حزن الأمل يأسٌ يتجلّى دمعًا شديد الملوحة. والشّاعر يأمر الأمل بالنّهوض من الموت ليحمله، فهو أصبح مُسِنًّا مريضًا يعوّل على العكّاز للتّنقّل.
– “عش ليومك لا لحلمك كلّ شيءٍ زائل فاحذر غدًا وعش الحياة الآن” ( قول علي بن أبي طالب: إعمل ليومك كأنّك تموت غدًا واعمل لغدك كأنّك تعيش أبدًا)، يكمل الحكماء الثّعالب كلامهم بتأكيد ضرورة الاستمتاع باللّحظة وملذّاتها الأرضيّة الحسّيّة مع التّخلّي عن الأوهام بما هو أفضل. يريد الشّاعر بهذا التّناصّ أن يوقظ وينقذ شعبه من الآمال الزّائفة، ففلسطين لن تتحرّر، وهم لن يعودوا إلى موطنهم، ولن يتحلّوا بحياةٍ رغيدة طالما هم متمسّكين بالقضيّة الفلسطينيّة على أنّها خشبة الخلاص الوحيدة، فقد حان وقت بناء حياةً جديدةً من الصّفر أينما وُجِدوا وبالّتي هي أحسن.
– “فالخلود هو التّناسل في الوجود” (عن قولٍ شعبيّ: يَلِّي خَلَّفْ ما مات)، جاء هذا التّناصّ تثبيتًا لما قبله، العيش لملذّات الجسد والاستيلاد إلى ما لا نهاية فيتعاظم عوزهم وتتفاقم مشقّاتهم. هكذا يشتّت الحكماء الثّعالب أي حكّام الدّول الماكرة، أهداف الشّعوب ويحيدونها عن لعبة الفساد الكبرى العالميّة، الّتي تصبّ في مصالحهم الشّخصيّة على حساب شعوبهم المَنكوبة.
– “أحد عشر كوكبًا” (أحد عشر إلهًا إغريقيًّا)، كان لكلّ إلهٍ في القدم كوكبًا يمثّله يحفرونه على معبده، يتّخذ صفاته، يملك جبروته، فيؤثّر فلكيًّا على أحوال الطّبيعة، وشخصيّات النّاس ومصائرهم. بذلك يبيّن لنا الشّاعر الضّدّ، إذ غياب حفر تلك الكواكب على معبده ينفي كونه إله الآلهة أو الإله الأعظم، وبالتّالي عجزه التّام عن تبديل مصيره وقدر شعبه ووطنه.
خاتمة
نستخلص وباختصار، أنّ غلغامش في فقدانه صديقه أنكيدو، أصبح الشّاعر محمود درويش المُجرّد من الأمل. وتجلّت رحلة غلغامش الشّاقّة بُغية الاستحواذ على نبتة الخلود، في مسيرة الشّاعر نحو تحرير فلسطين، كما غدت مشقّة غلغامش لاكتشافه أنّ الموت قدر الجميع وأنّ الخلود لا يكون إلّا في الأعمال الّتي يُخلّفها المرء خلال حياته، متساويةً مع صراعات الشّاعر النّفسيّة بين المُثابرة والعِناد والاستسلام لحتميّة القدر، أمّا الفارق هو عدم اقتناع الشّاعر بنظريّة غلغامش إزاء الخلود المعنويّ، لينتهي به الأمر غبارًا لا قيمة له ولا جدوى من وجوده. ضاق به جسده وأبده أي روحه وغده أي استمراريّته في العيش، لأنّه عاجزٌ عن الإتيان بالخلاص للشّعب الفلسطينيّ وأرضه، تمامًا كما ضاقت الدّنيا بغلغامش بعد أن أكلت الأفعى نبتة الخلود وعجز عن تحقيق حلمه وذهب تعبه هباءً. هكذا يكون قد أوصل إلينا الشّاعر، من خلال التّناصّات المختلفة، قناعته المترسِّخة بعبثيّة الوجود وبطبيعة الأمل الوهميّة الخياليّة النّاتجة عن حالة الاستنكار ورفض الواقع الباطل.